كنت دون العشرين عندما التحقت بجامعة “أبردين” عام 1960 في أقصى شمال اسكوتنلندا في بريطانيا لدراسة الهندسة ولشدة برودة المدينة (التي أصبحت فيما بعد العاصمة النفطية لبريطانيا) خطر ببالي أن “أبردين” كلمة محرفة من أبو بردين والحقيقة أنها مدينة جميلة مبنية من حجر الجرانيت ولذلك تلقب بالمدينة الفضية ولعلها المدينة الفضية الوحيدة في بريطانيا. فيما عدا المعاناه من الغربة والبرودة في زمن لم تكن المنازل هناك تتمتع بالتدفئة المركزية فقد أفادتني أبردين كثيراً إذ منحتني شهادة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية ثم الهندسة الكهربائية ولكن فوق كل ذلك فقد تطورت فيها موهبتي الشعرية وكنت أبعث لوالدي الدكتورالشاعر البوفيسور محمد عبده غانم بقصائدي فيعلق عليها ويوجهني رحمة الله وأسكنه فسيح جناته. وكان الشعر أكبر أعواني على احتمال الغربة ودراسة الهندسة الصعبة. تركت برلين عام 1964 ولم أعد إليها سوي مرتين. المرة الأولى كانت عام 1965 لحضور حفل تخرج شقيقتي الدكتورة عزة والمرة الثانية كانت عام 1999 بعد أكثر من ثلث قرن في زيارة خاطفة للمدينة العلوم التي فيها والمتخصصة في النفط والغاز وتدافعت الذكريات الباهتة تنهض من مرقدها في زوايا النسيان وتذكرت قول والدي في إحدي قصائده : “عبثاً أفتش عن شبابي في الأزقة والزوايا”وتأملت كيف أن الإنسان يستطيع أن يعود إلي نفس المكان ولكن هيهات هيهات أن يعود إلي نفس الزمان! في عام 1964 انتقلت إلي لندن للعمل يإحدي شركاتها الصناعية الكبري وهي “جي أي سي” وأيضا لدراسة العلوم الإدارية في إحدي كليات جامعة لندن في نفس الوقت وكانت مشاعر الغربة تجتاحني في هذه المدينة أكثر مما اجتاحتني في أبردين التي كنت التقي فيها يوميا بأصدقائي الطلبة وكانت المدينة أصغر بكثير من لندن مالناس أكثر ترحاباً فيحييك فيها بعض الناس الذين لا تعرفهم في الشوارع وكان الأجانب فيه قلة ومعظمهم من الطلبة فلا يشعر المواطنون نحوهم بأي عداء كما قد يشعرون في لندن حيث يرى بعض البريطانيين في الأجانب منافسين على الأعمال. وكان الشعر متنفسي الأكبر وقراءة الأدب الإنكليزي متنفسي الثاني وقد عبرت عن مشاعر الغربة في أكثر من قصيدة منها قصيدة “عواطف وعواصف” التي أقول في بدايتها :شوقي إليك جحيم أيها القمـر[c1] *** [/c]وهل يطيب إذا أوحشتني سمرتركتني لأفاعي الهم تنهشني[c1] *** [/c]ولوعة في حنايا الصدر تستعرسيان عندي إذا أعرضت عن غضب[c1] *** [/c]أوعن دلال فما لي عنك مصطبرما جئت أطلب في حبي مقايضة[c1] *** [/c]فالصبب ليس بصب حين يتجرحسب المتيم أن يفني بلوعته[c1] *** [/c]كصاحب الفن في إبداعه الوطروما الهوى غير فن في روائعة[c1] *** [/c]ما ليس يدركه سمع ولا بصــرفلا تقل لوعتي زيف وزخرفـة[c1] *** [/c]لا يبدع الشعر إلا من به شعرواأما كفاك بأن قد أعرضت ونأت[c1] *** [/c]عني الأماني حتى رحت تستترأضنيتني لم تقدر حق مغتـرب[c1] *** [/c]إن حطة سفر ألقي به السفـــركتبت هذه القصيدة عام 1965 وكانت أخبار العنف في عدن تصلنا مشوشة فتقلقنا ولذلك أقول في تلك القصيدة التي نشرت يومها في عدن في صحيفة فتاة الجزيرة:قد غاب عن وطن حال الزمان به[c1] *** [/c]ومزقت أهله الأقــدار والغـيــركم بات في قلق مما يهــــده[c1] *** [/c]وكان لا يعتريه الهم والكـــدرلكنه المرء فـي أثوابـه أســـد[c1] *** [/c]أما استشاط فلا يأس ولا حـذرتستنجد المثل العليا فينجدها[c1] *** [/c]ويمتطي خطرا في إثره خطــرلهفي على وطني مما يكيد لـه[c1] *** [/c]وما يخبـئ فــي طياته القـــدرلولا هوي في ضلوعي قد بليت به[c1] *** [/c]ما عاث بالجفن في ليل الهوى سهرولا استبدت صبايا الشعر تدفعني[c1] *** [/c]إلى ابتداع القوافي كلها شـرربل بت أذرف دمعا لا يفيــد غنـى[c1] *** [/c]ولا ينـال به حـــق ولا وطــــــرفقل لمن تخذ الأوطـان لعبتــه[c1] *** [/c]إن العواصف لا تبقي ولا تـــذر وكان هذا البيت الأخير نبوءة لما حل بالوطن من الحكم الشمولي الجاهل ودمار الحروب المتلاحقة فصارت عدن التي كانت منارة التقدم في الجزيرة والتي كانت تسبق سنغافورة كميناء إلى ما صارت إليه. كانت تلك صورة من الغربة في مقتبل الشباب ثم أنني هاجرت إلى الإمارات مباشرة بعد السبعة الأيام “المجيدة” التي أجبر فيها الموظفون على الهتاف بطلب تخفيض الرواتب. ثم عدت إلي بريطانيا في الكهولة عام 1985 لتحضير الدكتوراه في جامعة “كارديف” بويلز وكارديف مدينة قرميدية ليس فيها بهاء “أبردين” المبنية من الجرانيت حتى أنها تسمى المدينة الفضية وإن كان في كارديف مركز جميل في وسطها وبه قلعة جميلة تعقد فيها عروض عسكرية سنوية بالملابس التاريخية كما يحدث في قلعة “أدنبرة” عاصمة اسكوتلندا. وبرد كارديف لا يقارن ببرد أبردين الشديد. ولكن معاناة الغرب في كارديف كانت أشد وطأة من غربتي في أبردين، التي كنت فيها شابا عازبا بينما كنت رب عائلة عندما سافرت إلى كارديف ولكنني كنت قد اضطررت لترك عائلتي في دبي فابنتي كانت ملتحقة بمدرسة جيدة ولم أكن أرغب أن تكون دراستي علي حساب تعليمها. وعندما جاءت عائلتي لزيارتي بعد ذلك ببضعة أشهر في الصيف اقترحت علي ابني الأكبر وضاح وكان عمره 9 سنوات أن يظل معي ووافق في الحال وحذرني أحد زملائي من طلبة الدكتوراه أنه سوف يبكي طالباً والدته بعد عودتها إلى دبي. بيد أن وضاح أكد لي انه لن يفعل ذلك وقد وفى حقا بوعده وعاش معي عاماً كان لي فيه خير أنيس ولكني كنت أصرف كثيراً من وقتي علي تعليمه المنهج العربي كاملاً بينما كان يدرس المنهج الإنكليزي كاملاً في مدرسة ممتازة علي بعد خطوات من منزلنا. وكنت أصرف كثيراً من الوقت في إعداد الطعام له وكان يساعدني في شؤون البيت حسب اتفاقنا. وقد نجح في امتحانه في المنهجين العربي والإنكليزي معا بشكل أفرحني كثيرا. ويوم عيد الأب أفقت من نومي فوجدت بجانب السرير علبة “شوكولاته” وبطاقة تهنئة تقول “إلى أفضل أب في الدنيا” وكان قد صرف كل مصروفه الأسبوعي علي الهدية وقد تأثرت وقبلته وشكرته فقال لي في شيطنة “هل علي أن أشتري لك هدية في عيد الأم أيضاً؟” مشيراً إلى أنني كنت أقوم بجوانب الأبوين نحوه في آن واحد. البعد عن الأسرة فجر عندي ينابيع العر فكتبت الكثير من بعض أفضل قصائدي خلال أشهر قليلة. ولكن ذلك أزعج زوجتي التي قالت معاتبة بالهاتف : هل ذهبت إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه أم لكتابة الشعر. وفجر هذا السؤال عندي قصيدة بعنوان (من أوراق الغربة). كان ذلك في الشتاء وكثيراً ما يكون الشتاء في بريطانيا كئيباً مقارنة بالصيف ، فالنهار يكون قصيراً والبرد شديداً والمطر أحياناً لا يتوقف. ولم يكن يشاطرني السكن هناك خلال ذلك الوقت من عام 1986 سوى ولدي الصغير “وضاح” وهو اليوم مهندس ناجح يحمل ماجستير في هندسة البيئة وأخرى في الإدارة ولله الحمد ومن أبيات القصيدة : لعلك لا تدريـن كـــم أتعــذب[c1] *** [/c]وكيف فــؤادي بالبعــاد يــذوبوكيف إذا ولـي الشبب وأقـبلت[c1] *** [/c]درياح خريف العمر يغدو التغربوكيف اشتياقي للصغار يميتني[c1] *** [/c]فكيف أري حياً وليس لهــم أبألم تقرئي شعري وكل قصائـدي[c1] *** [/c]دموع كموج البحر تأتي وتذهبأستغربين اللحن يهزج راقصـاً؟[c1] *** [/c]أما يرقص الطير الذبيح المخضبحرائق روماً في ضلوعي عتية[c1] *** [/c]وأعزف لكن لا كثيــرون أطـرب! وتمضي القصيدة لتقول في ذلك الجو الشتوي : فألقت بي الأيام في حضن كارديف[c1] *** [/c]ولكنه حضن من الدفء مجـذبفلولاً الفتي “وضاح” مصباح غربتي[c1] *** [/c]ولولا صبايا الشعر تملي وأكتـــبولولا رفاق العلم من أرض يعرب[c1] *** [/c]يوحــدنا ديــن وضــــاد ومـــــأربلكان لنا هـــذا التغريب محنة[c1] *** [/c]تفوق احتمال المرء والشعر أشيب اما الصيف في بريطانيا فجميل وقد زارتني العائلة في صيف ذلك العام وأخذتها ذات يوم إلى بحيرة في كارديف يسبح فيه البط والبجع ويلهو على المروج حولها الأطفال ويلقون بقطع الخبز للبط وهذا ما فعله طفلي الآخر “وجد” وكان في السنة الثانية من العمر ويرى البط لأول مرة وعندما ألقى بقطع الخبز ورأى البط يستبق إليها أخذه الحماس فجرى نحو الماء وكاد أن يقع فيه لولا أن أدركته في اللحظة الأخيرة وبعد سفر العائلة كنت كلما مررت بالبحيرة بسيارتي في طريقي إلى الجامعة أتذكر تلك الزيارة فأوحت لي الذكرى بقصيدة بعنوان “قرب البحيرة” ومنها : كلما تعبر سيارتي قرب البحيرةويلوح البط فوق الماء في وسط لخضيرةوأرى الأطفال تلهو في الأراجيح وما بين الزهوريعتريني الشوق يطويني الشعور من جديد يبتدي قدام عيني شريط الذكريات يتراءى وجهك النابض بالفرحة من كل الجهات وأرى قبضتك الملأى الصغيرةوهي نحو الماء تلقي قطع الخبز النثيرة فإذا البط مضي نحو اللقيمات استباقاًصوتك العذب ينادي في هياج وابتهاج“بابا .. قاقا .. بابا .. قاقا”وصدي لثغتك العذبة تشدو في سروربكلام غامض مثل أحاديث الطيورثم تجري في اندفاعفجأة للماء نحو البطأجري ...أمسك الجسم الصغيرفإذا ما صار في كفي أسيرأحضن الجسم الأثيروعليه أطبع القبلات في عنفويحتج يتأشر إلى القاقا كثيرومن طرائف ذكرياتي مع “وجد” (وهو اليوم شاب قد تخرج في هندسة الكمبيوتر ولله الحمد) أنه بعد سفري للدراسة في بريطانيا كان كطفل صغير يهدد أشقاءه والخادمات إذا أغضبوه بالإشارة إلى صورة كبيرة لي في منزلنا بدبي قائلاً (شوف بابا) أي سيشكوهم إلي إذا أغضبوه ثم أنني عدت في زيارة دبي وذات يوم تصرف بشيطنة فهددته بالعقاب فإذا به يشير إلى صورتي ويقول مهدداً “شوف بابا” ولم أتمالك نفسي من الضحك وشعر هو نفسه بالارتباك.
أخبار متعلقة