[c1]سايمون جنكنز *[/c] لا يوجد لأحد حق مطلق للحرية، فالحضارة هي قصة بشر يُضّحون بالحرية من أجل العيش معا في وئام وتوافق. ولسنا بحاجة لهوبز .. (( توماس هوبز )) كَانَ فيلسوفاً إنجليزياً، وأحد رموز القرن السابع عشر الميلادي في علم الاجتماع" كي يُخبرنا بأن الحرية المطلقة هي من شيم الهمج حديثي الولادة. حيث أن ما عدا ذلك إن هو إلاّ عبارة عن تساوم. هل كان لصحيفة دنماركية يمينية أن تحمل على صفحاتها رسومًا ساخرة للنبي محمد الذي يؤمن به أكثر من مليار مسلم في هذا الكوكب؟ لا. وهل كان لصحف أخرى تكرار نشرها، وهل كان لقناة الـ BBC التليفزيونية البريطانية الإيماء بعرضها بشكل مثير لإثبات رجولتها فيما يتعلق بحرية الكلام. لا . هل على الحكومات الاعتذار عنهم أو منعهم من تكرار الإساءة؟ لا، ولكن ذلك ليس هو القضية. الصحافة الخبرية ليست صومعة، حيث يتعامى فيها العقل عما يجري في العالم وتصمّ فيه الآذان تجاه ردّات الفعل. إن كل بوصة من كتابة منشورة تعكس وجهات نظر كتّابها وحُكم مُنقّحيها. وفي كل يوم تتخذ الصحف قرارًا بشأن التوازن فيما يتعلق بالجرأة، والإساءة، والذوق، والتوجّه، والتهوّر. عليهم أن يقرّروا من الذي يُسمح له بصوت ومن الذي لا يُسمح له بذلك. إنها مقيّدة بقوانين التشهير، والآداب العامة، وإحساسها ذاتها بما يُعدّ مقبولاً لدى القرّاء. الكلام بحُرّية ممكن على قمة الجبل فقط؛ وفي ما عدا ذلك فكلّه تنقيح! وعلى الرغم من موقف البريطانيين المتين من الدين، لن تجد عندهم صحيفة تسمح لرسام كاريكاتير بتصوير السيد المسيح عليه السلام وهو يرمي بقنابل عنقودية، أو بالسخرية من محرقة اليهود (الهولوكوست). وصور أجساد الموتى لا تُنشر عادة إذا كان من المحتمل رؤيتها من قبل أفراد عوائلهم. فالخصوصية والكرامة محترمتان، وإن كان مثل ذلك التقييد مجهولاً لدى القرّاء عادة. وفوق كل صفحة صحيفة يحوم رقيب ما، حتى وإن كان شُرّف بلقب المحرّر. إن الإيحاء بأن الرسوم الكاريكاتيرية أثارت تلك المسألة الخطيرة؛ التوجّس من الرقابة، هو بمثابة هراء. فقد كانت تلك الرسوم مسيئة وتحريضية. وأفضل سياسة كانت ممكنة هي الاعتذار والتزام السكوت. وبالنسبة لمطالبة الصحفيين الدنماركيين "تضامنًا من كافة أنحاء أوروبا" من أجل مبدأ حرية الكلام، والتهكّم من أولئك الذين أهينوا، كونهم "أصوليين... لديهم مشكلة مع العالم الغربي بأسره"، فإن ذلك يُعدّ أقرب إلى الاستفزاز العرقي. إننا لا نجول الأرض مُكيلين الناس لكمات في الوجه كي نختبر التزامهم بعدم العنف! فكي تكون أوروبيًا يجب الا يتضمن ذلك تلقينًا مبتدرًا بإهانة دينية. ويبدو أن العديد من الناس فوجئ بأن الأزمة متعدّدة الثقافات قد تأتت بسبب الدين وليس بسبب الأصل العرقي. والحقيقة أن أغلب المهاجرين الوافدين من العالم الإسلامي يقصدون البحث عن العمل والأمان. لقد رضوا بالتمييز العنصري وإنزالهم منزلة ثقافية دنيا كثمن للقبول. غير أن أغلبية الأوروبيين، وبغض النظر عن مدى تكتّمهم، يعتبرون تلك المنزلة الثقافية معقولة. غير أن ما لم يتوقّعه المسلمون هو أن ذلك القبول يتطلّب منهم السماح بالسخرية من معتقدهم، والشعور بالذنب بالتبعية كونهم محسوبين على أشرس وأعنف أتباع الإسلام في الشرق الأوسط. إن الإسلام دين عريق ومُكرّم. وكما هو الحال مع المسيحية فإن من الممكن تأويل تعاليمه بشكل مختلف واستخدامها من أجل غايات متعطّشة للدماء، إلاّ أن الإسلام نفسه ذو نقاوة وبساطة. بعض تلك النقاوة يكمن في تجرّده وجزء من ذلك التجرّد مقت التعرض للرموز. والدنماركيون كانوا حتمًا على علم بأن تصوير الله بهيئة بشر تعالى سبحانه عن ذلك علوًا كبيرا أو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على أنه إرهابي حاشاه من ذاك سيؤدي إلى سخط المسلمين. ومن التغابي الواضح الزعم بأن مثل هذا الكفر ما هو إلاّ فكاهة تنسجم وطريقة الحياة الغربية. ولعل من الأنسب تبنّي أنها وحشية متعمدة، حيث إنها ما كانت لتبدو إلاّ كذلك. واستعارة من شكسبير بتصرّف؛ ما هو بالنسبة للمسيحيّ "كلمةً هوجاء ليس إلاّ"، فإنه يُعدّ كفرًا بواحًا لدى المسلم. والمتفحّص للمتضررين من العولمة أجمعهم يجد أن الوعي الديني أعظمهم شانا. أذكر هنا أني لاحظت في إحدى المرّات في مطار بغداد كيف أن امرأة عراقية بادية الوقار أصبحت في حالة هستيرية تامّة عندما وجّه حارس أميركي كلبه "النجس" المدرّب على شمّ الأشياء، إلى تفحّص نسختها من المصحف. فما كان من المجنّد إلاّ أن شتمها قائلاً: "أوه.. من أجل السيّد المسيح تعبير دارج لدى الغربيين أخرسي!" ممّا ترك عليها علامات الحيرة والاستغراب، كونه ذكر المسيح عليه السلام دفاعًا عمّا قام به. ومثل ذلك؛ فإن الجندي الأميركي أو البريطاني، يعتبر أن الدخول عنوة أثناء الليل إلى مرافق النساء في بيت عربي، من مهام حفظ السلام العادية ليس إلاّ. في حين أن ذلك بالنسبة للعربي أمر ممقوت، يفوق أي تصوّر. كما أن المسلمين لا يفهمون تمرير الغرب لمثل هذه التصرّفات والاعتذار لها، مثلما يفعله توني بلير، باعتباره مثل تلك الانتهاكات أنها أهون إذا ما قورنت بما كان يقوم به صدّام حسين، وكأن صدّام كان معيارًا للسلوكية العالمية! إنه لمن الواضح صعوبة تفهّم الغربيين للفزع الذي تسبّبه هذه الإيماءات للمسلمين. والسؤال الذي يطرح نفسه ليس هل يجب أو لا يجب على المسلمين "النضوج" أو احترام حرية الكلام. بل هو عمّا إذا كنا نريد فعلاً التشارك في العالم بسلام مع أولئك الذين لديهم قيم ومعتقدات دينية مختلفة عن تلك التي عندنا. ويُظهر طلب الصحفيين الأجانب من الصحف البريطانية موافقتهم في هجمتهم تلك، أن الاستعلاء الخُلقي مُفعم بالحياة داخل مكاتب التحرير في أوروبا الشمالية مثلما هو الحال في شوارع الفلّوجة. وإن الاعتقاد بأن التسبّب في إساءة دينية يجب أن يُحمل على أنه من علامات الرجولة الغربية لأمر مشين حقًا. إن المحافظة على التوازن التقليدي ما بين حرية الكلام واحترام مشاعر الآخرين أضحى واضحًا للعيان أن من الصعب المحافظة عليه. والاضطراب الناتج لا يسعه إلا أن يُغذّي دعايات اليمين ودعوتهم لمهاجمة أو طرد المهاجرين وأولئك من ذوي الثقافة الدخيلة. كما لن يسعها إلاّ أن تُغذّي شهية الحكومة الساعية لتقييد حرية الكلام في المواضع التي تكون فيها مؤثّرة بحق، كما هو الحال عندما يُهمّ بانتقادها أي الحكومة! وليس هناك أدنى شك بأنه لو كان قُدّر للنص الأصلي للائحة وزارة الداخلية المتعلّقة بالدعوة لإثارة الكراهية الدينية أن تُسنّ قانونيًا، لكان نشر الرسوم الكاريكاتيرية في بريطانيا عندها أمرًا مخالفًا للقانون. ولما كان هناك حاجة لإثبات التعمّد في التسبب في كراهية دينية، وكان ليكفي إثبات تهمة "التهوّر" فقط! وحتى مع تعديلات البرلمان فلعلّ اللائحة تسمح للادعاء العام بتصوير الرسوم الكاريكاتيرية على أنها مُهينة ومُسيئة، ورفض السماح لهيئة الدفاع الادّعاء بأن القصد كان مهاجمة الأفكار وليس الناس. يذكر أن نفس النكهة لرقابة واسعة النطاق كان تمّ الإفصاح عنها ضمن آخر لائحة لمكافحة الإرهاب قام بتقديمها تشارلس كلارك وزير الداخلية البريطاني. وكانت المحاولة - التي تمّ تقييضها هي الأخرى من قبل البرلمان - تدعو آنذاك إلى تجريم تمجيد الإرهاب "العبثي"، حتى وإن لم يكن وراءه قصد. لقد أرادت تلك اللائحة أن تُجرّم أولئك الذين قد تكون عباراتهم احتفت أو امتدحت تغييرًا للحكومة من خلال استخدام العنف، سواء كانوا يقصدون ذلك أم لا. واقترح كلارك في لائحته تلك وضع قائمة "وفقًا للقانون" فرّق فيها ما بين تلك الشخصيات التاريخية التي صنّفها على أنها إرهابية وما بين أولئك الذين قرّر أنهم كانوا "مقاتلين من أجل الحرية". والصنف الأخير، كما صرّح، ربما كان سيشمل الآيرلنديين. لقد كان ذلك عبارة عن رقابة تاريخية لطموحات استالينية بحقّ. واليوم يحكُمنا مثل هؤلاء الرجال! وسعي وزير داخلية عصري لنيل مثل هذه السلطات ليُبيّن الخطر المحدّق الذي من الممكن أن يؤدي إليه انهيار ضبط النفس من قبل أجهزة الإعلام. وكانت هناك دعوة من بعض - وليس كلّ - زعماء المسلمين تطلب من الحكومات الغربية أن "تعتذر" عن الرسوم الكاريكاتيرية، وبطريقة أو بأخرى، إلى منع نشرها. لقد افترضت تلك المطالب أن الحكومات كانت قد وافقت ضمنًا على الرسوم الكاريكاتيرية وبالتالي فإنهم كانوا في وضعيّة تدعوهم للتكفير عن ذلك. وهناك العديد من الحكومات التي قد يسعدها الوقوع في هذه المصيدة وبالتالي ستسعى للسيطرة على أفعال قد يتوجب عليهم الاعتذار عنها. إن الافتراض العفوي للّوم حيث لا وجود لما يلام عليه أصلاً يُغذّي عَظَمة الاستغفال الوزاري، كما هو الحال مع اعتذار توني بلير السخيف عام 1997 م حول مجاعة البطاطس الآيرلندية! إنّنا حين نتكلّم عن جميع حالات الدعوة للتنظيم الذاتي فإن الخطر بيّن وجليّ. فإذا لم تقم المؤسّسات المهمة، وفي هذه الحالة نعني الصحافة، بممارسة ضبط النفس، حينها ستقوم الحكومة بمزاولتها عنهم. ومن المعلوم أن نَسب تبعات شرّيرة إلى معتقد ديني بعينه هو بمثابة طريقة مؤكّدة للتسبّب في الإساءة للآخرين. وعلى نفس المستوى فإن منع مثل تلك الإساءة هو الآخر طريقة أكيدة لسياسيّ ما لتحميل أقليّة ما المنّ لما فعله لصالحهم، وهكذا تتقدّم النزعة الاستبدادية. ووزارة الداخلية الحالية ليست في حاجة لمثل هذا التشجيع! من المفروغ منه أن الإساءة للخصم تُعدّ ومنذ سحيق الأزمان على أنها من سمات المجادلين العنيفين، تمامًا مثلما أن تحدّي حدود الذوق عُدّ من سمات الفن. ومن الصحّة بمكان أن يُحاط الأمر بالقيود القانونية والخُلُقية. وهذه تشمل قوانين الحدّ من التشهير والافتراء على الآخرين، ومفاهيم من مثل ممارسة التعليق العادل، وحقّ الردّ على الغير من دون تحريك مشاعر الكراهية العرقية. وليس من بين هذه - ولا حتى واحدة - تحمل صفة مطلقة. فكلها تعتمد على التمرّس على الحُكم من قبل أولئك الذين في مواقع القوّة. وجميعها يعتمد على حصن الديمقراطية إيّاه؛ تحمّل مشاعر الآخرين. وهذا قد تمّت الإحاطة به من قبل اللورد كلارك بتعريفه المتميّز للحضارة: المجاملة. العديد من السياسيين لا يفضّلون ائتمان الآخرين على ضبط النفس، بل يؤْثرون الاستحواذ على سلطة القيام بالضبط بأنفسهم. والتشريعات القانونية البريطانية الأخيرة تُظهر أن هناك رقيبًا ينتظر في كل زاوية. والأسبوع الذي أزف لابد وأنه أدى إلى رفع آمال ذلك الرقيب إلى مستويات عليا، وكل ذلك بسبب ألاعيب بلهاء قام بها قلة من الصحفيين الأوروبيين. إن أفضل دفاع عن حرية الكلام لا يكون إلاّ من خلال لجم تجاوزاتها، واحترام مجاملاتها. * باحث في المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب
الإساءة إلى الأديان تجاوز لحرية التعبير
أخبار متعلقة