في ذكرى رحيل فنان اليمن الكبير محمد سعد عبدالله
علي الخديريمحمد سعد عبدالله لوحات فنية متكاملة الألوان ولكل لوحة عنوان ولكل عنوان شفرة لا يفكفك رموزها ويقرؤها إلا من كان يمتلك شعور وإحساس فنان، لوحات فنية مزج فيها محمد سعد عبدالله كل الألوان ليستخلص من كل لوحة فصلاً جديداً يضيفه لمدرسته الموسيقية التي وصلت إلى مصاف ومستوى الموسيقى العربية ونجومها العمالقة في الشرق.محمد سعد عبدالله (رحمه الله) مدرسة موسيقية وفنية متكاملة الأركان والبنيان والساس المتين بناها عبر مراحل عمرية تمكن فيها أبو مشتاق من تسجيل اسمه في السجل الذهبي لتاريخ مسيرة الأغنية اليمنية بتفوق مواهبه الأدبية وطاقته الإبداعية التي توفرت لديه وأعلن عنها في وقت كانت الساحة الفنية مليئة بنجوم الغناء اليمني وفي قناعتهم أنه لا مكان للفنان الأديب محمد سعد عبدالله بينهم اعتقاداً منهم بأنه أقل إبداعاً وإن أعطيت له فرص بالظهور سيكون أقل حظاً وكانت هذه الحسابات الظاهرة خاطئة لأنها تخفي ورائها حقيقة الأسباب والدوافع التي جعلت نجوم الأغنية اليمنية في عدن خلال فترة العقد الخامس من القرن الميلادي الماضي من خلق الحجج الواهية التي شعر بأبعادها الفتى الذكي محمد سعد عبدالله الذي وهبه الله بملكات فنية متعددة لم يعلن عنها دفعة واحدة حتى لا يعطي فرصة لمن حوله لزيادة جرعات محاربتهم له وأمام ذلك اختار طريق التأني وهو طريق يضمن له السلامة والبقاء قريباً منهم وعقله مشغول كيف يشق طريقه نحو النجومية المضمونة دون استعجال وهذا ما عمله في مواجهة أعداء النجاح الذين مع مرور الوقت كشفوا عن أنفسهم وعدوانيتهم للمبدع محمد سعد عبدالله الذي كان دائماً يتحاشى الصدام معهم ولا يرد على إساءتهم له لأنه كان على قناعة بأن الغد كفيل في الرد عليهم وسيكونون أول المباركين له على نجاحه وهذا بالفعل ما حدث حتى أن البعض منهم كما حدثني المبدع الأديب محمد سعد عبدالله في حياته في دردشة جمعتني به بحضور الزميل شوقي عوض والصديق يحيى المحويتي في منزله في مدينة الشيخ عثمان بأنهم تأسفوا واعتذروا إلا أنه كما يقول لم يستغل لحظات ضعفهم ولم ينتقم منهم ولكنه يقول وبكل اعتزاز.. التزمت الصمت وكان صمتي تحدي فرديت عليهم بأعمالي.اليوم الخميس الموافق 16/4/2009م يصادف ذكرى رحيل فنان الشعب الأديب محمد سعد عبدالله السابعة إذ كان رحيله فجر الثلاثاء 16/4/2002م في مستشفى الجمهورية التعليمي بخور مكسر في محافظة عدن بعد صراع مرير مع المرض.وللعودة إلى سيرة حياة المبدع الأديب محمد سعد عبدالله سنسترسلها بخطوات متسلسلة ومرتبة.[c1]الولادة والطفولة[/c]ولد محمد سعد عبدالله عام 1938م في عاصمة السلطنة العبدلية اللحجية الحوطة المحروسة وحرص والده على دفعه لتعلم القرآن الكريم في (المعلامة) وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره وذلك لفطنته وذكائه وتركيزه على الأشياء وحفظها (نقول باللهجة الدارجة المتعامل بها حاذق) وهذه المميزات والمواهب الفطرية التي ظهرت عليه في سن مبكر جعلت الأب سعد عبدالله صالح اللحجي يعطي جزءاً من وقته اليومي في متابعة ابنه محمد والاهتمام به إلا أن الأب الذي وجد في ابنه نبوغاً مبكراً وتمنى أن يعيش طويلاً لرعايته ودعمه إلا أن الموت لم يمهله فمات الأب عام 1945م وابنه في السابعة من عمره وهو عمر صعب لطفل بدأ التعلق والتقرب الحقيقي لوالده والتأثر به وبشخصيته وهذا يعني أن مرحلة الكفاح عند محمد سعد عبدالله بدأت مبكرة وتحملها صغيراً وصبر على معاناتها ومتاعبها وكان من الفائزين راسماً طريق المستقبل واضعاً أهدافاً كافح في بداية حياته لتحقيقها. ومرحلة طفولة وحياة الراحل محمد سعد عبدالله شبيهة بمرحلة طفولة وحياة المبدع الراحل محمد عبده زيدي، فالاثنين جمعتهما ظروف قاسية واحدة شاركتهما فيها والدتاهما فكان محمد سعد عبدالله قد أتجه برفقة والدته إلى عدن للإقامة فيها تاركين وراهما الحوطة وبالمثل ترك عبده زيدي ووالدته الوهط وأقام في عدن ورغم قساوة المعيشة إلا أنها فترة زمنية تاريخية في حياة بن سعد والزيدي وكانت الفترة التي قضياها صغاراً بوابة للتحدي وتحقيق الذات واستطاعا الاثنان شق طريقهما نحو النجاح والنجومية ورحم الله بن سعد والزيدي اللذان شقا طريقهما نحو النجاح بالدوس فوق الجمر والأشواك والحفر في الصخر.إن مرور سبع سنوات على رحيل نجم الأغنية اليمنية المبدع الأديب الرائع محمد سعد عبدالله لم تغيبه عنا وخاصة من كانوا مقربين منه في مجالسته اليومية والتي أجمل شخصياً منها الكثير من الذكريات والمواقف الإنسانية التي أحاطني بها وكان لي بمثابة أبٍ ثانٍ وكثير من الأسرار في حياته تحدثنا فيها وفي كثير من المرات شدد علي بأن لا أبيح بها لأحد وغير قابلة للنشر رغم أن الكثير من الأسرار والمواقف التي صادفته في حياته تحدث فيها أمام عدد من الأصدقاء. ومحمد سعد عبدالله بقدر إبداعه الأدبي الفني شاعراً وملحناً ومغنياً والفترة الزمنية القصيرة التي جعلته علماً فنياً مشهوراً في اليمن والجزيرة العربية إلا أنه وطد علاقته بالمجتمع من خلال علاقته الاجتماعية بالناس والتي ببساطته وتواضعه وحب الناس أضافت له الحب الأكبر الذي سكن قلوب الملايين من الناس وحسب قول أحد المحبين للرائع الفنان الأديب محمد سعد عبدالله.. كان جمهور أحمد قاسم وجمهور المرشدي يختلفان في الموسم الفني لهما ولكن حين يقيم محمد سعد عبدالله حفلاته الفنية يتوحدان فكان الجمهور الفني لا يختلف على بن سعد وهذا الحب من العوامل التي ساعدته على النجاح والسير إلى الأمام بثقة.[c1]البداية القوية[/c]لم يعلن محمد سعد عبدالله عن ولادته الفنية إلا بعد أن تشبع فنياً وأصبحت له خبرة متراكمة جعلته مؤهلاً للظهور على المسرح الفني في بداية قوية كان يظن البعض بأن يعلن فشله من أول ظهور ولكن بن سعد أعلن العكس في أول تجربة لحنية وضعها لنفسه وهي أغنية (محلا السمر جنبك) من كلمات الدكتور محمد عبده غانم (رحمة الله عليه) التي كانت مفاجأة للوسط الفني الغنائي في عدن ووصف حينها بالملحن الراقي واللحن الذي وضعه لكلمات (محلا السمر جنبك) نقلته نقلة كبيرة نحو التعامل مع كبار شعراء الأغنية في عدن كالشاعر يوسف مهيوب سلطان الذي لحن له :[c1]ظبي من شمسانفيك الجمال ألوانوالخال في خدكمن صنعة الرحمن[/c]ولحن للشاعر الكبير لطفي جعفر أمان (يا هلي ليش زينت المنى والحب لي.. ليش خليتني في حبك مبتلي).ولحن للشاعر علي عبدالله أمان أغنية (ماله كذا طبعك ومش زي طبع الناس.. الخ) وأغنية (غيروك الناس عني) للشاعر محمد سيف كبشي.ومع مرور السنوات لحن وغنى للشاعر عبدالله عبد الكريم محمد أغنية (بصراحة كنت في الماضي حبيبي.. الخ).وفي آخر سنوات عمره قبل أن يعتكف من الغناء لحن وغنى للشاعر الكبير أحمد الجابري عدداً من الأغاني منها الأغنية المشهورة :[c1]أنت استويت أكثر من اللازممنشان كلام الناس تزعل وتخاصمومن كلمة تزعل زعل تجرح شعوري دوبلكن مهما حصل باقول عليك حبوب[/c]وهذه الأغاني ذات النمط الشعبي التي أوجد لها ألحاناً بقوالب ومقامات موسيقية مختلفة لم تكن كافية للمبدع محمد سعد عبدالله فقد اثبت قدرات فائقة في تلحين وغناء القصيدة الشعرية الفصحى كأغنية (بنور جمالك يحلو الغزل) للشاعر يوسف مهيوب سلطان والأغنية الرثائية للشاعر إدريس أحمد حسن حنبلة التي تحمل عنوان (سل فؤادي الحزين).[c1]بن سعد شاعر لغيره[/c]عندما شنت حملة تشكيكية فاشلة استهدفت محمد سعد عبدالله ملحناً كان رده بإنتاج أروع الألحان وعندما شكك به شاعراً رد على مشككيه بأروع الكلمات الشعرية الغنائية التي كتبها لكبار الفنانين اليمنيين أمثال أحمد بن أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي وطه فارع وتغنوا بها وبعد سنوات لم يبخل بأن يكتب للفنان سعيد أحمد بن أحمد والفنان نجيب سعيد ثابت ومحمد صالح عزاني وأحمد علي قاسم وكانت البداية كتابته لأغنية (كلما تخطر ببالي) التي لحنها وغناها الموسيقار اليمني الراحل أحمد بن أحمد قاسم الذي كان أستاذاً للفنان النابغة محمد سعد عبدالله الذي تعلم منه دروساً في الموسيقى منها كتاباته للنوتة الموسيقية.وفي حزيران 1967م وفي النكسة الشهيرة للعرب وأثناء رد الفعل الذي قام به الثوار في عدن بمحاصرتهم لمنطقة كريتر كتب محمد سعد عبدالله أغنيته الوطنية الشهيرة (قائد الجيش البريطاني مسيكين ارتبش يوم عشرين الأغر ضيع صوابه) التي لحنها وغناها الفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي (أطال الله في عمره) وهو من سبق له وأنصف صادقاً محمد سعد عبدالله حيث يقول المرشدي: “ألحان محمد سعد عبدالله أكتسب الخلود” ويضيف :”وهذا هو رصيده النغمي التجديدي باعتراف الجماهير والعازفين من أهل الفن في اليمن والجزيرة العربية”وغنى الفنان أحمد علي قاسم من كلمات وألحان بن سعد أغنية “كيف أقدر أعيش” وغنى الفنان طه فارع أغنية “ما شنفعك إلا أنا” والكثيرين لا يعرفون أن محمد صالح عزاني “رحمة الله” غنى من كلمات بن سعد وألحان فيصل عبدالعزيز أغنية “فين التقينا”[c1]فين التقينا وشفتك فين؟وفين جلسنا سوى يازينذكرني فين شفتك يازين وقابلتك بالله تقول لي التقينا فين؟ذكرت لقيانك ياللي غرامك زادلما تلاقينا صدفه بلا ميعادوقلت لي كلمة مصحوبة بالبسمةوالجو خالي من الحسادمن كان معانا غير النجوم تشهدومن كمانا والخد فوق الخد[/c]إلى آخر الأغنية التي فرض فيها الحبيب على محمد سعد عبدالله أن يشغل ذاكرته ويجيب عن سؤاله بنفسه.وهناك ألحان وضعها أبو مشتاق لغيره من الفنانين من كلمات شعراء آخرين أمثال الشاعر الراحل مهدي علي حمدون الذي لحن له أغنيتين الأولى “ذي تهواه” والثانية “وقلبي ولي وهب” وغناهما الفنان الراحل محمد صالح حمدون “وهو أبن عم الشاعر مهدي علي حمدون”.أن محمد سعد عبدالله تجاوز بإبداعاته المحلية وغزت أعماله الفنية الغنائية كلماته وألحان الساحة الفنية العربية وكانت البداية من لبنان التي لا تقل أهمية ومكانة عن مصر في فترة الزمن الذهبي للأغنية العربية وفي العاصمة اللبنانية بيروت التقى بالفنانة الكبيرة هيام يونس التي غنت من كلماته وألحانه أغنيتين الأولى “أنت ساكن وسط قلبي” والثانية “الدلع”.[c1]إيش بايفيد الدلع ياللي تخاصمني مالك ومال الدلعإن كان قلبك قنع أحسن تصارحنيوقوللي قلبي قنع مادام نسيت باهجركبانساك ولا بذكركياللي الدلع ضيعك خلي الدلع ينفعك[/c]الفنانة ليلى شفيق غنت “خاف الله وأرحمني ياهاجر” وعتاب وعبادي الجوهر غنى كل منهما “كلمة ولو جبر خاطر” وعبدالرب إدريس غنى “يوم الأحد في طريقي” وغيرهم من الفنانين العرب الذين تغنوا بأغاني بن سع وبالذات في دولة الخليج العربي.وكان علينا من البداية بهذه المناسبة التي نجدد التوقيع على عقد المحبة للمبدع بن سعد سنوياً التطرق إلى رحلته الفنية إلى حضرموت التي غنى من كلماته وألحان مبدعيها أجمل ما غنى فالشاعر والملحن عبدالله محمد باحسن غنى “رب إني قصدت الباب” و”وعليك العمد” و “يامن على الصد” وللشاعر حامد السري أغنية “بالغواني قلبي مولع” وأغنية “سبوح ياقدوس” للشاعر سالم بانبوع و”يقول بن هاشم بكت لعيان” هي للشاعر حداد بن حسن الكاف وهناك أغنية “يقول بن هاشم أنا قلبي سلي” شاعرها حسين البار.ونشيران بن سعد غنى للشاعر اللحجي علي عوض مغلس.إن محمد سعد عبدالله أبدع وتألق شاعراً وملحناً ومغنياً لكل ألوان الغناء اليمني التي أجادها بتفوق بشهادة أهل الفن من المجيدين المشهورين في أداء ألوانهم الغنائية وشهد له أهل الفن بأنه أوجد موسيقى تجديدية ومتطورة وخالدة ستظل الأجيال تتغنى بها لرقتها ... لعذوبتها ... لملامستها واقع الناس واحتياجاتهم عاطفياً واجتماعياً لما تركه من فن راق أخفى إلى ما خلفه من أغاني وطنية ورمزية شاهدة على وطنيته ووحدويته التي لم يتسول بهما في حياته ولم يسع إلى الحصول على الجاه والمناصب فقد عاش بسيطاً ومحبوباً من الملايين عفيف النفس والكرامة ومعتزاً باسمه وتاريخه ومبادئه وموافقة الوطنية التي سخرها للوطن وحبه للوطن وعلى مر تاريخه الفني لم يمجد الأفراد والحكام وكان شجاعاً في انتقاداته للظواهر الاجتماعية والمتغيرات السلبية التي ألحقت أضراراً بالمجتمع.وبهذه المناسبة التي نزداد أشواق وأشتياق وشوق لأي مشتاق نقول له .. صباح الخير من بدري يا أعز الناس نجدد فيها أيام الصفاء وثق مع هذا الصباح إننا لا نقدر على بعدك ولا نقدر ننساك لأنك ساكن وسط قلبي وقلوب الملايين من محبتك والسر الذي بيننا وبينك ياحبيبي سر مكنون وحب غال بالدماء واللحم معجون.أخيراً تحتاج أعمال الأديب محمد سعد عبدالله شعراً وألحاناً إلى دراسات فقد أحتفظ في شعره الغنائي بالألفاظ الدارجة لكلمات ومفردات أندثرت بينما أوردها محمد سعد عبدالله في نصوصه الغنائية ووظفها بذكاء أضف إلى ذلك أسماء لمواقع البعض منها لم يعد التعامل بها وهي بحاجة إلى دراسة .. الشيء الآخر من ذلك ألحانه الموسيقية تحتاج إلى دراسة وبالنسبة لأعماله الفنية الغنائية فتحتاج من وزارة الثقافة بالتنسيق مع أسرته إلى جمعها وطبعتها بحيث وإن المجموعة الشعرية المسمى بـ (لهيب الشوق) اليتيمة لم يجمع فيها كل أعماله الفنية وهي من إصدارات عام 1984م. وأخيراً تحتاج أسرة محمد سعد عبدالله “رحمة الله عليه” إلى الاهتمام المستحق لتعويضهم عن الفترة الزمنية التي عاشوها بقساوة طولاً وعرضاً وهم بين أحضانه راضون بالحياة الصعبة وتقع على الدولة مسئولية الدفاع والحماية لحقوقهم المعنوية والأدبية والمادية إن الكلام لا يكمل عن محمد سعد عبدالله الذي يعد رمزاً من رموز الوطن.