أضواء
من جانبه, لاحظ الزميل الدكتور: عبدالله العسكر في مقال له في هذه الجريدة(الرياض) عنوَنه ب(الفتوى وما آلت إليه), أن الفتيا»غدت عملاً يمكن للشخص التفرغ له، والكسب من ورائه. بينما الفقيه في عصور الإسلام الأولى لا يمكنه أن يتكسب من علمه الشرعي. وحيث غدت الفتيا مهنة، فقد كثر الذين امتهنوها، ثم زاد الطلب على من لديه القدرة على إصدار الآراء الشخصية ودفعها للجمهور على أنها فتوى يجب الأخذ بها، ثم توسع المفتون وطفقوا يبحثون في التراكمات الفقهية، ويستخرجون شواذ الآراء، والأفكار، والتعليقات، والتهميشات والأحلام، يخرجونها للناس، ثم توسعوا أكثر عندما وضعوا في روع الناس ضرورة سؤال أهل العلم (هكذا يسمون أنفسهم) عن كل صغيرة وكبيرة، ثم زادوا بأنهم يصدرون عن فقه وتخصص، وأنهم يوقعون عن الله سبحانه وتعالى. وأخيراً تعاقدوا مع الفضائيات، وانتشروا وأثروا. والله يرزق من يشاء!». لكن الأمر الذي لا يريد أولئك الدعاة/التجار مناقشته أو الاقتراب من حماه هو أن تلك المداخيل الوافرة من الانتظام في سلك الدعوة, لا تخلو من شائبة, بل شوائب كثيرة, تتعلق بمسألة حلها . ذلك أن أخذ الجعل على تعليم شيء من أحكام الدين, إفتاءً أو وعظاً أوإرشادا, مما اختلف فيه الفقهاء في حله, بل, إن بعضهم مال إلى جانب تحريمه تحريماً مطلقا. فقد رأى الإمام القرطبي في قول الله تعالى:«ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون». أن« هذِهِ الآية وَإِنْ كَانتْ خاصة بِبنِي إِسرَائيل فَهِيَ تتاوَل منْ فَعلَ فعلهمْ فَمنْ اِمتنعَ منْ تعليم ما وَجبَ علَيهِ أَو أَدَاءِ ما علمهُ وَقَدْ تعينَ علَيهِ حتى يأْخذ علَيهِ أَجرًا فَقَد دَخلَ في مقْتضى الآية وَاَللَّه أَعلَم». إضافة إلى ذلك, فقد أورد جملة من الأحاديث النبوية التي تسير في الاتجاه ذاته, اتجاه حرمة أخذ العوض من تعليم الدين. منها ما رواه أَبو دَاوُد عنْ أَبِي هرَيرَة قَالَ: قَالَ رَسول اللَّه صلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسلَّمَ»منْ تعلَّمَ علْما مما يبتغى بِهِ وَجه اللَّه عزَّ وَجلَّ لا يتعلَّمهُ إِلا ليصيبَ بِهِ عرَضا منْ الدُّنيا لَمْ يجِد عرْف الْجنّة يوْم الْقيامة». ومنها حديث أَبي هرَيرَة أيضاً قَالَ: قُلْت يا رَسول اللَّه ما تقُول في الْمعلِّمينَ قَالَ«دِرْهمهمْ حرَام وَثَوْبهمْ سحت وَكَلامهمْ رِياء». وكذلك, ما رواه عبادَة بن الصامت قَالَ : علَّمت ناسا منْ أَهل الصفَّة الْقُرْآن وَالْكتابة , فَأَهدَى إِلَيَّ رَجل منهمْ قَوْسا فَقُلْت : لَيستْ بِمالٍ وَأَرْمي عنها في سبِيل اللَّه. فَسأَلْت عنها رَسول اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وَسلَّمَ فَقَالَ:»إِنْ سرَّك أَنْ تطَوَّق بِها طَوْقًا منْ نار فَاقْبلْها». وهذه الأحاديث, وإن كان يشوب أسانيدَها شيء من الضعف إلا ابن تيمية فصل القول في موضوع أخذ الأجرة على تعليم الدين في المسألة رقم(204/30) من مجموع الفتاوى عندما سئل عن»جواز أخذ الأجرة على تعليم شيء من أحكام الدين». وبدون أن نخوض في التفاصيل التي ضمنها جوابه, فإن الناظر فيه سيجد أنه(ابن تيمية) ناقش المسألة من وجهيها فمال, على ما يبدو, إلى ناحية عدم الجواز, معللاً موقفه ب»أن هذا العمل عبادة لله عزوجل, وإذا»عمل للعوض لم يبق عبادة كالصناعات التي تعمل بالأجرة», وبالتالي ف»لا يجوز إيقاعه على غير وجه العبادة لله, كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله, والاستئجار يخرجها عن ذلك». مستدلاً على ما يقول بعدة آيات كريمات, منها قوله تعالى:»وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين». وكذلك قوله تعالى:» قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين». وكذلك قوله تعالى:« قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا». وحين ناقش مسألة جواز أخذها, أعني الأجرة, ربطه بحاجة الداعية للمال, وبأن يعطى من بيت مال المسلمين فقط. ومن نافلة القول أن آليات التكسب التي يستخدمها الدعاة حالياً هي أبعد ما تكون عن تلك القيود التي اشترطها ابن تيمية. فالمسألة لم تعد مجرد أخذ أجرة محدودة بالحاجة للمال, بل تعدتها إلى أن تكون عبارة عن صفقات تجارية يتخللها مفاوضات مسبقة, معرضة للاتفاق كما للاختلاف, والفيصل في كلا الأمرين الاتفاق والاختلاف هو المال, والمال وحده, مستخدمين في سبيل ذلك طرقاً متعددة لقبض الثمن, فمرة يقبضون ثمن المحاضرات أو الدورات التي يقيمونها(...) مرة واحدة عند انتهائها, ومرات أُخر يقبضونها على أساس العمل بالقطعة/الساعة . وبعضهم يشترطون رعاة إعلاميين يقتسمون معهم أجور الرعاية الإعلامية إضافة إلى أجرهم الأساسي! وليس ثمة مهرب من الاعتراف بأن نقد تحويل العمل الدعوي إلى بازار استثماري لا يمكن أن يجد له صدى لدى متولي كبره من الدعاة/المستثمرين, فهم في النهاية تجار يعرضون بضائعهم في سوق يخضع لقانون العرض والطلب, وبالتالي, فإن النقد يجب أن يوجه ناحية الارتقاء بذائقة المستهلكين الذين تحولوا إلى مناجم تدر ثروات طائلة في جيوب أولئك الدعاة, مقابل حشو من فضول الكلام الذي يمكن أن يجدوه, بل وأفضل منه بما لا يقاس, إذا ما جاسوا خلال محركات البحث على شبكة الانترنت!.عن صحيفة (الرياض ) السعودي