في البداية أحب أن أسلط الضوء على الوضع المأساوي والمعاناة التي كان يعانيها المواطن في هذا الجزء من الوطن إبان فترة الاحتلال.فإلى جانب الظلم والاضطهاد والتعسف كان المستعمر البريطاني يُعامل أبناء اليمن كأجانب لاسيما القادمين من المحافظات الشمالية والأرياف فلا يحق للمواطن العمل في الوظائف الحكومية أو الالتحاق بالمدارس الحكومية. وكان الاعتماد بدرجة أساسية على العناصر الأجنبية في شغل الوظائف والمناصب الحكومية كالهنود والصوماليين والباكستانيين. فكانت بطائق العمل الممنوحة لليمنيين يكتب عليها (بطاقة عمل أجنبية) فالاستعمار منح كافة امتيازات المواطن لهؤلاء الأجانب وظل أبناء اليمن أجانب في وطنهم.هذا الوضع تـُضاف إليه عوامل أخرى شكلت دافعاً لأبناء الوطن في الانخراط في الكفاح المسلح ضد الوجود الاستعماري في كافة الجبهات والتيارات المتواجدة آنذاك على الساحة.وبالنسبة لي جاء انخراطي في صفوف الجبهة القومية إثر انفجار أول قنبلة يدوية في بداية الثورة على مطار عدن الدولي ومعي زملائي ومنهم عبدالحميد الصلوي العامل في إحدى الصيدليات في مدينة خور مكسر وحميد (مساعدطبيب) وكانت ثقتي بهؤلاء كبيرة جداً، وكنا دائماً نتبادل الحديث حول المعاناة والاضطهاد الذي نواجهه كما كنا نتحدث عن الثورة، وحينها كنت أعمل كمساعد لرئيس قسم الكهرباء بمستشفى الملكة (الجمهورية حالياً)، وكانت قد أُجريت لنا الاختبارات المعتادة في حالة انضمام أي شخص للجبهة القومية بهدف التأكد من حقيقة ونوايا الشخص المنخرط في صفوف الجبهة القومية ومعرفة مدى رغبته في المشاركة في الكفاح المسلح وقد تسلمنا الأخ/ قاسم الشرجبي( موظف في مستشفى الملكة )واستمر نشاطي الفدائي في إطار تنظيم الجبهة القومية حتى إعلان الدمج بين الجبهة القومية وجبهة التحرير وحينها أُثيرت الكثير من التساؤلات حول موضوع الدمج لدى قواعد الجبهة القومية، فعملية الدمج تمت دون أخذ آراء وموافقة تلك القواعد فأصدرت بياناً توضح فيه أنّ عملية الدمج عبارة عن عمل فردي قام به الأخ / طه مقبل وسالم أحمد زين وعلي السلامي وآخرون ففي الوقت الذي لم نعارض فيه عملية الدمج، لكن باعتبار أنّ المسألة تهم عملية النضال والكفاح المسلح الذي يضطلع به كافة المواطنين فكان من المفروض إطلاع القواعد في الداخل وأخذ رأيهم بهذا الموضوع، وليس تهميشهم وتجاهلهم إزاء هذه الأحداث التاريخية.وبالمقابل صدر فيما بعد تعميم من قبل المسؤولين في الجبهة القومية يطالبنا بالعودة إلى الجبهة القومية، لكننا رفضنا وبدأنا نفكر ونجري الاتصالات مع بعض الزملاء المناضلين عقب خروج القطاع العسكري من الجبهة القومية وتمّ تشكيل التنظيم الشعبي للقوى الثورية في إطار جبهة التحرير، وهنا لابد من التنويه إلى أنّه أثناء عملية الدمج بين الجبهة القومية، وجبهة التحرير توقفت العمليات العسكرية الفدائية ضد الاحتلال البريطاني، وتمّ استئنافها في إطار التنظيم الشعبي والذي تشكلت في إطاره مجموعة فرق فدائية كصلاح الدين، النصر، النجدة، الفتح، سند، الرسول، الوليد، وفرقة المجد التي كنت قائدها واقتصر نشاطها على مدن : كريتر، خور مكسر، المعلا والتواهي.بالطبع كان الفدائيون يتلقون التدريبات العسكرية في كيفية استخدام أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة ومدافع الهاون، بالإضافة إلى زرع الألغام وذلك سواء في عدن من قبل ضباط يمنيين تخرجوا من الكليات العسكرية المصرية أو في تعز طريق المخا من قبل ضباط مصريين من ذوي الكفاءات العالية في فترات متقطعة كانت تستمر ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع وأحياناً شهراً كاملاً.فالعمليات الفدائية التي كانت تنفذ ضد الوجود البريطاني كانت ناجحة ٪100 ولم يكن عنصر الفشل وارداً في نضالنا لأننا كنا نحرص على ألا نقدم على تنفيذ أية عملية دون الإعداد الجيد والدراسة السابقة والمشاورات المتعددة والتأكد من النجاح مسبقاً.لذلك كانت العمليات الفدائية تقض مضاجع الاحتلال خلال فترة الكفاح المسلح، وتهز كيانه خاصة عملية حصار مدينة كريتر في 67م، بعد النكسة إثر التمرد العسكري في آرم بوليس (الشرطة المسلحة) حيث قام بعض السجناء بأعمال تكسير للسجن ومحتوياته وأخذوا الأسلحة وكان ذلك بتنسيق وتعاون معنا في هذا الجانب.استمر الحصار لمدينة كريتر لمدة أسبوعين قطعت خلالها خدمات الكهرباء والمياه عن سكان المنطقة ونتج عن الحصار مقتل الكثير من الجنود البريطانيين، الذين كانوا يحاولون التسلل والهرب من مدينة كريتر، وكان الفدائيون يطاردونهم في الشوارع.وخلال حصار مدينة كريتر قُتل زميلي (مشهور) عندما أخطأ التقدير، أثناء في تنفيذ ما قيل له ضد مجموعة من الجنود البريطانيين المتواجدين مما أدى إلى إطلاق أحدهم النار عليه وسقط شهيداً إثر مطاردتهم له بجبل حديد.وإزاء تفاقم الوضع وتصاعد المقاومة ضد الاحتلال وتكثيف العمليات الفدائية من قبل المناضلين في كافة الفرق الفدائية اتخذ الإنجليز رد فعل عنيفاً تمثل في استدعاء فرق عسكرية خاصة من قبل بريطانيا أطلق عليها المواطنون (الشياطين الحُمر) لأنّ قبعاتهم كانت حمراء تلك الفرق أُعطيت لها صلاحيات واسعة في قمع المواطنين فكانوا أشد قسوة وصرامة يطلقون النار مباشرة على الأبرياء من المواطنين في الشوارع ويضربون الناس ضرباً مبرحاً ولم يكتفوا بالقبض على المشتبه بهم، كما كان الوضع في السابق، وإنّما أصبح يقابل تلك الممارسات القمعية أعمال لا إنسانية أقدم عليها الإنجليز في إخماد النار التي أشعلت تحت أقدامهم، لكن ذلك لم يثنِ المناضلين الشرفاء من أبناء الشعب اليمني عن الاستمرار في المقاومة وتنفيذ العمليات العسكرية الفدائية ضد الوجود البريطاني، والذي شهد توسعاً ليشمل كافة المحافظات الجنوبية بعد أن ظل محصوراً على مدينة عدن.قد يتساءل البعض من أين كانت تأتينا الأسلحة؟طبعاً كنّا نتسلمها عبر قيادة جبهة التحرير العسكرية برئاسة الأخ/ عبدالله محمد المجعلي المسؤول العسكري للجبهة.إضافة إلى القيادة العربية وبواسطة الأخ / محمد شاهر الصبيحي، من فرقة (النصر) وعبدالعزيز القباطي نائب عبدالرحمن الصريمي فالشيخ فضل صالح الطيار أحد أبناء الصبيحة كان يقوم بمهمة إدخال الأسلحة إلى عدن بحكم إلمامه الكامل بمداخل المدينة والمناطق المحيطة بها.طبعاً كُنا قد استخدمنا في مرحلة الكفاح المسلح الرشاشات والمسدسات ومدافع الهاون وكذلك الألغام ثم استبدلنا مدافع الهاون بمواسير المياه في عملية التفجير وإطلاق القذائف بدلاً عن مدافع الهاون تفادياً للوقوع في قبضة الاحتلال وكشف منفذي تلك الهجمات لأنّه أحياناً وعقب استخدام قذائف الهاون تأتي القوات البريطانية إلى موقع العملية وتغلق المنطقة بدعم من الطائرات مما يجعل من الصعوبة الانسحاب من الموقع مع الأسلحة وإخفاء مدافع الهاون لكن استخدام مواسير المياه والتي اخترعها الخبراء المصريون ودربوا الفدائيين عليها واستخدامها لا يشكل أي مخاطر فكنا نضع القذيفة داخل المأسورة ثم نضع المأسورة في مكان الهدف وتفجر بواسطة بطارية وساعة توقيت ونغادر الموقع بسلام وأمان.مثل هذه القذائف استخدمت في الهجوم على مطار عدن الدولي والبريقة وعمليات أخرى مماثلة كضرب نقاط التفتيش في جولات دار سعد وكالتكس ومحكمة عدن.وبالعودة إلى حصار مدينة كريتر تعرض المناضلون للملاحقة، وكنت أنا ضمن المطلوبين لدى السلطات البريطانية، التي استعانت ببعض العملاء والجواسيس لكشف هوية الفدائيين، فألقي القبض على مجموعة منهم وزجهم في السجن وتعرضوا للتعذيب لاستجوابهم قسراً للحصول على اسمي الثلاثي.بينما هم لا يعرفون سوى اسمي التنظيمي (نجيب) فكنا لا نعرف الأسماء الحقيقية لبعضنا البعض، ونعرف فقط الأسماء التنظيمية وهذا ما يفسر دقة العملية التنظيمية لهذه المرحلة حفاظاً على سلامة المناضلين.كنّا شباباً متعطشين للحرية متحمسين لتحرير بلادنا فاستمرينا بالهجوم على الإنجليز من موقع إلى آخر، وأثناء الحوار في القاهرة وإعلان بريطانيا تسليم البلد للجبهة القومية واندلاع الحرب الأهلية غادرت عدن إلى القرية لزيارة أسرتي التي فقدت الأمل بعودتي واعتقدت أنني قد استشهدت نظراً لانقطاع أخباري عنها لفترة طويلة جراء انشغالي مع زملائي في أداء واجبي الوطني لتحرير وجلاء المستعمر من على أرضنا الغالية. فآثرت البقاء في مدينة تعز بعد ما وصلت إلى قناعةٍ بأنّ مهمتنا انتهت بخروج الاستعمار وإعلان الاستقلال باعتباره كان الهدف الأساسي من التحاقي بالحركة الوطنية المسلحة وتحرير الأرض اليمنية من براثن الاستعمار لتنتهي معه المعاناة والظلم والاضطهاد الذي يُعاني منه كافة فئات الشعب اليمني، ولم يقتصر دورنا على ذلك بل استمرينا في الدفاع عن الثورة والجمهورية أثناء حرب السبعين وإبان الحصار استدعيت ومعي بقية الفدائيين من قبل محافظ تعز المرحوم / سعيد الحكيمي آنذاك وطلب منّا استئناف واجبنا الوطني في فك الحصار عن العاصمة وأبدينا استعدادنا الكامل فاستدعينا بقية قادة الفرق الفدائية من مدينة عدن الذين وصلوا إلى مدينة تعز واضطلعنا بدورنا في مطاردة فلول الملكية، وكانت لنا في هذه المعركة مواقف مشرفة بحكم خبرتنا التي اكتسبناها في مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني وقد استشهد زميل لنا في حصار السبعين وهو الشهيد / سالم يسلم قائد فرقة النجدة في منطقة يسلح مع كوكبة من الأبطال الذين أبلوا بلاءً حسناً في معارك التحرير كالشهيدين/ نصر بن سيف وهاشم محمد إسماعيل.وفي تقديري الشخصي أنّ ملحمة احتلال كريتر لمدة أسبوعين من قبل الفدائيين وجماهير الشعب بحاجةٍ إلى وقفة ودراسة لتوثيقها للأجيال القادمة، لأنّ ما حدث كان فعلاً ملحمة وطنية رائعة نستطيع أن نقول عنها محطة انها بذاتها.ولولا التآمر البريطاني لخلخلة ذلك الصمود الذي استمر لمدة أسبوعين لكانت الأمور قد تطورت لتشمل تحرير بقية مدن عدن، ليس كما حدث في الأرياف فيما أسموه سقوط المناطق بيد الجبهة القومية بدعم وتعاون جيش الاتحاد الفيدرالي لكن ما قد كان في عدن من منع دخول القوات البريطانية تمّ بفضل التحام وتعاون الفدائيين والشعب، لأنّ ما حدث جاء في وقتٍ كانت الأمة العربية تعيش انتكاسة 67م وكان حصار عدن في 20 يونيو 1967م انطلاقة أعادت الاعتبار للأمة العربية وهزت الكيان البريطاني وأصابته بصدمة لا يزال يتجرعها حتى اليوم.وما تعرض له شعبنا اليمني من مؤامرات في الفترة التي تلت الاستقلال من الانتقام البريطاني جراء ما واجهه في عدن في هذه الملحمة التي أحرقت جنوده في الشوارع من قبل المواطنين والفدائيين.[c1]الكاتب في سطور[/c]- الاسم / محمد عبدالله الصغير / (نجيب).- من مواليد عام 1945م الحجرية قرية الجند زبيرة قدس.- التحق منذ وقتٍ مبكر بالعمل الفدائي في إطار الجبهة القومية ثمّ التحق بالتنظيم الشعبي للقوى الثورية بعد عملية دمج الجبهة القومية وجبهة التحرير.- شارك في العمل الفدائي ضمن فرقة (الوليد) ثمّ أصبح قائداً لفرقة المجد المكوّنة من 50 فدائياً والتي كانت تنفذ عمليات عسكرية في مدن كريتر - المعلا - خور مكسر.- شارك في تنفيذ العديد من العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال كالهجوم على المعسكر البريطاني في المعلا وضرب المطار والهجوم على الدوريات الإنجليزية إضافة إلى إخراجهم من مدينة كريتر.- بعد إجراء الحوار في القاهرة واندلاع الحرب الأهلية غادر عدن للإقامة في تعز.- شارك في حرب السبعين يوماً مع بقية الفدائيين في التنظيم الشعبي للقوى الثورية.- يعمل حالياً في القطاع خاص.- متزوج وله عدد من الأولاد والبنات.
ملحمة حصار كريتر
أخبار متعلقة