منيرة مصباح :لن ابدأ بنعي محمود درويش، فهذا الشاعر الذي نبت شعره من الزهرة وسنبلة القمح ونسمة الهواء، من معاناته التي تتمثل في معاناة شعب كامل،يرمز الى معاناة البشرية في كل مكان وزمان، من ثقافة انسانية عميقة الجذور لا تؤمن بالحدود والاجناس والالوان، عزاؤنا الوحيد فيه انه راحل بشعره دائما وابدا في دواخلنا.. وافكارنا .. واحلامنا..مع محمود درويش وشعره لم استطع الا ان اكون في حالة انحياز، وسأبقى، هذا الانحياز ليس انحيازا عاطفيا فقط، ينطلق من انتماء لفلسطين، انما هو انحياز ينطلق من تلاق فكري وابداعي حول الشعر الذي استطاع محمود درويش به ان يمحور ذوقي اللغوي والفني حوله منذ بدايات كتاباتي. واذكر كيف كنت وزملاء الدراسة نتسابق للحصول على قصائده المهربة من السجن والتي كان استاذ الادب العربي يحصل عليها سرا ليوزعها علينا.لقد كان على محمود درويش ان يسبغ على علاقته بالقصيدة بعدا فلسفيا واحيانا ميثولوجيا نابعا من خصوصية علاقته كشاعر فلسطيني بثقافته الواسعة، والتي جعلت من مهمته تخليد الرموز التي تتماهى مع الوطن بحيث اصبح هو متوارياً بين حروفها ذلك التواري الذي يعطي للقصيدة بعدها الجمالي.وموضوعة الخلود هذه ليست جديدة فقد وضعها افلاطون في المنظور السوي عندما اكتشف ان الابد يتحول الى زمن، هذا اذا كان له ان يتحرك، فالابد نوع من زمن مجمد. اما ويليم بليك فيضع النقاط على الحروف حين يقول : الابد يعشق اعمال الزمن . وكذلك شعر محمود درويش معشوق للابد. وكما قال كارلوس فوانتيس، فان على الحقائق ان تدفعنا للتأكيد على ان اللغة هي حجر اساس الثقافة، بوابة التجربة، سقف الخيال، قبو الذاكرة، غرفة نوم الحب، وقبل كل شيء نافذة مفتوحة على هواء الشك وعدم اليقين والمساءلة. ان في كل شاعر عظيم مشروعا انسانيا، وهذا ما حمله محمود درويش في عقله وقلبه، ولنسمه ولعا او حبا او حرية او عدلا يدعونا لتحقيقه، حتى لوعرفنا ان الفشل مصيره. لكن عبر وعيه الضمني او الصريح لذاك الفشل ينقذون ويجعلوننا ننقذ طبيعة الحياة ذاتها مع الوجود الانساني وقيمه التي تذكرتها كافة العصور والشعوب واسر الجنس البشري دون الاستسلام لأوهام التقدم المستمر والسعادة الاكيدة. وليس بمقدورنا ان نتجاهل الاستثناءات المأساوية التي تواجهها البشرية باستمرار .ان معرفة القدرة على المقاومة لدى الشاعر تعني اننا نملك القدرة للنصرعلى الموت في لحظات معينة وكما فعل هو مرتين قبل رحيله الابدي. لذلك يقول محمود درويش في الجدارية: ( هزمتك يا موت الفنون جميعها/ هزمتك يا موت الاغاني/ في بلاد الرافدين).( ايها الموت انتظرني خارج الارق/ انتظرني في بلادك ريثما انهي/ حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي). الحرية مأساوية لأنها تدرك ضرورتها وحدودها في آن، وقد وعى محمود درويش ذلك بشدة لذلك يقول في احد تصريحاته للصحف الفرنسية ان الفلسطيني الجدير بهذا الاسم، ينبغي ان يغتني بكل الثقافات التي كونته، من البابلية والسومرية الى اليهودية والمسيحية والاسلامية مرورا بالفارسية والعثمانية ....... وانها لفرصة ان ينتمي المرء الى بلد تشرب ثقافات قديمة عريقة ... وليس من الشاق على امرئ محاصر مطوق .. واقع تحت القصف، ان يفلح في الاستمتاع بقراءة نشيد اي كان او قصيدة. هذا هو محمود درويش الشاعر الفلسطيني المولود في قرية البروة احدى قرى فلسطين التي اقام عليها الاسرائليون احدى مستوطناتهم بعد احتلالها ....ومنذ ان كتب في المعتقل قصيدة (احن الى خبز امي)، و)من آخر السجن طارت كف اشعاري) و)عاشق من فلسطين)، الى قصائد (كزهر اللوز أو أبعد)، كان محمود يخط مشروعه الشعري الخاص مع وجود مراحل عدة لهذا المشروع الذي لم تغب فلسطين في اي مرحلة من مراحله، بل بقيت قابعة كما هي رغم التحولات على ارض الواقع، ولم تغادر روح وفكر وعقل الشاعر رغم المنفى الجسدي الذي يحاصره .. اصبحت فلسطين في المخيلة هي المعادل للمنفى الواقعي.لذلك لا نستطيع ان نفصل سيرته الشعرية عن الوطن المتخيل .. فمنذ ان كتب (لماذا تركت الحصان وحيدا) الى (سرير الغريبة) الى (الجدارية) وتجربة الموت السريري، الى (حالة حصار) وتجربة الانتفاضة، ثم (لا تعتذر عما فعلت) واخيرا وليس آخرا (كزهر اللوز او ابعد) والشاعر يسير في مشروعه الجمالي الملتصق بالوطن كمتخيل انساني تاريخي لا يغادر فكره .. وهو بنفسه القائل: ان قصائدي الجديدة تقاوم قصائدي القديمة ، لكنها كلها مشروع شعري متكامل، انها قصائد تثير حاسة الانتباه الشديد ضد التقليد. انها تتعامل مع الراهن وتسعى الى ارض لغوية تحول الراهن الى ماض، وهي تعالج الهم العام من دون سقوط النص في الحدث الذي كتبت عنه القصيدة.) فالشاعر او المواطن برأي محمود درويش من حقه ان يعيش حياته بلا نضال ولا خوف ولا هاجس الموت قتلا .. ولا عقدة النقص نتيجة خسارة الوطن او السعي الى استعادة الوطن. ان ديوان محمود درويش (كزهر اللوز او ابعد) هو خلاصة عقود محمود درويش الشعرية. وفي هذا الديوان تخفف الشاعر من كل شيء الا من حكمة الزمن ونبض الشعر.ويبدو هذا واضحا في الديوان من الغلاف الاول الى الغلاف الاخير . فهو يستبق الشعر بمقدمة قصيرة من كتاب (الامتاع والمؤانسة ( لأبي حيان التوحيدي : ( احسن الكلام ما... قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم).لكن الشاعر الذي عاش وحدته وتفرده لتصبح القصيدة صاحبته الدائمة ويصبح الشعر بيته الباحث الدائم عنه، ذلك البيت الذي اصبح وطنا في داخله كما الوطن المتماهي فيه. ومع هذا فان درويش في (كزهر اللوز او ابعد)، قد تعمد عدم نسيان الاخرعندما خاطبه قائلا: وانت تعد فطورك فكر بغيرك ... لا تنسى قوت الحمام وانت تخوض حروبك فكر بغيرك .... لا تنس من يطلبون السلام وانت تعود الى البيت، بيتك، فكر بغيرك ... لا تنس شعب الخيام كما انه خاطب الغائب الدائم الوطن المرأة والموت ... لكن هذا الغائب هو حاضر في اعماقه مع نقيضه ليجعل الشاعر متوحدا مع ذاته وخياله وغائبه.. لقد احتضن محمود درويش عمره بلوعة الحنين .. مع ذكريات بلا مرارة .... وطار محلقا في الابد داخل الايقاع على اجنحة الكلمات ليفتح فضاء اللغة في القصيدة حتى شف الشعر لديه في مخاطبته لكل الضمائر .قائلا: (هي لا تحبك انت ... يعجبها مجازك...... يعجبها اندفاع النهر في الايقاع كن نهرا لتعجبها ويعجبها جماع البرق والاصوات قافية .............فكن الفا لتعجبها .هكذا كانت قصة اللوز وزهره عند محمود درويش. انها رواية طويلة لوطن وحب ولوعة تبحث عن نغمة ..عن ابتسامة عن فضاء جديد للغة والتاريخ والانسان .فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا .. وأنا الصدى؟ وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت على الاغصان من خفر الندى. لن اقول وداعا محمود درويش، فأنت قصيدة مقيمة دائما في احلامنا.[c1]* (كاتبة عربية تقيم في امريكا) [/c][c1]عن القدس الغربي[/c]
أخبار متعلقة