أضواء
في العقود الأولى من القرن العشرين أطلقت الحركة الوطنية المصرية نداء (الدين لله والوطن للجميع) وحققت إنجازات وطنية واستقلالية عدة على أساسه. ومازال هذا النداء مطلباً ملحاً إلى يومنا هذا في مختلف الأوطان العربية، التي يتعرض بعضها بالفعل للتقسيم والتجزئة. نعم ... الدين لله والوطن للجميع. قناعة توصلت إليها جميع الأمم السائرة على درب التحضير والتحديث، غرباً وشـرقاً، بعد أن شهدت حروباً أهلية مدمرة كان الجميع فيها خاسرين، إلى أن استقامت على مبدأ المواطنة، فانطلقت دولاً، تبني وتعمر لصالح شعوبها وجوارها والعالم أجمع. وفي المقدمة أصبح الدين مجالاً حراً طليقاً للارتقاء بالإنسان من دون تدنيسه بألعاب الصراعات السياسية. قبل سنوات كنت أسمع أخبار الصراع العنيف بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا الشمالية، والتفجيرات الإرهابية وقتل الأبرياء التي كانت تمارسها الأطراف المتورطة في ذلك الصراع، وكنت أعجب من ذلك لأني كنت أرى أن الطائفتين المسيحيتين متعايشتان في الأنحاء الأخرى ببريطانيا، وفي أوروبا وفي أمريكا وفي سائر أنحاء العالم. المذهب أو ذاك، تماماً كما كان الحال في المجتمعات العربية قبل أن تصيبها عاهة اللعب بالدين والمذهب من أجل السياسة. وفيما عُرف بـ”الفتنة الكبرى” في مطلع تاريخنا السياسي الإسلامي لا يحدثنا التاريخ عن ان الذين رفعوا المصاحف فوق رماح الصراع السياسي كانوا أهل “تدين قوي”، بل كانوا طلاب دنيا وسياسة! وعندما ينتقل المرء إلى عصرنا الحديث ويدرس الصراع الدموي في ايرلندا الشمالية مع غيبته التامة بين الطائفتين في أي مكان آخر، يكتشف انه لابد أن يفتش عن مشكلات الصراع السياسي هناك، فالجانبان غير متدينين في سلوكهما أصلاً، وهما لا يتقاتلان حول طبيعة السيد المسيح عليه السلام! إذن، في أي مكان في العالم، عندما ترى كتباً مقدسة مرفوعة على رماح الصراع فتش عن الخفايا السياسية والأطماع الدفينة والنوازع الدنيوية المغذية لذلك الصراع. تجزأت بعض الأوطان لأسباب قبلية، كما في الصومـال، ولأسباب قومية كما في قبرص، ولأسباب فئوية كما نشهد في العراق أو في لبنان. وهذه مجرد أمثلة بين حالات كثيرة أخرى. ولكن جميع الذين تباعدوا وتقاتلوا اكتشفوا أنهم جميعاً خاسرون وأنه لابد من العودة إلى إطار الوطن والمواطنة الجامعة، فنحن في عصر الكيانات التي تكبر، لا الكيانات التي تتقزم وتتشرذم.. فلا شيء يعدل الوطن. وعندما نرى اليوم تنامي “الاتحاد الأوربي” فعلينا ألا نخطئ في الحكم. فأوروبا الموحدة تتنامى على وحدات وطنية سليمة لا يفكر أحد بإلغائها أوطاناً ودولاً. عندما انهار النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، وسقط حائط برلين سارعت ألمانيا الغربية، بكل ما لديها من زخم اقتصادي، واحتضنت الألمان الشرقيين في ألمانيا الموحدة رغم فداحة الثمن اقتصادياً واجتماعياً. وفي تقديرنا إذا سمحت الأوضاع السياسية بين الكوريتين بالوحدة القومية بينهما، فإن ذلك قادم حتماً. ولا خيار للإنسانية إلا الرابطة القومية قبل كل شيء. فالايدولوجيا المضللة -وحدها- هي التي تتوهم أن الظاهرة القومية انتهت من حياة الأمم، لكن هذه الايدولوجيا العمياء تتلاشى كالزبد، وتبقى الحقيقة القومية -كما الحقيقة الدينية- لأن ما ينفع الناس هو الذي يبقى في الأرض. نعم.. لا شيء يعدل الوطن. وعلينا أن نتأمل في الحالة الموحية بجزيرة قبرص بين الأتراك واليونان حيث جيل الشباب من الجانبين لم يعش تجربة قبرص الموحدة كوطن مشترك. لكن هذا الجيل، ومن الجانبين، يريد إعادة الشطرين المجزأين إلى كيانهما الوطني السابق، الذي كان موحداً في البداية برئاسة الأسقف مكاريوس. والمعروف أن أتراك قبرص ينتمون إلى القومية التركية ويتحدثون لغتها وهم مسلمون بينما اليونانيون في قبرص ينتمون إلى القومية اليونانية ويتحدثون لغتها وهم مسيحيون. فلا شيء يجمع الطائفتين غير أرض قبرص الواحدة. وهم يستعدون اليوم لعودتها وطناً موحداً كما كانت. وقبل عقود كان الحديث عن “قبرصة لبنان”، أي التخوف من تحويل هذا البلد العربي الجميل والنادر إلى قبرص أخرى! وها هوذا لبنان يعود وطناً موحداً لجميع أبنائه رغم المحاذير القائمة، ورغم كل ما حصل، عائداً إلى دستوره وميثاق الطائف من منطلق “صلح الدوحة” الذي أثبت فيه العمل العربي المشترك -بالجهد القطري المشهود- قدرته على حل المشاكل بين العرب عندما تتوفر الإرادة الخيّرة. وللتاريخ والحقيقة أيضاً، فإن التواجد السوري والدعم السعودي للدولة اللبنانية العائدة إلى رحاب الوطن كان لهما تأثير لا ينكر طوال العقود الماضية. هكذا فلن تدوم “قبرصة قبرص” ونأمل ألا نعود إلى هواجس “قبرصة لبنان”.. مرةً أخرى! وفي الصومال يبدو الصراع اليوم ظاهراً بين “إسلاميين” و”احتلال أثيوبي”، لكنه في التحليل النهائي صراع بين القبيلة والدولة في الصومال، كما هو في بلدان عربية أخرى بين محيط وخليج.. ومن حق الصوماليين العودة مادياً ومعنوياً إلى وطنهم الموحد. وإذا كان “حظ” لبنان كبيراً كما نرى لتميزه في وطنه العربي الكبير، فإن الصومال لابد أن يأتي عليه يوم يعود إلى عهد دولته الموحدة المستقلة ووطنه الواحد. وفي العراق، ستبقى أرض النهرين تنزف مع مائها دماً للأسف، بعد أن خرجت من الاستبداد بلون واحد، وأوقعها الحظ تحت سيطرة لون واحد أيضاً. ولكن، ما على العراقيين والعرب إدراكه، أن استبداد “اللون الواحد” قد ذهب إلى غير رجعه أياً كان.. حتى لو كان أبيض في صفاء الثلج! (وهيهات أن يكون لون استبدادي واحد بمثل هذا الصفاء) فألوان الطيف الوطني، ضمن المشروع الوطني الجامع، هي الخيار الوحيد المطروح اليوم أمام كل حكم ووطن وشعب ومعارضة. يمكن للمشروع الفئوي المضاد أن يسيطر على أوهام أتباعه وضحاياه لبعض الوقت. ويمكن أن يرد عليه الطرف المضاد بمشروع فئوي في مثل تقزّمه وتفاهته. بل أن جزيئات جغرافية، كما في العراق وكما حدث سابقاً بلبنان، يمكن أن تظهر مؤقتاً فيكتوي بنار التقسيم والتجزئة -بالإضافة إلى الوطن الجامع- أولئك المواطنون المنكوبون بفتنة التفرقة، إلى أن يسـتيقظ الجميع على أنه لا جبل يعصمهم من الماء غير الوطن الموحد والمشروع الوطني الجامع. والذين يتابعون تطورات البحرين في السـنوات الأخيرة، يجدون كيف التقى شعبها وتآلف، وكيف بدأ حياة جديدة على أساس المشروع الوطني الإصلاحي الجامع الذي بادر إليه ملكها حمد بن عيسى آل خليفة مستلهماً تجارب أجيالها وتطلعاتهم، وما اطلع عليه من خلاصات التاريخ الحديث في الإصلاح والنهوض والتطور. وما تزال التجربة البحرينية مفتوحة على المستقبل تحمل في طياتها اختبار الزمن للبحرين بمختلف مؤسساتها الدستورية وقواها السياسية ومجتمعها المدني . ويبقى نداء (الدين لله والوطن للجميع) الذي طرحته الحركة الوطنية المصرية الرائدة، هو مطلب المرحلة بأية صيغة *عن / صحيفة (الغد) الأردنية