شخصيات خالدة
وُلدتْ إميلي برونتي في 30 تموز عام 1818 في مدينة صغيرة في مقاطعة يوركشير الغربية الإنجليزية. كانت إميلي تعشق بيتهم الذي تعبث فيه الريح من كل الاتجاهات وكانت تشعر بالألم إذا ابتعدت عنه ، وهي في الواقع لم تفارقه كثيراً. ويمكننا القول أن حنينها إليه كان مَرَضيَّاً. غادرتْ إميلي البيت للمرة الأولى وهي طفلة في السادسة من عمرها، إذ أرسلها والدها مع اختها الأكبر سناً شارلوت إلى مدرسة داخلية خاصة بأبناء قساوسة الريف. ولكن الأب سرعان ما سيعيد شارلوت وإميلي إلى البيت وذلك لأنهما لم تحتملا نظام المدرسة الصارم والغربة عن البيت وقرر أن يقوم بتعليم أولاده بنفسه فأشرف على مطالعاتهم وشجَّعهم على حبِّ الرسم.غادرت إميلي البيت للمرة الثانية بعد مرور عشرة أعوام في محاولة جديدة للحصول على تعليم منهجي. ولكنها فشلت في الحصول على التعليم لان شوقها إلى بيتها تحول ألماً حقيقياً ومرضاً فأعادتها أختها شارلوت التي كانت تعمل مدرسة في ذات المدرسة التي تدرس فيها الى هوغورت بسبب خوفها عليها.ووقد دارت حول هذه الروائية الكثير من الشكوك والنقد ولهذا كانت هذه الحادثة سببا في ازالة شكوك النقاد الذين حاموا حول حياتها واعتبروا أن حياتها في هوغورت كانت قاسية مليئة بالحرمان.وفي واقع الأمر فإن مشكلة الأخوات برونتي لم تكن في أنهنَّ كنَّ مضطرات للعمل في التدريس من أجل الحصول على لقمة العيش.وكانت إميلي تعرف جيداً أنها تعود إلى البيت لا لكي تعيش في سجن منعزل عن العالم بل على العكس .. فهي هنا كانت تشعر بحريتها المطلقة، وهذا ما كانت تفتقده بعيداً عن البيت ،وهي إنْ حَكمتْ على نفسها بالعزلة فإن ذلك بسبب تراجيديتها الداخلية، تراجيدية الموهبة الفذَّة في أكثر العصور مللاً وضجراً، كما أطلق على ذلك العصر (أوسكار وايلد). ودراما إميلي برونتي ليست نادرة في عصر الرومانتيكية ذاك. وسبب تراجيدية روحها هي في ذاك الصراع الدائم مع النفس والشعور المطلق بعدم الرضى، الذي كان دائماً مصدر ألم لا ينتهي للنفوس المتميزة العميقة. لم تكن ايميلي تتميز بطبع اجتماعي ولم تكن سهلة المعاشرة وربما لهذا لم تكن لديها صديقات أبداً، على عكس أختيها، أما عن الحب والرجل فهذا عالم آخر لا تعرفه أو هو ينتمي إلى ألم الحرمان الداخلي؟ كان طبعها شديد التناقض فهي أحياناً حادة, عنيدة، متشبِّثة ومتعصِّبة لآرائها، وفي نفس الوقت كانت شديدة التحمُّل مع أولئك الذين تحبهم ومتفانية في العطاء والإثرة، كانت تضع الواجب فوق كل شيء.كانت إميلي مصابة بداء السِّل الذي لم يمنعها من العمل باجتهاد منذ الصباح الباكر،و كانت تصيبها الحمَّى بشكل مستمر، وسعالها لم يعد ينقطع إلا نادراً ولكنها لم تكن تسمح لأحد بأن يشفق عليها ، الى أن فارقتْ إميلي الحياة في في صباح الثاني (ديسمبر) من عام 1848 وهي لم تتجاوز الثلاثين من العمر لتترك رواية واحدة هي (مرتفعات وذيرينغ) أو (المرتفعات التي تعصف فيها الريح) وحوالي مائتي قصيدة شعر.نُشرتْ رواية (المرتفعات التي تعصف فيها الريح) قبل أن تموت الكاتبة بعام واحد ولكنها لم تلق أي اهتمام. بالإضافة إلى أنها نُشرتْ تحت اسم أختها شارلوتا التي كانت قد نَشرت من قبل روياتِها (جين إير) وقد حصلت على بعض الشهرة. ولا أحد يعرف حتى الآن سبب هذا الخطأ هل هو خطأ عفوي أم أن الناشر أراد أن يستفيد من اسم شارلوت التي حصلت على بعض الشهرة .وقد تغير الوضع بعد موت الكاتبة حيث حدث تأثيراً لا يوصف على جماعة البريرافائيليين، هؤلاء الثوار ضد الأكاديمية في الفن ، رواية (مرتفعات ويذيرينغ) وَضعَت النقاد في موقف صعب للغاية وذلك في محاولاتهم تحديد هوية الاتجاه الفني (هل هي تنتمي إلى الاتجاه الرومانتيكي أم الواقعي؟) فهذه الرواية لا تنسجم تماماً مع أي منهما .إميلي برونتي هذه الفتاة المحيرة وروايتها اللغز وأشعارها الغامضة! ويطرح سؤالٌ نفسَه: أين تكمن ينابيع العبقرية .