محمد عباس ناجي لاعتبارات عدة ربما لم يكن السؤال عن مستقبل الدور الأمني لمجلس التعاون الخليجي مطروحاً بنفس الأهمية والزخم بقدر ما يبدو عليهما في الفترة الحالية، فلقد نشأ مجلس التعاون في الأساس ليكون بمثابة مظلة أمنية إقليمية لدول الخليج الست لمواجهة التهديدات الخارجية التي فرضها اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979، وبداية انتهاج إيران لسياسة تصدير الثورة الإسلامية إلى محيطها الإقليمي والدولي، واشتداد الصراع الدولي على منطقة الخليج التي تشكل المنبع الرئيسي لصادرات النفط في العالم.إن التحديات الجديدة التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تختلف نوعياً عن التحديات التقليدية التي نشأ المجلس لمواجهتها، فالأمر لم يعد مقتصراً فقط على تهديدات موجهة من جانب قوي إقليمية ودولية طامحة إلى لعب دور في التفاعلات الجارية في منطقة الخليج، إنما، وبالإضافة إلى ذلك، ثمة تهديدات أمنية مباشرة تواجه دول مجلس التعاون نابعة من الداخل في الأساس، وتتمثل في تصاعد موجة من العنف والإرهاب. هذه الظاهرة اقترنت خاصة خلال السنوات الخمس المنقضية بتعاظم دور بعض الجماعات المتمسكة بمرجعية دينية متشددة وتربية قتالية عالية ورغبة قوية لتغيير أوضاع البلاد من خلال اللجوء إلى العنف والإرهاب. وتفرض هذه التحديات في مجملها ضرورة استدعاء أفكار جديدة متطورة عن الأفكار التقليدية التي طرحت بخصوص أمن الخليج، ومن ثم بلورة إطار مرجعي يستوعب المعضلات الأمنية الجديدة التي تواجهها دول مجلس التعاون.لكن هذا الطرح لا يخلو بدوره من إشكاليات متعددة تفرضها صعوبة تلمس موقف خليجي موحد خاص بقضية أمن الخليج، على ضوء تباين (مدركات التهديد)، أي رؤية كل دولة خليجية على حدة لأنماط التحديات والتهديدات التي تواجهها، ومن ثم اختلاف الأولويات والسياسات، إضافة إلى حالة الغموض التي تبدو عليها التطورات السياسية التي تشهدها المنطقة، وقد فرضت هذه العوامل في مجملها سيناريوهات أساسية أربعة لمعالجة قضية أمن الخليج، سوف يكون لها تأثير مباشر في طبيعة الدور الأمني لمجلس التعاون الخليجي:السيناريو الأول، هو استمرار الاعتماد على الوجود العسكري الأمريكي كمظلة لحماية أمن دول الخليج، ويعتمد النموذج الراهن لتقديم (المساعدة العسكرية الأمريكية) لدول الخليج على مـا تسميه القيادة المركزية الأمريكية بـ(Tier lll)، ويعني الاستضافة الإقليمية لقوات سيتم نشرها، إلى جانب إبرام اتفاقيات تسمح بالدخول إلى المواقع، وكذلك إنشاء بنية أساسية تتيح انتشار قوات أمريكية إضافية خلال الأزمات. ومنهج (Tier lll) لم يكن الخيار الأفضل لدى واشنطن، لكنه طرح نتيجة لفشل الجهود الأمريكية السابقة لتطوير منهج يتضمن قدراً أقل من التدخل الفعلي المادي في أمن الخليج. فبعـد الانسحاب البريطاني من دور الضامن الخارجي لأمن الخليج في بداية عقد السبعينات، أكـدت الولايات المتحدة أهمية تطوير القدرات الأمنية للحلفاء الإقليميين الرئيسيين (إيران والسعودية). وقد فشلت عملية بناء المقدرات لإيران عندما أطاحت الثورة الإسلامية عام 1979 بأحد أعمدة القوة الأمريكية في الخليج، وحال فـشل التطوير العسكري في السعودية وتشكيل قوات خليجية فعالة دون أن يحل طرف آخر محل هذه الدعامة.وأدى الاتجاه نحو تنويع مقار القواعد العسكرية الأمريكية خارج السعودية وداخل دول الخليج الأصغر في نهاية التسعينات إلى تعجيل انهيار الهيمنة التقليدية للسعودية داخل مـجلس التعاون الخليجي، مع دفـع دول أصغر مثل قطر والإمارات للعب دور الحلفاء العسكريين الرئيسيين للولايات المتحدة في المنطقة. ويتوقع أن تشهد الاستراتيجية الأمريكية إزاء قضية أمن الخليج تطوراً لافتاً استجابة للتغيرات العميقة في طبيعة التهديدات الدولية في المنطقة، والتي تتزامن مع تحول الوضع الدفاعي الدولي للولايات المتحدة. وأشارت استراتيجية الدفاع القومي الأمريكية التي صدرت في يناير 2005 إلى احتمال تقليل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج.ورغم أن الخليج يمثل أحد أربعة (تهـديدات مستقبلية) سيظل الجيش الأمريكي يحتفظ فيها بقواعد رئيسـية ودائمة (مـثل القاعدة الجوية (العـديد) في قطر، ومـقـر الأسطول الخـامس في البـحـرين)، إلا أن الهيئة الأمريكية المشتركة للمخططين الاستراتيجيين أكدت أنه بنهاية العقد الجاري سوف يتم تقليل الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، وسيحدث هذا تحـت شعـار (وصول دائم، انتشار عرضي) بمعنى ضمان قدرة دائمة على الدخول والوصول إلى مكان الأزمة، مع انتشار بحسب الظروف العارضة. السيناريو الثاني، يتمثل في تدشين شراكة أمنية متعددة، وتعني إشراك أطراف أخرى، غير الولايات المتحدة في قضية أمن الخليج، والنموذج الأبرز لهذا التوجه يتمثل في التعاون بين حلف الناتو ودول مجلس التعاون الخليجي الذي شهد تطورات نوعية مهمة: أولاً: إجراء مباحثات ثنائية بين مسؤولي الحلف وعدد من دول مجلس التعاون في مارس 2005، وقد أبدت بعض دول مجلس التعاون خلال هذه المباحثات استجابة لطروحات الناتو بخصوص قضايا منطقة الشرق الأوسط. ومن المتوقع أن يعقد حوار بين مسؤولي الناتو ودول مجلس التعاون خلال العام الحالي.ثانياً: انعقاد مؤتمر (تحولات الناتو والأمن في الخليج) بدولة قطر في إبريل 2004، وقد اقترح المشاركون في المؤتمر العمل من أجل إيجاد آلية للتعاون المستقبلي بين دول الخليج الست والحلف، في الوقت الذي أعلن فيه مسؤولو الحلف عن أهمية منطقة الخليج بالنسبة للناتو.ثالثاً: الدعوة إلى مبادرة جديدة للتعاون بين الناتو ودول مجلس التعاون الخليجي الست في إطار ما أطلق عليه تحسين مستوى علاقات الناتو مع العالم العربي، هذه المبادرة مهّد لها انعقاد قمة الحلف في مدينة اسطنبول يومي 28 و29 يونيو 2004، والتي استهدفت تطوير علاقة الناتو بالمنطقة، من خلال النظر إلى الأحداث في تلك المنطقة عن قرب، وتأثيرها في أمن الشرق الأوسط ككل، وانعكاسات ذلك على الأمن الأوروبي والأمن الدولي، ويتضمن التوجه الجديد للحلف إسهامه بفاعلية في خمس قضايا هي عملية السلام في الشرق الأوسط، والعراق، وعملية الإصلاح، ومكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وقد دعت القمة لإقامة علاقات شراكة بين الناتو ودول الشرق الأوسط.لكن وفي كل الأحوال، فإن ثمة إشكاليات عدة تواجه مشاركة الناتو في أمن الخليج: أولى هذه الإشكاليات، تتعلق بصعوبة التوفيق بين التزامات دول مجلس التعاون في إطار الاتفاقيات الأمنية الثنائية المبرمة مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، والصيغ الجديدة المقترحة من جانب الناتو، فضلاً عن الدفاع الخليجي المشترك في إطار قوات درع الجزيرة. وثانيها، تتمثل في كيفية تعامل دول مجلس التعاون مع أطراف المنظومة الأمنية الإقليمية التي قد يقترحها الناتو مستقبلاً والتي تضم إلى جانب دول المجلس عدداً من الدول العربية، بالإضافة إلى تركيا وإسرائيل، وفي هذه الحالة ستجد دول المجلس نفسها أمام معضلة تناقض الالتزامات التي يفرضها التعاون مع الناتو والالتزامات العربية بشأن الصراع العربي - الإسرائيلي. السيناريو الثالث، هو اتجاه دول مجلس التعاون لإيجاد دور عربي محدد في قضية أمن الخليج يتنامى بالتعاون العسكري الذي قد يأخذ في البداية شكل المناورات المشتركة مع بعض الدول مثل مصر وتونس والمغرب، ثم تبادل المعلومات العسكرية وإعادة إحياء الإسهام الخليجي في هيئة التصنيع العسكري العربية التي صارت هيئة مصرية محضة. لكن هذا السيناريو لا يخلو بدوره من إشكاليتين تعوقان تفعيله: الأولى: أن ثمة رفضاً من جانب قوى دولية وإقليمية لأي دور عربي في أمن الخليج، وهو ما بدا جلياً في إجهاض (إعلان دمشق) الذي طرح عام 1991، في أعقاب انتهاء حرب الخليج الثانية، وكان يقضي بإشراك قوات عسكرية مصرية وسورية في حماية أمن الخليج، إلا أن المشروع ووجه برفض أمريكي - إيراني مشترك. والثانية، أنه لا يمكن تلمس رؤية عربية واحدة لأمن الخليج على خلفية تشابك المصالح وتباين مدركات التهديد، والمثال الأبرز على ذلك هو الرؤيتان المصرية والسورية لأمن الخليج، فرغم أن كلتا الرؤيتين اتفقتا من الناحية الإطارية، أي في ما يتصل بالربط بين أمن الخليج والأمن القومي العربي، إلا أن التعاطي المادي لكلتا الدولتين إزاء هذه القضية ارتبط في النهاية بالمصالح الوطنية وشبكة التفاعلات الإقليمية، فقد تبنت مصر المفهوم التنموي للأمن، أو ما بات يعرف بالمدرسة الليبرالية للأمن التي تقول بضرورة الأخذ بالأبعاد الاجتماعية والسياسية بموازاة البعد العسكري. ولا ريب أن هذه نظرة متقدمة بالنظر إلى طبيعة الأولويات والأجندة التي كانت مهيمنة على المنظورين الإقليمي والدولي لأمن الخليج، حيث تم اختزاله في بعد عسكري مبهم. ونبع تأكيد الرؤية المصرية على البعد العربي لأمن الخليج من حساسية السياسة المصرية تجاه الدورين الإيراني والتركي في المنطقة، والتوترات الطويلة في العلاقات المصرية - الإيرانية. أما الرؤية السورية لأمن الخليج فقد ارتكزت أساسا على قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، كما أن الحساسية السورية تجاه أنقرة ودورها الافتراضي في منطقة الخليج ارتبطت هي الأخرى بهذه القضية، خاصة في ظل المنحى الذي أخذته العلاقات التركية - الإسرائيلية. ومن هنا عبر (إعلان دمشق) عن توافق مصري - سوري على مستوى الأهداف، لكنه لم يعبر عن انسجام في تشخيص التحديات التي يواجهها أمن الخليج. هذا فضلاً عن أن الآليات المراد اعتمادها لتحقيق هذا الأمن ما لبثت أن أضحت نقطة خلاف بين دول الخليج من جهة ومصر وسوريا من جهة أخرى. أما فترة ما بين انتهاء حرب الخليج الثانية والاحتلال الأمريكي للعراق فقد شهدت تطورات سياسية عدة ضيقت من هامش المناورة وحرية الحركة المتاحة أمام كل من سوريا ومصر، ومن ثم تباينت الخيارات الإقليمية والدولية لكلتا الدولتين التي انعكست في النهاية في إضعاف الموقف العربي من قضية أمن الخليج. إن الإشكاليات التي تواجه السيناريوهات السابقة تكشف عن مضمون مهم مفاده أن الحاجة لتفعيل تعاون عسكري خليجي - خليجي أصبحت أكثر من ماسة. ورغم أن هذا السيناريو لن يتحقق بسهولة على ضوء حالة التباطؤ الشديد في تدشين أي نوع من أنواع التعاون العسكري بين دول مجلس التعاون، إلى جانب غياب الفكر الأمني الاستراتيجي في دول المجلس، إلا أن ثمة اعتبارات عدة تكسب هذا السيناريو خصوصية وتفردية عند مقارنته بالسيناريوهات الثلاثة السابقة التي تواجه إشكاليات متعددة.أهم هذه الاعتبارات يتصل بحقيقة أن الدول الصغيرة، مثل معظم دول الخليج، لا تمتلك عمقاً استراتيجياً يشمل الأرض والبشر، ومن ثم فإنها تكون في معظم الأحيان عرضة للابتزاز من جانب قوى إقليمية ودولية، حتى لو كانت هذه القوى حليفة أو تربطها علاقات بدول مجلس التعاون، والأخطر من ذلك أن عجز دول المجلس عن حماية أمنها القومي يدعوها للاستعانة بقوات أجنبية التي تفرض عليها سياسة التفريغ والإفقار المادي والقيمي، وتحدث خللا كبيراً في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو بمعنى أدق علاقة الدولة بالمجتمع، نتيجة الرفض الشعبي الواسع للوجود العسكري الأجنبي في منطقة الخليج، كما تعد سبباً مباشراً لتصاعد موجة العنف والإرهاب التي تواجه دول الخليج، والتي تستخدمها بعض المجموعات الراديكالية لتغيير الأوضاع في دول مجلس التعاون وتحقيق أهدافها ومن بينها خروج القوات الأجنبية من المنطقة. هذه الاعتبارات في مجملها تؤكد أنه حتى في حالة تحقق أي من السيناريوهات السابقة، فإنه لا غنى عن تفعيل الدور الأمني لمجلس التعاون الخليجي من خلال تدشين تعاون أمني خليجي - خليجي، يستطيع التعاطي بكفاءة مع مجمل التحديات التي تواجهها دول مجلس التعاون أو على الأقل يقلص من حدة تداعياتها السلبية. [c1]نقلا عن مجلة "آراء" الإماراتية [/c]
أمن الخليج .. ولوج في خيارات صعبة
أخبار متعلقة