قراءة وتلخيص/ شفاء منصر إذا كان فريق من الشعراء استطاع ولوج قلوبنا وعقولنا وشد اسماعنا إلى ما في قصائده من فيض الشعر وبراعة الاستهلال -على اعتبار أن براعة الاستهلال تؤكد وجود القصيدة - فقد أخفق الفريق الآخر منهم في اختيار مفتتح القصيدة وجمال المطلع ..ولقد عرّف علماء اللغة براعة الاستهلال " بأنها استهلال الكلام وابتداؤه بما يناسب المقصود" وساقوا لنا أمثلة كثيرة على تلك البراعة كمطلع قصيدة ( جرير) في رثاء زوجته :[c1]لولا الحياء لهاجني استعبار*** ولزرت قبرك والحبيب يزار [/c]وأخذ البلاغيون على كثير من الشعراء عدم انتقائهم في مطلع قصائدهم ( للألفظ المناسبة للمقامات) ومثلوا ذلك بأمثلة كثيرة منها غضب هشام بن عبدالملك من الشاعر ( ذي الرمة) حين استهل مديحه له بقوله :ما بال عينيك منها الدمع ينسكبفقال هشام بن عبدالملك :- بل عينيك أنت ..فإذا كان هذا حال الشعراء حينما يتبارون ويتنافسون لنظم القصائد بحيث يوفق فريق ويخفق فريق آخر ..فإن للقرآن الكريم وهو كلام الله المنزل بلاغة وإعجازاً بلغا حد الكمال بأسلوب نظمه متفرد أتقن كل شيء وهناك امثلة كثيرة نسوقها عن براعة الاستهلال في السور القرآنية كمطلع سورة ( الرحمن) التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بعروس القرآن الكريم .حيث لا نجد سورة في القرآن تسمت باسم من اسمائه الحسنى غيرها .. قال تعالى :" الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان..".جاء استهلال السورة في غاية الجمال موافقاً لما سردته السورة من ( نعم الله وآلائه) التي لا تعد ولا تحصى ..واستفتاح السورة بلفظ ( الرحمن) الذي لا يسمى به أحد سواه عز وجل " هو إشارة الى ما في السورة المباركة من تجليات الرحمن بالرحمة على عباده فهي سورة الرحمة الشاملة ".واستهلال الحق سبحانه وتعالى مفتتح السورة باسم ( الرحمن) جاء متناغماً تناغماً بديعاً في الايقاع مع فواصل السور مع قوله فيها إحدى وثلاثين مرة " فبأي آلاء ربكما تكذبان".ومثال آخر عن جمال الاستهلال سورة ( الملك) بقوله تعالى :(تبارك) التي أفادت تنزيهه جل شأنه وتقديسه وأفادت أيضاً حقيقة الملك وعظمته " فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة وكان الابتلاء بهما ومن الملك والقدرة كان تزيين السماء الدنيا بالمصابيح وجعلها رجوماً للشياطين ومن الملك والقدرة كان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها ومن الملك والقدرة العلم بالسر والجهر وكان جعل الارض ذلولاً للبشر ومن الملك والقدرة كان إمساك الطير في السماء .. إلخ " فكل حقائق السورة وصورها التي تتوالى في سياقها تفسر المدلول الشامل لذلك المطلع البديع .أما مطلع سورة ( الحاقة) التي تروي لنا النهايات المفزعة لمصارع قوم نوح وعاد وثمود وفرعون والمؤتفكات اخوان لوط وتصور مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون لايناسبها إلاّ استهلال قوي ومهول فجاء مطلع السورة " الحاقة ، ما الحاقة ، وما أدراك ما الحاقة ".ولفظ الحاقة في دلالته اللغوية هو أفضل لفظ يناسب اتجاه السورة وموضوعها وبراعة استهلال السورة بلفظ ( الحاقة) لايقف عند حد الدلالة اللغوية للفظة وايقاعها وإنما تتجلى براعة الاستهلال في كون ( الحاقة) كلمة مفردة لا خبر لها في ظاهر اللفظ ثم تتبع باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم ( ما الحاقة؟) ثم يزداد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل واخراج المسألة عن حدود الادراك والعلم ( وما أدراك ما الحاقة ؟) ثم يسكت ولا يجيب عن هذا السؤال .. ويدع قارئ ( المطلع) وسامعه واقفاً أمام هذا الأمر العظيم الذي لايدريه ولا يتأتى له أن يدريه لأنه أعظم من أن يحيط به العلم والإدراك ".* المراجع :د. عبدالجواد المجلي فصول مختارة من موسوعة الجمال في القرآن الكريم
|
ثقافة
براعة الإستهلال في السور القرآنية
أخبار متعلقة