نبض القلم
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله: إنني حججت بأمي من اليمن على ظهري، وطفت بها البيت وسعيت بها بين الصفا والمروة، ووقفت بها في عرفات، ودلفت بها إلى المزدلفة، ورميت لها الحجار بمنى، فعلت ذلك كله وهي عجوز لا حراك بها، وأنا أحملها على ظهري، فهل أديت حقها علي؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: لا، فقال الرجل: لم، قال: لأنها فعلت ما فعلت بك في صغرك وهي تتمنى حياتك، وأنت فعلت ما فعلت بها وأنت تتمنى موتها.وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يطيق الولد بعض ما كان يطيق الأب أو الأم من عذاب نحو ولده الصغير حين تنتابه الأوجاع والأسقام، أفليس قبيحاً في عرف المروءة والأخلاق والدين أن يقف الولد من أبويه موقف الجحود، وهو المدين لهما بحياته منذ ولادته وطفولته، ولذا كان عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وأشد الذنوب، بعد الشرك بالله تعالى، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله، وعقوق الوالدين”.ولا يقدم على عقوق الوالدين إلا فاقد المروءة سيء الخلق، قليل الدين، ومن كان كذلك مع أبويه، واللذين لا ينكر فضلهما عليه، فإنه مع الناس الآخرين سيكون أدنى مروءة وأسوأ خلقاً وأقل ديناً.وقد يبرر بعض الأولاد عقوقهم لآبائهم وأمهاتهم بقسوة هؤلاء الآباء والأمهات، وظلمهما له، وتعديهما عليه، وربما يكون صحيحاً أن بعض الآباء والأمهات، يفعلون ذلك، وقد يشتد بعضهم في القسوة والتأديب حتى ليضرب ولده ضرباً مبرحاً، وهي قسوة ظالمة بلا شك ولكنها لا تبرر العقوق بأي حال من الأحوال، ولقد مررنا جميعاً بهذه الحالة، فكنا نبكي من قسوة آبائنا علينا، ونغضب من حرماننا بعض ما نشتهي، ونتذمر من منعنا بعض ما نريد أن نفعل، وكثيراً ما كنا نتهم آباءنا وأمهاتنا بالظلم والقسوة، ولكننا حين كبرنا ووعينا الحياة تبين لنا فضل آبائنا علينا في ذلك المنع والحرمان والقسوة.وهب أن أباك كان ظالماً لك فيما صنع بك، فليس ذلك مبرراً لعقوقه، بل الواجب أن يغفر الولد لأبيه لقاء ما سبق له من فضل عليه، يوم كان رضيعاً ووليداً وطفلاً صغيراً لا يجد في الكون من يحنو عليه غيره، أو ينفق عليه سواه.ألا يعلم الأبناء أن عقوق الوالدين من أفحش السيئات، وأكبر الذنوب التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فهو نكران الجميل، وكفران بالنعمة، لأن الولد العاق يقابل الإحسان بالإساءة، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: “كل الذنوب يؤخر الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات”.ويحكى في ذلك أن ولداً كان عاقاً لوالده، كثير العصيان له، مخالفاً أوامره، ما سأله شيئاً إلا صده ورفض طلبه، وما رده أو نهاه عن أمر إلا أتاه وفعله، ومع هذا فقد ظل الوالد محسناً إليه، راضياً عنه، وكلما أزداد الوالد إحساناً زاد الولد تمرداً، وكلما أزداد الوالد عطفاً بالولد زاد الولد قساوة، وهكذا، حتى كبر الولد وصار رجلاً ثم صار شيخاً هرماً لا يستطيع الحركة، وحينما شاهده ولده على هذه الحال، فبدلاً من العناية به، قام إليه وحمله على كاهله، وأبوه ساكت لا يتكلم حتى خرج به من باب المدينة، ولما تعب الولد من حمل أبيه، وجد رابية فصعد إليها وأنزل أباه، وقعد ليستريح فيها، ثم أراد أن يحمله ثانية، فقال له أبوه: أي ولدي، وقرة عيني، دعني في مكاني هذا، وأمض لحال سبيلك، واتركني حتى أموت هنا، فإني كنت قد وضعت أبي أي جدك هنا، وتركته وذهبت لسبيل حالي، وها أنت تفعل بي مثل الذي فعلت بجدك، وأعلم يا ولدي إن جميع ما فعلته معي من العقوق والعصيان كنت قد فعلته أنا مع أبي، وهذا دين أستوفيه الآن، وإني أخشى أن يعاملك أبنك كما تعاملني، فلما سمع الولد من أبيه ذلك خر ساجداً يقبل رجليه ويعتذر إليه قائلاً: سامحني يا أبي، فإني أخشى أن يعاملني ولدي كما عاملتك.[c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]