بغداد/14 أكتوبر/ميسي ريان: ما كان يعرف في التاريخ بالهلال الخصيب الذي أدت أراضيه الزراعية الخصبة ومياهه الوفيرة إلى قيام الحضارة أصبح اليوم صحراء جرداء حيث يزحف نهرا دجلة والفرات ببطء نحو البحر.فهناك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية العراقية لكنها مشققة وقاحلة وقد جفت الاهوار الثمينة كما تحجب العواصف الرملية أشعة الشمس.حتى “نهر صدام” وهو نظام الصرف الرئيسي الذي دشنه الرئيس السابق صدام حسين في الثمانينات لإعادة العراق إلى مجده الزراعي القديم تحول إلى جدول هزيل اخضر اللون يجري على مستوى منخفض كثيرا عن العلامة التي تركها أعلى منسوب له.هذه هي أعراض نقص متفاقم في المياه يهدد بتقويض جهود العراق لإعادة بناء اقتصاده بعد ست سنوات من الصراع منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.والمياه سلعة ثمينة في الشرق الأوسط القاحل الذي يتكهن الكثير من الخبراء بأن تنشب فيه حروب في المستقبل إذا لم يتم التوصل إلى حل مستديم.وازداد التوتر في وقت سابق هذا الشهر حين أعلنت تركيا أنها ستستأنف العمل في خطتها المثيرة للجدل لبناء سد على نهر دجلة في جنوبها الشرقي.وسحب الداعمون الأوروبيون تأييدهم لمشروع سد ايليسو استنادا لمعايير ثقافية وبيئية وهو ما يمثل انتصارا مؤقتا لبغداد لكن أنقرة عقدت العزم على المضي قدما حيث تسعى إلى خفض اعتمادها على واردات الطاقة.ويقول عمرو هاشم الخبير الاقتصادي بجامعة المستنصرية ببغداد أن هذه ليست أزمة جديدة على العراق لكنها هذه المرة أكثر خطورة من أي وقت مضى.ويسارع الساسة العراقيون إلى الإلقاء باللائمة على الجيران تركيا وإيران وسوريا لإقامتهم سدودا واستخدامهم المتزايد للمياه لكن الخبراء يقولون أن مشاكل العراق ترجع أيضا إلى الزيادة الكبيرة في عدد السكان وسوء الري وعدم وجود حوافز تذكر لترشيد استهلاك المياه.ويقول ديفيد مولدن نائب رئيس المعهد الدولي لإدارة المياه في سريلانكا “المشكلة هي اجتماع كل العوامل معا.. التمدن والتغير المناخي وتقلب المناخ على المدى القصير وازدياد الطلب على الغذاء.”وأضاف “العراق مكان.. لكنه ليس وحده في العالم... نعم يستطيعون دوما إلقاء اللوم على الجيران أو التغير المناخي لكنهم في نهاية المطاف يجب أن يغيروا أسلوب إدارة المياه.”وهذا العام هو الثاني الذي يعاني فيه العراق من جفاف شديد ويقول مسئولون أمريكيون في بغداد أن استخدام الاحتياطيات العام الماضي سبب أسوأ نقص في المياه خلال عقد.وربما يأتي الجفاف بواحد من أسوأ محاصيل القمح خلال عشر سنوات وسط توقعات بانخفاض المحصول إلى 1.35 مليون طن أي نحو نصف المحصول المعتاد وهي انتكاسة كبيرة لبلد كان يمد المنطقة يوما بالحبوب لكنه يصنف اليوم ضمن اكبر مستوردي القمح في العالم.ويقول صلاح فيصل وهو مزارع يؤهب نفسه لانخفاض محصول مزرعته جنوبي بغداد أن نقص المياه ليس السبب الوحيد في الضعف الشديد الذي تعانيه الزراعة بالعراق، وتابع تحت حرارة شمس الصيف اللافحة “في الثمانينات كانت هناك الحرب مع إيران وفي التسعينات كانت هناك الكويت والآن الأمريكيون. هناك ما بين خمسة وستة ملايين شهيد و70 في المائة من الناس في الريف فروا. ماذا تتوقعون..”والاضطراب في قطاع الزراعة يعني اضطرابا للعراق إذ يعمل به اكبر عدد من القوة العاملة لكنه يبدو ضئيلا إذا قورن بالنفط من حيث العائد الاقتصادي.ويعد الاعتماد على واردات الغذاء وكذلك هجرة السكان من الريف والخوف من استقطاب المتشددين للشبان العاطلين من العوامل التي تقف وراء مبادرة خاصة أطلقها رئيس الوزراء نوري المالكي لإنعاش قطاع الزراعة المحتضر.غير أن النتائج ستكون بطيئة في الوقت الذي يحث فيه المسئولون المزارعين على التخلي عن ممارسات مثل الري بالغمر والذي أدى إلى زيادة ملوحة التربة وساعد على خفض خصوبة الأراضي الزراعية.وفي غياب نظام ملائم للصرف فان الممرات المائية العراقية مالحة بدرجة خطيرة. وتبلغ درجة ملوحة المياه التي تتدفق إلى العراق 400 جزء في المليون. وتقول وزارة الزراعة أنها حين تصل إلى الخليج يرتفع هذا المستوى إلى ألفي جزء في المليون.وقال مولدن انه بالمقارنة مع هذا هناك نحو ألف جزء في المليون في مصب نهر كولورادو. وأضاف “ستنخفض إنتاجية معظم المحاصيل باستثناء الأكثر تحملا للملح حين تروى بهذه المياه.”وفي بغداد يتكوم الطين حول حقول من القصب تظهر الان في نهر دجلة الذي يتدفق ببطء وهو مشهد بعيد كل البعد عما كان الوضع عليه قبل 20 عاما حين كان الأطفال يسبحون في تياراته السريعة معرضين أنفسهم للتهلكة.