الطلاق مأساة مروعة وتجربة نفسية قاسية ولكن !
القاهرة/14اكتوبر/وكالة الصحافة العربية: فجرت الفتوى التي أطلقها الأمين العام لهيئة الإعجاز العلمي بالمملكة العربية السعودية الشيخ عبد الله المصلح، والتي أباح فيها بقاء الآباء والأمهات المطلقين مع أبنائهما في منزل واحد لرعايتهم الجدل في الأوساط الدينية، على الرغم من أنه اشترط الابتعاد عن المخالفات الشرعية، باعتبار أنه بانتهاء عدة المرأة فإنها تصبح كأي امرأة أجنبية عن الزوج ولا تحل له مطلقًا وتنطبق عليها كل الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة الأجنبية.. ولكنه أكد أنه لا يوجد مانعًا شرعيًا من بقاء المطلقين تحت سقف واحد، فما هو رأي علماء الدين وعلماء الاجتماع في هذه الفتوى؟ د. محمد فؤاد شاكر أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس يؤيد هذه الفتوى، ويرى أنه يمكن تطبيقها في ظروف ضرورية حفاظًا على الكيان الاجتماعي للأسرة من جانب، ومن ناحية أخرى إبقاء على المرأة وحماية لها، خاصة إذا كانت مسنة أو انتهت فترة حضانتها للأبناء وليس لها أقارب أو أخوة، أو كانت لا تعمل وليس لها مصدر دخل.. فحفاظًا عليها وإكرامًا للعشرة التي دامت بين الزوجين يمكن للزوج أن يسمح لها بالإقامة معه ومع أبنائهما في بيت واحد من أجل تربية الأبناء ورعايتهم بشرط ألا يخلو بها على الإطلاق، وتكون المرأة والرجل ملتزمين بالضوابط التي وضعها الشرع للاختلاط بين الجنسين منها ضرورة حجاب المرأة حتى داخل المنزل والبعد عن التبرج وكشف ما لا يجوز لها كشفه، وألا ينظرا إلى ما لا يجوز النظر إليه والدليل علي هذين الشرطين، قوله تعالى: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم”، وقوله عز وجل: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظهن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن).ويجب ألا تخضع المرأة في الكلام لقوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفًا).. وليحرصا على ألا يكون هناك خلوة بينهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، وألا تظهر المرأة في حالة تثير الرجل من تعطر واستعمال لأدوات الزينة ويجب عدم إزالة الحواجز بينهما أثناء الكلام، وليبتعدا عن اللهو والمزاح، ويجب عدم مس أحد الجنسين للآخر دون حائل أو تلاصق الأجسام عند الاجتماع، لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد فرأي اختلاط الرجال مع النساء في الطريق، فقال للنساء: (استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن -تتوسطن- الطريق عليكن بحافات الطريق)، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.. وهذه الضوابط من الحواجز التي وضعها الدين بين الرجل والمرأة حذرًا من الفتنة والتجاذب الغريزي الذي يغري أحدهما بالآخر.وينبه د. شاكر إلي أنه إذا كانت الزوجة مازالت في عدتها فلها الحق بل هي مطالبة بعدم ترك بيت الزوجية خلال فترة العدة، ولعل الشارع الحكيم أراد من ذلك أن تكون هناك فرصة لمراجعة النفس وعودة الحياة إلي طبيعتها بين الزوجين مرة أخري، لقوله تعالي: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا).[c1]درء مفسدة أكبر[/c]ومن المؤيدين كذلك لتلك الفتوى د. أمنة نصير أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر تقول: إن بقاء المطلقين معًا له آثار إيجابية علي الاستقرار النفسي للأولاد، وهذا خير ألف مرة من افتراقهما وقيام كل منهما بالزواج من جديد، وما قد ينتج عن ذلك من أضرار نفسية للأولاد نتيجة المشاكل التي ستحدث حتمًا بينهم وبين زوجة الأب أو زوج الأم.. والذي يحكم بقاء الوالدين المطلقين معًا في منزل واحد، هو مدي إلمامهما ومعرفتهما بأحكام الشرع في حدود العلاقة بينهما، فإذا التزما بذلك فهذا أفضل من عيش كل منهما في منزل مستقل.. والقاعدة الفقهية تؤكد أن درء المفسدة مقدم علي جلب المنفعة، والمفسدة ليست في بقاء الوالدين المطلقين معاً، بل المفسدة الأكثر هي ضياع الأولاد وتشردهم، وهو ما يعاني منه مجتمعنا بشكل لافت للنظر في السنوات الأخيرة نتيجة التفكك الأسري. وتوضح أن الآثار الخطيرة الناجمة عن انهيار العلاقات الزوجية تؤدي إلي خروج جيل حاقد علي المجتمع بسبب فقدان الرعاية الواجبة له، وتزايد أعداد المشردين، وانتشار جرائم السرقة والاحتيال والنصب والرذيلة، وزعزعة الأمن والاستقرار في المجتمع فضلاً عن تفككه.[c1]الخلوة المحرمة[/c]وعلى الجانب الآخر عارضت د.عفاف النجار عميدة كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر أي مبرر لسكن المطلقين معًا بحجة رعاية الأولاد، لأنه أمر مرفوض شرعا، لأن أضراره أكثر من فوائده، واحتمالات الانحراف أقوي بكثير من احتمالات الاستقامة. وتقول: أحكام الشرع مقدمة علي العاطفة وفيها حماية للمطلقين باعتبارهما أجنبيين عن بعضهما من الوقوع في المحظور الشرعي، وهو لا يقتصر فقط علي الجماع بل ومقدماته من النظرة بشهوة أو اللمس أو الخلوة بالبقاء معًا، ولو للحظات بعيدًا عن الأبناء لأن هذه المقدمات لابد أن تؤدي في النهاية إلى كوارث أخلاقية.وترى د. النجار أن هذه الفتوى تفتح بابًا للوقوع في الزلل، وتضع الرجل والمرأة موضع الشبهات، وهو ما حذرنا منه رسول الله صلي الله عليه وسلم، حين قال: (اتقوا مواطن الشبهات). وتقول: إذا كان المطلقان قادرين علي أن يعيشا في بيت واحد وتحت سقف واحد وكانا حريصين علي مصلحة الأبناء، فلماذا كان الطلاق؟.. وكيف ستتحفظ المرأة في لباسها وزينتها وحركاتها حتى لا ترتكب إثمًا أو تثير مطلقها؟.. ونحن نربأ بنسائنا ورجالنا من أن يضعا أنفسهما في هذا الوضع الشائك، خاصة أن الشريعة الإسلامية كانت واضحة في هذا الشأن وحرمت اختلاء الرجل بامرأة أجنبية عنه، إلا في وجود محرم، والأحاديث النبوية الشريفة الدالة علي ذلك كثيرة، ومنها ما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)، وقوله صلي الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)، وقوله: (إياكم والدخول علي النساء فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو قال الحمو الموت).وسكن المطلقين نفس الشقة خلوة محرمة، والمراد بالخلوة المحرمة شرعًا هو انفراد الرجل بامرأة أجنبية عنه لا يكون معهما ثالث بحيث يحتجبان عن الأنظار في مكان يستأذن للدخول فيه أو يأمنان فيه من دخول أحد عليهما، ويكون بعيدًا عن أعين الناس ولا يكون معهما محرم، وكذا لو كان معهما من لا يستحي منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم.. ومنعت الخلوة لكونها بريد الزنا وذريعة إليه، فكل ما وجد فيه هذا المعني ولو بأخذ وعد بالتنفيذ بعد فهو في حكم الخلوة المحرمة.. ومن المباحث في الخلوة انفراد رجل بامرأة في وجود الناس، بحيث لا تحتجب أشخاصهما عنهم، بل لا يسمعون كلامهما.وتضيف د· النجار: حماية الأسرة تكمن في اتباع منهج الإسلام وهدية ومعرفة أن الإسلام إنما أباح الطلاق في الحالات التي تستحيل فيها مواصلة الحياة الزوجية، ويكون الطلاق أخف الضررين.. والإسلام وإن كان قد أباح الطلاق فقد جعله أبغض الحلال إلي الله تعالي، كما في حديث ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، ووضع له حدودًا وآدابًا إذا خرج عنها حتمًا سيسبب أضرارًا على المجتمع بأسره، وكل ما علينا هو التزام تلك الآداب لنخفف من وطأة تلك الأضرار.[c1]تعايش مرفوض[/c]ويتفق د. عبد الحي عزب بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر مع الرأي السابق، ويقول: نأخذ بمبدأ الخلاف في الاجتهاد لا يفسد للفقه قضية.. والأصل في الفقه أنه مبني علي الخلاف، ومن هذا المنطلق فأنا لا أوافق علي ما جاء في هذه الفتوى وأري أنها تتعارض تماما مع المبادئ الإسلامية التي تمنع اختلاء الرجل بامرأة أجنبية عنه، مصدقًا لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: (ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما).وهذه الفتوى تفترض تعايش رجل وامرأة الأصل أنهما أجنبيان حتى لو كانا زوجين في السابق، إلا أن الفتوى تصدر حكمها علي الواقع الحالي وهو أنهما صارا بالطلاق أجنبيين.. فهل من المعقول أو المقبول أن يعيش رجل أجنبي مع امرأة أجنبية عنه في شقة واحدة أو مكان واحد حتى لو كان معهما أبناؤهما؟.. وكيف يمكن اجتناب المحرم وهو في قلب الحمي وليس حولها؟!وقد نبه رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي الابتعاد عن الخطر والوقوع في المعصية قائم لا محالة.. أما القول بإمكان التحرز منها بوجود أولاد أو يعيش كل منهما في حاله، فهذا أمر محفوف بالمخاطر ويصعب اجتنابه·· والشارع الحكيم يعلم أن الطلاق ضرر لكل أفراد الأسرة، لذا جعله أبغض الحلال لكنه في الوقت نفسه أخف الضررين، من استمرار الحياة الزوجية فتتفاقم فيها المشكلات بين الزوجين·· ولذا حدد الشارع الحكيم واجبات كل من الزوجين عند الطلاق حماية وحفظًا لحقوق الأبناء، فجعل الحضانة للأم لقدرتها علي رعاية الأبناء وتوفير الحنان والاهتمام لهم، وجعل الإنفاق والمتابعة مهمة الآباء وبذلك يتحقق لهم الرعاية النفسية والمادية.ونبه الشارع لضرورة ألا تتخطي مشاكل الآباء والأمهات إلي أبنائهما لقوله تعالي: « وعاشروهن بالمعروف أو سرحوهن بإحسان» ، وكلاهما لا يتحقق إلا إذا راعي كل طرف واجباته تجاه أبنائهما للتخفيف من أثر الطلاق عليهم، وليس بأن يقيما معًا بما يخالف الشرع حتى يقوما برعايتهم.[c1]باطنها الرحمة وظاهرها العذاب[/c]وتؤكد د. سعيدة أبو سوسو أستاذ علم النفس بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر: أن خطورة هذه الفتوى تكمن في الآثار النفسية والاجتماعية المترتبة عليها وتنعكس بصورة كاملة علي الأسرة والمجتمع.. وتؤدي إلي سليلة فكر وعقول المسلمين وحيرتهم في أمرهم. وأضافت أن هذه الفتوى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فهي تهدف إلى حماية الأبناء من مخاطر الانحراف والتشرد والضياع بعد طلاق الأبوين، لكنها في الحقيقة ستؤدي إلي مزيد من الآثار النفسية السلبية علي الأبناء، فوجود الأبوين المطلقين في منزل واحد قد يتسبب في ضياع الأبناء، بدلاً من استقرارهم نفسيًا·· ولو أن الآباء والأمهات تذكروا حقوق أبنائهم عليهم قبل الطلاق، لفضلوا البقاء معًا في حياة زوجية شرعية حتى وإن كان كل منهما منفصل حقيقة عن الآخر لرعاية أبنائهم، بدلاً من الطلاق والعيش معًا حياة غير شرعية لتحقيق نفس الهدف.وتضيف د.أبو سوسو: إن أحدًا لا ينكر أن الطلاق بالنسبة للأطفال مأساة مروعة وتجربة نفسية قاسية، تؤثر علي بناء شخصيتهم فيصابون ببعض الأعراض الجسدية كالصداع والاضطرابات المعدية المستمرة، وبعض العقد النفسية كالشعور بالتعاسة وعدم الاستقرار، ويتأثر تحصيلهم الدراسي، وذلك نتيجة موقفهم العاجز أمام هذه المشكلة وحرمانهم من البيئة الطبيعية التي كان يفترض أن يعيشوا فيها، فتنشأ لديهم روح النقمة بسبب إبعادهم عن آبائهم أو أمهاتهم، ولتأثرهم بالجو العدائي المحيط بهم نتيجة خصام الوالدين وعراكهم المستمر ، ومن ناحية أخري لا يمكن أن نجمع رجل وامرأة كان بينهما حب وود ولحظات جميلة فيما مضي في منزل واحد، ونقنع أنفسنا بأنهما ليسا بشرًا وليس لديهما مشاعر أو أحاسيس أو لحظات ضعف·· فهذا الوضع بكل المقاييس سيمثل ضغطًا عصبيًا ونفسياً كبيرًا علي كل من الزوجين، خاصة المرأة التي ستفقد شعورها بالراحة والاطمئنان النفسي لوجود رجل أصبح بحكم الشرع أجنبياً عنها مما يتطلب منها مراعاة كل تصرف أو سلوك أو كلمة تصدر منها، وبهذا الشكل نجد أنفسنا أمام علاقة تحفها المخاطر، ويمكن أن تؤدي في النهاية إلي كوارث ومشكلات أخلاقية المجتمع والأسرة في غني عنها.[c1]فساد حقيقي للمجتمع[/c]وترفض د. مها الكردي أستاذ علم النفس بالقاهرة هذه الفتوى بشدة·· وتقول: هذه الفتوى كلمة حق يراد بها باطل، فصاحب الفتوى جعل من حماية مستقبل الأطفال من الضياع بعد الطلاق هدفًا أمامه، لذا أصدر فتواه وهو علي حق في الأساس الذي أصدر فتواه لأجله، فالطلاق له مضاره الاجتماعية وآثاره النفسية السيئة علي الأسرة والمجتمع، خاصة علي الأطفال بدءًا من إصابتهم باضطرابات نفسية إلي السلوك المنحرف والجريمة، فالأطفال الذين ينشأون في أسر متفككة معرضون أكثر من غيرهم للانحراف، إذا ما توافرت الظروف المواتية لذلك، كما يفقدون القدرة علي التواصل النفسي مع الأبوين، مما يؤثر سلبا علي عملية تنشئتهم النفسية والاجتماعية التي هم في أمس الحاجة إليها في بناء الشخصية السوية، فاحتياجات الطفل ليست مجرد لعب وهدايا؛ فهو أيضًا ينمو، وبالتالي فهو يحتاج إلي رعاية مستمرة تؤثر إيجابيا في بنائه النفسي والاجتماعي، وتربية الأبناء تحتاج إلي مجهود كبير من الوالدين لتنشئتهم بصورة سليمة، لأنهم ليس لهم ذنب فيما آلت إليه علاقة الآباء والأمهات، وعليهم حمايتهم من المشاعر السلبية التي يعانون منها، فالأبناء أشخاص مستقلون، وكل ما يمكن أن نفعله تجاههم أن نمدهم بالحب والرعاية والأخلاقيات التي تمكنهم من التعامل الكفء مع المجتمع.وتضيف: وقد أثبتت الدراسات أن عيش الزوجين -رغم مشاكلهما الكبيرة- منفصلين أفضل ألف مرة بالنسبة للأبناء من الطلاق، إلا أنه إذا كان هناك بد من الطلاق فليكن كما أراد له الشارع أن يكون بانفصال كل من الزوجين بمعيشته عن الآخر، لأنهما لا يستطيعان العيش معا تحت سقف واحد لذا تم الطلاق، وكذلك حتى يشعروا بألم التفكك الأسري وبصعوبة تحقيق الرعاية الكاملة لأبنائهما واضطرارهما لبذل مزيد من الجهد، ولعل ذلك يكون سببًا لعودة الزوجين مرة أخري لاستئناف حياتهما معًا.وتري د. مها الكردي أن هذه الفتوى بداية فساد حقيقي للمجتمع، الذي يرفض بقاء رجل وامرأة أجنبية من الناحية الشرعية معاً في منزل واحد وستطاردهما الشائعات القاتلة وسوء السمعة، وذلك بحكم التقاليد الشرقية.