مع الأحداث
قبل عدة أشهر دعت شركة نيسان في اليابان مئة مدون blogger لحضور حفل إطلاق سيارتها الرياضية (سكاي لاين) ولم تدع الشركة أية وسائل إعلام أو صحافيين إلى الحفل. وعندما دخل المدونون، أغلقت الأبواب وتم الكشف عن السيارة، وأعطى الجميع الفرصة كاملة ليفعلوا بالسيارة ما يشاءون. فقام بعضهم بتصويرها بكاميرات الهاتف النقال، وقام آخرون بتسجيل صوت محركها عندما يدوس أحدهم على دواسة البنزين. وفي اليوم الثاني انتشرت تلك المقاطع المرئية والصوتية على شبكة الإنترنت كانتشار النار في الهشيم، فقامت الصحف الرسمية والشخصية ووسائل الإعلام الأخرى باقتباس مقاطع من التقارير المصورة والمكتوبة وعرضها على صفحاتها أو على شاشاتها على حد سواء. عندما سئلت شركة نيسان عن سر هذه الطريقة الجديدة في عرض منتجها قالت إن مجتمع المدونين اليابانيين هو أكبر مجتمع افتراضي على الإنترنت، وبما أن السيارة المعروضة هي سيارة رياضية تستهدف الشباب، فإن المدونين أكثر قدرة من وسائل الإعلام (التقليدية) على إيصال مزايا السيارة إلى الشرائح المستهدفة. قد تكون هذه سابقة غريبة، إلا أن مجتمع المدونين أصبح جزءاً مهماً من وسائل تسويق الشركات، وأحد وسائل إدارتها أحياناً، فشركة IBM التي يعمل بها أكثر من 330 ألف عامل، أطلق أكثر من 2800 موظف فيها مدونات على الإنترنت تتحدث عن الشؤون الداخلية للشركة. وبدأ الناس من الداخل ومن الخارج المشاركة في تلك المدونات بشكل حيوي، فما كان من الشركة إلا أن قامت بتحسين أوضاع العاملين وتلبية مطالبهم قدر المستطاع حتى لا تتصدر أخبارها السيئة عناوين تلك المدونات. وجدت في إحصائيات عديدة على الإنترنت أن عدد المدونين يتجاوز المئة مليون مدون، بالإضافة إلى مئة مليون آخرين ولكنهم غير نشيطين، لذلك لا يؤخذون بعين الاعتبار، حيث أصبحت المدونات صحفاً وقنوات فضائية وإذاعات محلية وعالمية خالية من الرقابة إلا الرقابة الذاتية عند البعض. وأصبح كل مدون رئيس تحرير لصحيفة قد تنافس أخبارها ومقالاتها صحفاً رسمية وعالمية أيضاً. فعندما قامت إسرائيل بقصف لبنان قبل سنتين، مُنع جميع الصحافيين من دخول مواقع القصف وتصوير بشاعة العدوان، إلا أن مجموعة من المدونين قاموا خلسة بتشغيل هواتفهم النقالة وصوروا الواقع المرير الذي عرض بعد ذلك على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز. لم يكتفِ المدونون برئاسة تحرير صحفهم اليومية، بل تحولوا إلى طاقم عمل كامل، فهم يحررون، ويصورون، ويجرون المقابلات الصحافية أيضاً. وأصبح لهم جمهور من القراء يحرصون على تصفح مدوناتهم كل يوم مع قهوة الصباح، وقبل الصحف أحياناً. بل إن بعض الكتاب قد اعتزل الصحف والمجلات وفضّل الكتابة على مدونته الخاصة، لتنتشر بعد ذلك على المواقع الكبيرة التي أصبحت تتصيد هؤلاء الكتاب وتعرض مقالاتهم على صفحاتها بشكل مستمر. لقد تجاوز دور المدونات الدور الذي تقوم به الصحف والمجلات، فأصبحت مرتعاً للأقلام الجديدة وللآراء الحرة، حيث لا رقيب غير الذات، ولا مقص هناك أو مشرط. وأصبحت أيضاً القاعدة التي ينطلق منها أصحاب الأقلام الأدبية ككتاب القصة القصيرة والشعر والرواية في بعض الأحيان. لقد كان التقليد قبل النصف الأول من القرن المنصرم أن تعرض الصحف والمجلات أعمالاً أدبية لكتاب جدد إلى أن ينتبه المثقفون وتلتفت الساحة الأدبية إلى هؤلاء الكتاب. ولم يكن باستطاعة الكاتب أن ينشر رواية أو قصة أو ديواناً إلا بعد أن يكسب لنفسه قاعدة جماهيرية من خلال الصحف والمجلات، أما اليوم فلقد انحسر دور هذه الصحف لتكتفي بالأخبار ـ التي تسبقها إليها القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية ـ وبعض المقالات وشيء من التحقيقات الصحافية إن وجدت. أما القنوات الفضائية فلقد وجدت لها منافساً آخر اسمه (يو تيوب youtube.com) حيث أصبح هذا الموقع ظاهرة إنسانية إن جاز التعبير، فلقد استطاعت شركة google أن تجعل منه قناة فضائية لكل راغب في بث أعماله، سواء كانت سيئة أم جيدة. حيث يوجد على يو تيوب أكثر من ستة ملايين فيديو، تنمو بمعدل 20% كل شهر، ويقدر القائمون عليه عدد ساعات المشاهدة منذ إطلاق الموقع وحتى اليوم بأكثر من 9305 سنوات. في يو تيوب يعرض الناس أحلامهم، ويعرضون أسرارهم، ويسوقون لمنتجاتهم، ولحياتهم. يفسدون ويصلحون، ويرفعون ويحطون، دون أن يكون هناك منتج أو مخرج ليحد من وقت هذا أو يقطع مشهد ذاك. يقول البعض إن يو تيوب لو منع من البث في دولة ما فإن ذلك قد يؤدي إلى ثورة شعبية ضد الجهات المانعة، في وصف تقريبي للمكانة التي احتلها هذا الموقع عند الناس، حيث أصبح ملاذاً وملتقى ومنبراً لمن لا منبر له، ولمن له منبر أيضاً. منافس آخر، انبرى لرؤساء التحرير والمنتجين وغيرهم من حراس الكلمة، وممن نصبوا أنفسهم حماة للفكر والإنسان، هو موقع Facebook.com حيث يبلغ أعضاء الموقع أكثر من 68 مليون شخص، ويسجل فيه يومياً 250 ألف شخص. منهم الصالح ومنهم الطالح، كل يريد أن يعرض شيئاً. رأيت شباباً يتحدثون فيه عن قضية حرية الرأي، وآخرين يتحدثون عن الجنس، وغيرهم يتحدثون عن الدين... كلهم في موقع واحد، وعلى صفحات متعددة. ومرة أخرى، دون حسيب أو رقيب، ودون رؤساء تحرير أيضاً. منهم من يظن أن باستطاعته أن يسعد الإنسانية، ومنهم من يريد أن يلهو فقط. المهم أن يكون الجميع قادرا على قول كلمته دون الحاجة إلى استشارة أحد. لا يهم إن كانوا على صواب أو خطأ، فالمهم هو أن يتمكنوا من التفكير حتى يستطيعوا أن يصلوا إلى الصواب. يستعرض زوار الموقع أكثر من 65 مليار صفحة شهرياً، ويوجد فيه 16 مليون صورة. البعض التقى قريبه الذي انقطعت أخباره قبل 20 سنة، والبعض ارتكب المحرمات، والبعض أيضاً عرف الله من خلال الموقع. رؤساء التحرير لم يعد لهم مكان في ساحة الحرية، فالكل أصبح رئيساً لرأيه ورئيساً لتحرير نفسه. فالشباب لم يعودوا في حاجة إلى إذن لنشر مقالاتهم، ولم يعودوا في حاجة إلى منتجين أيضاً لعرض أعمالهم الدرامية، فالعالم الجديد حطم قيود المعرفة وعرّى خازنيها من جلابيبهم القديمة. فهل سيقف رؤساء التحرير في وجه هذا الطوفان المعرفي الجديد، أم أنهم سينحنون للريح ويلقون بأختامهم الحمراء في سلة المهملات؟ وإن لم يتمكنوا من إعطاء الشباب حرية التعبير، فلا أقل من أن يمنحوهم حرية التفكير. باحث إماراتي