لقد بدأ مجلس الشورى في بلادنا هذه الأيام يعنى بالهم الثقافي، وشرع في فتح ملف الثقافة الذي ظل مغلقاً لسنوات ، إدراكاً منه بأهمية الثقافة في حياة المجتمع اليمني في الوقت الراهن .وليست الثقافة وقفاً على مجتمع دون الآخر، فلكل مجتمع إنساني ثقافته مهما كانت درجة بساطته أو تخلفه ، وأن الاحتكاك بين الثقافات يؤدي إلى تزاوجها أو صراعها، فإذا ما تزاوجت أدى ذلك إلى الانصهار الثقافي بحيث تتحمل الأجيال المتعاقبة مسؤولية نقل التراث الثقافي وحمايته والحفاظ عليه، وتتحمل في الوقت ذاته أعباء التكيف الذي يتطلبه هذا التغيير .وقد يحدث أن تتصارع الثقافات إذا ما كانت الثقافة القائمة أو الثقافة الوافدة على طرفي نقيض، وطالما أن العادات والتقاليد والأعراف في مجتمع معين تؤدي وظائفها بكفاءة كاملة ، فأنها تدفع الجماعة إلى زيادة التمسك بها ، في مواجهة التجديد والتطوير ما يكسبها درجة عالية من الصلابة ، ويضفي على شكلها ومحتواها مجموعة جديدة من مظاهر التبجيل والتقديس ، وكلما كانت الثقافة القديمة صلبة وراسخة بقيت آثارها لمدى طويل ، حتى بعد أن تظهر التيارات الجديدة وتنفذ إلى الأجزاء الأكثر تقبلاً واستعداداً في الثقافة القديمة.وقد يحدث أن يظهر أسلوب اجتماعي وأخلاقي جديد مناقض تماماً لتقليد أو قيمة قديمة بحيث لا يمكن الجمع بينهما في وقت واحد ، وعندئذ لابد من سقوط أحدهما إذا تغلب الآخر، وحتى في هذه الحالة لا يمكن أن تكون نتيجة هذا الصراع القضاء الكامل على الثقافة المغلوبة ، لأنه إذا كانت التيارات المستحدثة هي المغلوبة فإنها سوف تترك بصماتها وآثارها على جبهة الثقافة القديمة المنتصرة ، وإذا كانت الغلبة للتيارات الوافدة فإن الثقافة القديمة المتنحية لن تترك أرضها ومجتمعها ورجالها مدرين من كل آثارها ، بل إن تأثير على علاقات الأفراد والجماعات يظل طويلاً ، بقدر ما لهذه الثقافة المتنحية من انتشار وذيوع في وجدان هذه الجماعات ، وعندئذ تظهر الهوة الثقافية بين الجديد والقديم ، فالتباين يبدو واضحاً في البناء الاجتماعي وهو من شأنه أن يؤدي إلى ظهور متناقضات نتيجة لظهور شكلين من الاهتمامات داخل بنية المجتمع.وعليه فإن الثقافة في أبسط تعريفاتها نتاج إنساني للتفاعل الاجتماعي بين أفراد مجتمع من المجتمعات، وتوفر أنماطاً اجتماعية عامة مقبولة يستجيب الأفراد في ضوئها لحاجتهم البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية ، وهي تنتقل من جيل إلى جيل في المجتمع وتتراكم نتيجة هذا الانتقال ، وهي محملة بالمعاني التي يعبر عنها الأفراد بلغتهم بما فيها من رموز.وتتميز الثقافة بعدد من الخصائص يختلف الباحثون في تعدادها، وهذه الخصائص رغم تعددها لا يمكن الفصل بينها ، لأنها ليست مستقلة عن بعضها البعض ، بل هي متداخلة ، ومن تلك الخصائص على سبيل المثال لا الحصر.- إنها متعلمة ومكتسبة ، وليست فطرية أو متوارثة ، بما يعني أنها التراث الذي يكتسبه الناس من الأجيال السابقة عن طريق التعليم.- إنها تراكمية، وهي خاصة مرتبطة بالخاصية السابقة ، بما يعني أن كل جيل ينتهج نوعاً من الثقافة ويسهم في الكثير من عناصرها ، حتى إذا ظهر جيل آخر فإنه يمتص ما سبق إنتاجه ثم لا يقف عند هذا الحد، بل يضيف إليها هو الآخر من حصيلة علمه وتجاربه.- إنها تكاملية ، فإن إدخال أي عنصر ثقافي جديد ، يؤثر في النسق الثقافي القائم ، ويدخل العنصر الجديد في معترك التنافس مع مجموعة العناصر الأخرى، ويحصل فيها نوع من التكيف المتبادل مع العناصر الثقافية الأخرى، أي كل عنصر يكمل العناصر الأخرى .- إنها إنسانية، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي منحه الله جهازاً عصبياً خاصاً وأعطاه قدرات عقلية فريدة تتيح له إنتاج أفكار وابتكار أعمال جديدة ، وإمكانية تغيير سلوكه وفقاً لمتغيرات البيئة، دون الحاجة إلى حدوث تغييرات عضوية.- إنها قابلة للاستمرار، فهي تراث اجتماعي تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، ولديها قدرة عجيبة للانتقال عبر الزمن، بما تتمثل فيها من عادات وتقاليد وأعراف ومعتقدات ألخ- إنها متغيرة، لأن أي إنسان يستطيع أن ينشأ في ظل ثقافة معينة، متشرباً قيمها مطبوعاً بطباعها، ثم سرعان ما يضيق بها، فيبتدع لنفسه نمطاً ثقافياً جديداً يلائمه، ويلبي رغباته، غير أن ذلك لا يحدث بصورة فجائية، بل يحدث وفقاً لصور معقدة متكاملة ذات خصائص جديدة، تكون بعضها أقوى تأثيراً من العناصر الأخرى.إنها مثالية واقعية ، فالثقافة المثالية هي التي يعتقد فيها الناس أن من واجبهم السلوك وفقها، والسير بمقتضاها.أما الثقافة الواقعية فهي التي ترى أن السلوك الفعلي الممارس في الواقع هو الذي يجب أن يسود، ولابد من الحفاظ عليه، ليبقي المجتمع متماسكاً. إنها علنية ومضمرة في وقت واحد، وهو ما يتمثل في سلوك الأفراد على نحو واضح، وهو ما يحصل عند مواكبة الموضة لدى بعض الفتيات، أو اقتناء أجهزة الهاتف السيار ونحو ذلك. إنها اجتماعية ، وينظر إليها من سلوك الجماعات وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم، لا من خلال سلوك الأفراد ، فعندما تتم دراسة ظاهرة ثقافية لا تدرس من خلال الفرد بصفته الشخصية، وإنما يتم دراستها من سلوك أفراد المجتمع الذي ظهرت فيه تلك الظاهرة. إنها متنوعة، فهناك ثقافة إنسانية لعموم البشر، وهناك ثقافة محلية، تميز أهل كل قرية عن قرية أخرى، وأهل كل مدينة عن غيرها، مع وجود نوع من الوحدة الثقافية بين الوحدات الصغيرة المتجاورة ، وبدرجات متفاوتة ، وهو ما يجمع الشعوب في القطر الواحد أو في الإقليم المعين ، ومنها ما يجمع الفئات المتماثلة في الأقطار المختلفة. وإننا في هذه الأيام أشد ما نكون حاجة لتعزيز الثقافة الوطنية وتكريس ثقافة القيم النبيلة التي توارثها شعبنا اليمني عبر العصور، ولابد في هذه الحالة من نبذ ثقافة الكراهية التي تعمد البعض إلى الترويج لها، في ظل غياب حركة ثقافية نشطة تتصدى للأفكار الضالة والمضللة، وتدحض مزاعم دعاة الردة والانفصال، الذين يريدون العودة بشعبنا إلى ماقبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين، متناسين الأدوار الايجابية للحركة الوطنية اليمنية في الحياة الثقافية ومتجاهلين إسهامات المنظمات والهيئات الشعبية اليمنية في نشر الوعي الوحدوي ، خلال أكثر من خمسة عقود من الزمن. لقد عمد المروجون لثقافة الكراهية إلى القيام بنشاطات مشبوهة هنا أو هناك، لغرض إيقاف العطاء الثقافي المتجذر في هذا الشعب، وحاولوا تجهيله وتعطيل فكره ، وإيقاف حركة التنمية فيه، أو جره للتعاطي مع مشاريع صغيرة عفا عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث.[c1]* خطيب وإمام مسجد الهاشمي [/c]
أخبار متعلقة