أقواس
مما لا شك فيه أن التنظيم الاجتماعي السائد في أي مجتمع من المجتمعات يخلق نمطاً ثقافياً خاصاً بهذا المجتمع يكون بمثابة لصمة تحدد هوية المجتمع المختلفة بالضرورة عن هويات المجتمعات الأخرى .ومن هذا المنطلق تعايشت عبر التاريخ الهويات المختلفة مع بعضها وأثرت ثقافياً وتأثرت ببعضها بأشكال مختلفة سواء عبر الغزو المباشر ومن ثم فرض تأثيرها الثقافي فرضاً أم بالاتصال السلمي وتقديم النموذج الثقافي سلمياً وتركه يؤثر في الهويات الأخرى بسلام.وكان الشكل الثاني/ السلمي/ أكثر فاعلية وأمضى اثراً في التغلغل بالنسيج الثقافي للهويات الأخرى وإثرائها والبقاء فيها كجزء مكون لها مع احتفاظها بمكوناتها الأصلية حيث أن النمط الثقافي الذي يتم فرضه الغزو والعنف كان يخلق بالمقابل عوامل نفيه في نفس الوقت الذي يتم تثبيته في نسيج الثقافات الأخرى ذلك أن رد الفعل الطبيعي من داخل الثقافات والهويات المغزوة كان الرفض للثقافة الوافدة بالغزو حتى إن أذعنت لحين للوافد الثقافي وتعاطت معه.وقد علمنا التاريخ أن الثقافة الغازية غالباً ما يتم نفيها بشكل تام من قبل الهويات المغزوة حال تمكنها من الخلاص من هيمنة الغازي.ولا يبقى في ثقافة أي مجتمع من الثقافة الأخرى إلا ذلك التأثير الذي تم تبادله بشكل سلمي وطبيعي بعيداً عن الفرض بالغزو أو بالإكراه.إن الشواهد التاريخية على ما ذهبنا إليه انفاً كثيرة بحيث يمكننا أن نضرب آلاف الأمثلة على ذلك ولكنا في هذه العجالة سنكتفي بالإشارة إلى ماحدث من محاولات فرض ثقافة روما القديمة على مجتمعات الشرق من خلال الغزو فقد عجزت روما العظيمة حينها عن فرض ثقافتها على المجتمعات المغزوة رغم إخضاعها سياسياً ولفترات طويلة امتدت فروناً فما لبثت هذه المجتمعات سواء المجتمعات ذات التاريخ الحضاري مثل فارس وبابل وأشور ومصر الفرعونية أم مجتمعات البداوة مثل بربر شمال افريقيا وعرب الجزيرة أن نفضت عنها سيطرة الغازي ونفضت في الوقت ذاته ثقافته وعادت إلى الانطلاق من خلال تنظيمها الاجتماعي الخاص إلى تأكيد هويتها حضارياً وثقافياً على أن التبادل الثقافي السلمي بين هذه المجتمعات والمجتمعات الغربية ظل قائماً وظلت أثارة في التأثير على الآخر أكثر جلاء وبقاء وتطوراً والمثال نجده في ذلك الشكل السلمي من التثاقف الذي دشنته الحضارة العربية الإسلامية التي ورثت الإرث الثقافي لكل تلك المجتمعات الشرقية، بالأخص في عصر المأمون عندما تم الاتصال بالشرق وبالغرب ثقافياً على أساس من السلام وتبادل المعارف والثقافة. وهو ما أدى إلى حصيلتين إيجابيتين لدى الكل حيث أثريت الثقافة العربية الإسلامية بعلم ومعارف وثقافة الغرب من جهة، وتطورت تلك المعارف والعلوم الغربية تطوراً لا تزال شواهده وثماره حية حتى اليوم من جهة أخرى.وعليه فإن الأحرى بدعاة العولمة الثقافية المعاصرة أحادية القطب أن يكفوا عن محاولاتهم لمسخ الهويات الأخرى وأخذ المثل الإيجابي من التاريخ في ترك التبادل الثقافي السلمي يتلاقح لينتج عولمة ثقافية تتعايش فيها الثقافات وتثري بعضها بعضاً بعيداً عن نزعات الإلغاء والمسخ للآخر لكي تكون الحصيلة ثقافة عالمية متعددة الهويات والنظم والمعارف ولكنها واحدة الهدف لخدمة تطور المجتمع الإنساني برمته.