فى الذكرى الخامسة عشرة لإغتياله مازلنا نطرح السؤال: من الذى قتل فرج فوده؟فتوى تكفير فرج فوده كانت إعداماً مؤجلاً ينتظر من ينفذه.إتهموه بإباحة الزنا وسب الصحابة وإنكارالسنة ثم قالوا لم نكن نقصد قتله !!.قبل اسبوعين مرت 15 سنة على اغتيال المفكر فرج فوده الذى اغتيل برصاص قوى التخلف والجهل فى شهر يونيو 1992م.كان الدكتور فرج فوده مثل أبطال التراجيديا اليونانية مساقاً إلى قدره المحتوم الذى لا مفر منه، وكان أيضاً مثلهم فى درجة معرفته بهذا القدر ويقينه بأن تلك النهاية المأساوية هى فصل الختام، ولكن الذى لم يكن يعرفه أو يتوقعه فرج فوده أن حيثيات حكم إعدامه ستصدر عن رجل دين يحمل شهادة الأزهر، وأن مبررات اغتياله سيقدمها رجل يشغل منصب "رئيس قسم الدعوة" بالأزهر ورئيس ندوة العلماء !!ومن المؤسف أن الدكتور فرج فوده كان قد راهن وخسر الرهان . راهن على إمكانية الحوار مع هؤلاء من أمثال الدكتور عبد الغفار عزيز مؤلف كتاب "من قتل فرج فوده ؟ " وراهن على أنه يوجد فرق بين هؤلاء وبين من أسماهم " المتطرفين " مع أن أمثال هؤلاء الأساتذة الأجلاء ما هم إلا وجه العملة الأخرى الذين يقدمون الدعم النظرى للقسم الثانى، والذى ما عليه إلا أن ينفذ ويضغط على الزناد، وهو فى منتهى راحة الضمير تسانده الفتوى المطبوخة بأيدى أمهر الفقهاء حاملى أختام وتأشيرات دخول جنة الفردوس وموزعي صكوك الغفران وحماة حمى الكهنوت بإسم التخصص، وحراس الإرهاب باسم محاربة إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة . وكان الدكتور عبد الغفار عزيز قد ضمن كتابه إتهامات خطيرة هى التكفير بعينه، ونصب من نفسه ومن زملائه أعضاء اللجنة محكمة تفتيش تنقب فى الضمائر وتطلق الأحكام ثم تجمعها بين دفتى كتاب لكى تكون عوناً وزاداً لكل من يريد ذخيرة فكرية يحشو بها الكلاشنكوف ويغتال ثم يضمن الجنة ، وقررت فى هذه المقالة أن أحتفل بهذه الذكرى بطريقة مختلفة، وهى الرد على التهم التى ساقها مؤلف هذا الكتاب القديم الجديد مبرراً لإغتياله وهى تهم مازالت موجهة إلي الفقيد وإلى الكثيرين من كتيبة التنوير. فالمسألة ليست فى مؤلف الكتاب بل فى عقلية هى السائدة حتى الآن ولابد من الرد عليها، سأرد بالحجة والمنطق مستعيناً بآراء من كان أسلوبه حجة ومنطقاً وعشقاً للحقيقة وهو الدكتور فرج فودة، وأتساءل مع مؤلف الكتاب "من هو القاتل الحقيقى لفرج فوده " ؟ بالسؤال ذاته .التهمة الأولى هى أخطر هذه التهم وأكثرها مداعبة لعواطف المسلمين وهى رفض فرج فودة لتطبيق الشريعة الإسلامية عموما وهجومه على التجارب الإسلامية المعاصرة وخاصة "السودان فى عصر نميرى!!ان رفض فرج فوده لا يدعو للدهشة والاستنكار لأن المسألة ليست مسألة موقف من الدين بل هى مسألة موقف سياسي بحت ، أو بمعنى آخر هى طرح لقضية سياسية شديدة التخلف والغموض من خلال منطق دينى شديد القبول والوضوح ، ولنناقش هذا الاتهام من خلال طرح بعض علامات الاستفهام على المؤلف . أولا: أي شريعة إسلامية يريد تطبيقها شيخنا العزيز؟.. هل هى شريعة باكستان ضياء الحق، أم إيران الخومينى، ام شريعة قلب الدين حكمتيار أم شريعة طالبان أم شريعة أحمد شاه مسعود وحامد كرازاي؟ .. أم تراها شريعة نميرى السودان التى هاجمها فرج فودة حين أعلن رفضه لهذه التجربة فى حين أيدها شيوخ الاسلام السياسي جميعا ً، بداية من الشيخ الغزالى الذى قال عنها إنها كانت إلهاما جليلا من الله، مرورا بالشيخ كشك الذى وصف مهاجميها بكلماته البليغة وأسلوبه المؤدب بأنهم "كلاب تنبح"، وإنتهاءً بعيد اللطيف حمزة ويوسف القرضاوى والتلمسانى الذى نصح نميرى وقتها بان يحذر مهاجميه وان يكبح جماحهم وإلا يفسح لهم فى غيهم بحجة حرية المرأة والكلمة وصلاح أبو إسماعيل الذى قال ان أول عز نالته السودان بسبب تطبيق الشريعة هو ان "عز الدين السيد" رئيس مجلس الشعب السودانى ظفر بالثقة العالمية فصار رئيسا للاتحاد البرلمانى الدولى وهذا أكبر دليل على تقدير العالم لتطبيق الشريعة !! ولننظر بسرعة إلى هذه التجربة المضيئة التي تحدث عنها كل هؤلاء بإعجاب وافتخار.طبعا فى البداية نصب النميرى نفسه إماماً وعدل مواد الدستور لكى تتسق مع تجربته العظيمة، وكانت أول مادة فيه مبايعة الامام مدى الحياة، واختياره لخليفته بكتاب مختوم، ومن مواده أيضاً لا تجوز مساءلة أو نقض بيعة الإمام وإعتبارها خيانة عظمى، والامام هو الذى يشكل المحاكم الاستثنائية، مع حرمان المتهم من الاستئناف إلى آخر هذه المضحكات المبكيات. وطبعا تم التهليل لقطع الأيدى والرجم، أما الجوع الذى عض بأنيابه شعب السودان فإنه كان فى رأي مؤيدى التجربة مجرد اختبار يبتلى به المؤمن لامتحان صدق عقيدته واقتناعه بتطبيق الشريعة. يرد البعض بأن هذه ليست الشريعة، وإنما الشريعة هى فى التاريخ الإسلامى المجيد ويقودنا هذا إلى علامة الاستفهام الثانية وهى: هل التطبيق الفورى للشريعة وقتها تبعه صلاح فورى للمجتمع وحل فورى لمشاكله؟ . وكانت الإجابة التى قدمها فرج فوده هى بالنفى، وقد قدمها الفقيد بمنطق رائع وحجة دامغة وأمثلة واضحة أهمها عصر الفتنة الكبرى . فالبرغم من وجود الحاكم المسلم الصالح (عثمان الذى لا يشكك أحد فى تقواه وصلاحه)، والرعية المؤمنة (صحابة الرسول وأهله وعشيرته قريبو العهد به وبرسالته)، والشريعة (التى كانت بالتأكيد مطبقة).. بالرغم من وجود أضلاع المثلث التشريعى الثلاثة، فان العدل لم يتحقق ولم يسد الأمن والأمان، إذن فالعدل لا يتحقق بصلاح الحاكم، ولا يسود بتقوى الرعية، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة، وإنما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه "نظام الحكم" أو القواعد التى يقول عنها فرج فوده فى كتابه "الحقيقة الغائبة" "ص32، قواعد تنظم المجتمع على أسس لا تتناقض مع جوهر الدين فى شىء ولا تصطدم مع معطيات العصر فى إطارها العام"…يرى الدكتور فرج فوده انه بوفاة الرسول استكمل عهد الإسلام وبدأ عهد المسلمين بماله وما عليه، فيصرخ فينا المؤلف عبد الغفار عزيز فى نهاية كتابه ص 120 مالنا ومال عهد المسلمين، فكل أحكام الشريعة لا نستطيع ان نحكمها الا فيما يسميه المؤرخون بالعصر الذهبى للإسلام وهى فترة الخلافة الراشدة، والتى استمرت ثلاثين عاماً . إذا وافقنا على أن هذه المدة هى العصر الذهبى فهذه للأسف حجة عليه وليست له، فإذا كان التاريخ الإسلامى لا توجد فيه إلا هذه الثلاثين سنة على مدى 1400 سنة بعد التنقيب والبحث والاستبعاد والتهذيب والتشذيب فأعتقد أن لفرج فوده ولنا الحق فى أن نشك، مجرد شك، دون أن يصدر علينا حكم بالقتل !! ثانى التهم التى تعرض لها فرج فوده هى سب الصحابة ، ففى صفحة 118 من الكتاب يتهم الشيخ الدكتور عبد الغفار عزيز الدكتور فرج فودة بأنه يسب الصحابة ولذلك يجب ان يعاقب لأنه لم يمتثل لأمر النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله "لا تسبوا أصحابى". والواقع ان هذا الخلط نتج عن تصور المؤلف ان الصحابى المتدين هو الصحابى السياسى، وأنه فى الموقفين شخص واحد علينا توقيره وإجلاله وعدم معارضته وهذا خلط بين ووهم منتشر بين كل من يتعرضون لمثل هذه الأمور . فلم يعترض أحد وأولهم فرج فوده على إيمان وتقوى وتدين هؤلاء الصحابة، ولكن الاعتراض عليهم عندما مارسوا السياسة وانغمسوا فيها وبدأت حرب حماية المصالح واستحواذ المغانم، ونتساءل عمن كان قاسياً على الصحابة؟ فرج فوده أم السيدة عائشة التى قالت عن عثمان بن عفان ذى النورين: اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً"…، من كان قاسياً؟، فرج فودة أم على ابن آبى طالب كرم الله وجهه عندما قال لابن عباس فى رسالته إليه عندما طالبه برد أموال بيت المال حين كان واليه على البصرة"أما تعلم انك تأكل حراما وتشرب حراما؟"، فالخلط ليس فى صالحهم على الإطلاق حين يحاكمون بمنطق الدين عن تصرفات سياسية"، أما الفصل، والذى كان من رأى فرج فوده بين ما هو دينى وما هو سياسى فهو فى صالحهم حين يحتفظ لهم بالوقار والإجلال الدينى مع وضع أخطائهم فى ميزان السياسة بأخطائها ومصالحها ومناوراتها. فى صفحة 28 يقول المؤلف عبد الغفار عزيز عن فرج فوده: بأنه يبيح الزنا، أما على غلاف الكتاب فيخطو خطوة أبعد وهو أنه يبيح بيوت الدعارة، يعنى أنه يريد تنظيماً للعملية ولا يريدها "سداح مداح، وطبعا هذا الكلام يجد هوى فى نفوس من يعانون من كافة أنواع الكبت والقهر، ويستنفر عزيمة من يقولون بأن المرأة لها ستران الزواج والقبر. والدكتور عبد الغفار عزيز ليس أول من اتهم فرج فوده بهذا الاتهام البشع، فالشيخ صلاح أبو إسماعيل سبقه إلى ذلك، ولكن بأسلوب أكثر بلاغة حينما كتب له فى جريدة الأحرار وطلب منه أن يأتى له بزوجته وأهله فإذا فعل (فرج فوده) فلا كرامة له، وإذا لم يفعل فهو أنانى !! .. وأترك لك عزيزى القارئ الحكم على مثل هذا الأسلوب فى الحوار. ولننظر فيما كتبه فرج فوده فى هذا الموضوع والذى استحق بسببه كل هذا الهجوم وكل هذه البذاءة، فى كتابه "الحقيقة الغائبة" فى معرض رده على من يرفعون عقيرتهم بأن الإسلام هو الحدود، ناقش فيما إذا كان الماضى صورة بالكربون للحاضر، وهل ما كان يطبق على بشر كانوا متزوجين بأكثر من زوجة ، و يتسرون بالجوارى ويحلل لهم زواج المتعة، يطبق على شبابنا المعاصر الذى لا يستطيع ان يتزوج بواحدة لعجز ذات اليد، وألا تشفع ظروف الحياة المعاصرة لهم كما شفعت ظروف المجاعة للسارقين فى عهد عمر؟ وحتى لا يذهب الخيال بالقارئ فيؤيد مؤلف الكتاب فى اتهامه ندعه لكلمات فرج فوده فى كتابه الحقيقة الغائبة ص120 ليدافع بنفسه عن نفسه، يقول : " نحن هنا لا ندعو للزنا، أو نبرر إباحته، كما يحلو للبعض ممن لا يرى الحياة إلا من خلال رجل وامرأة والشيطان ثالثهما، أن يتقول وان يغمز بجهل، أو يلمز عن شبق، ولا نفعل ما يفعله البعض ممن يؤثرون السلامة فيطالبون بإقامة حد الزنا عن ثقة كاملة منهم انه حد مستحيل التطبيق" . ويمضى فرج فوده فى شرح كيف هو مستحيل التطبيق ، فوجود أربعة شهود عدول يرون الفعل رؤية ولوج الرشاة فى البئر و الميل فى المكحلة هو معجزة من المعجزات فى وقتنا الحاضر، ويتحدى فرج فودة هؤلاء المتشدقين بتطبيق الشريعة ان يبحثوا فى ملفات قضايا الزنا من نصف قرن حتى الآن ، وان يعطوه مثالا واحدا لقضية يطبق فيها الحد على واقعة زنا توافر لها أربعة شهود أوفوا بشروط ثبوت الزنا . السؤال هنا من الذى يطالب بالعقوبة ؟ طالب المستحيل، أم طالب تنفيذ القوانين الوضعية الحالية والتى تثبت الزنا حتى بالمكاتيب وشهادة اثنين ، والتى أعدمت ثلاثة من الشبان فى حادثة اغتصاب المعادى مع عدم توافر اربعة شهود رأو وا بعيونهم دخول الميل بالمكحلة ، وبالرغم من تقرير الطبيب الشرعى الذى أثبت بكارتها رغم الإعتداء الجنسي عليها .. ونظن أن البكارة تسقط الحد . أم لمتهمى فرج فوده رأي آخر ؟!! . ناهيك عن العديد من قضايا الإعتداء الجنسي على الفتيات التي روّعت المجتمع المصري وقد حكم القضاء على مرتكبيها بالاعدام إستنادا الى القوانين الوضعية على الرغم من أن بعض محامي الدفاع حاولوا الاستنجاد بالشريعة الاسلامية لتبرئة مرتكبي جرائم الاعتداء الجنسي عندما طالبوا بإحضار اربعة شهود يشهدون بأنهم شاهدوا بعيونهم ولوج الرشاة في البئر والميل في المكحلة !!العلمانية تهمة ينطبق عليها القول " بأنها تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه "، وتذكرنى هذه التهمة بموقف فى فيلم البداية لصلاح أبو سيف عندما أقنع جميل راتب رجل الأعمال سكان الواحة أن أحمد زكى رجل ديمقراطى وبدأ الكل يتعامل معه على انه شخص مجذوم والمفروض ان يبتعد الجميع عنه "ده ديمقراطى يعنى ما يعرفش ربنا ".. !، وكذلك فعل الشيخ عبدالغفار عزيز فالعلمانى عنده رجل كافر، والعلمانية كما يقول فى ص171 مصطلح يعنى اللادينية وليسمح لى بأن أقول له ان هذا ما هو إلا محض كذب وافتراء ولنعد إلى أصلها اللغوى Secularism مشتقة من كلمة لاتينية وهى saeculum بمعنى القرن . ولو شئنا الدقة الكاملة لكانت الترجمة الصحيحة للكلمة هى الزمانية، أي التى ترتبط بالأمور الزمنية، أي بما يحدث فى هذا العالم وعلى هذه الأرض، فى مقابل الأمور الروحانية التى تتعلق أساسا بالعالم الآخر.إذن فالعلمانية لا تعنى من قريب أو بعيد اللادينية على إطلاقها ولكنها تقصر التنظيم السياسى للمجتمع على اجتهادات البشر دون ان يكون لفئة منهم الحق فى الزعم بان هذه وجهة نظر السماء. التكفير ياسادة إعدام مؤجل لحين توافر الإمكانات والشروط، أى لحين توافر من اقتنع ونفذ وأطلق الرصاص ، ولكن وهو يعرف تماما ان من منحه الفتوى منحه معها راحة الضمير، وأجر من غيرّ المنكر بيده .. وبعدها هل يحق لى ان أتساءل بكل براءة وبعد كل هذه السنوات من هو القاتل الحقيقى لفرج فودة؟!!!.
|
فكر
العلمانية ليست إقصاء الدين عن الحياة بل إقصاء رجال الدين عن الحكم
أخبار متعلقة