مع الأحداث
إن من المذهل في حياتنا المعاصرة تلك التناقضات الحادة في القيم والمعايير ووسائل الحياة وطرائق السلوك؛ وأكثر ما تتجلى هذه التناقضات الحادة في حياة الأطفال وتشعباتها المختلفة، فالدراسات البيولوجية والنفسية والاجتماعية تحدد عمر الطفولة وحاجاتها ومتطلباتها وشروطها وفق أسس معينة، ولكن الحديث عن الحاجات والمتطلبات شيء، وتأمل واقع الطفولة الفعلي وما يتعرض له الأطفال في حياتنا الراهنة شيء آخر. وتبدو التناقضات الصارخة، على أوضح ما تكون، في الواقع الإنساني نفسه، هذا الواقع الذي لا ينطلق من المعايير الأساسية أو القيم التي يتطلبها التعامل مع الطفولة، من حيث المبادئ والقيم الإنسانية والدولية والتشريعات الأممية التي تنص على حقوق الطفل من حيث الأبعاد المختلفة، ولعل نظرة موجزة إلى القرارات الدولية فيما يتعلق بالطفولة وما يتصل بمنظمة اليونيسيف من أهداف وواجبات وحقوق يكشف المبادئ العامة الموجهة للطفل. ويجعل النظرة إلى الطفولة محكومة بالمبادئ الأساسية من خلال مبدأ المساواة بين البشر في الحقوق العامة والواجبات؛ إذ تتمثل مهمة اليونيسيف في حماية حقوق الأطفال ومساعدتهم في تلبية احتياجاتهم الأساسية، وتوسيع الفرص المتاحة لهم لبلوغ الحد الأقصى من طاقاتهم وقدراتهم، وهي تنطلق في ذلك من معايير حقوق الإنسان بعيداً عن التمييز بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي أو العرق أو الطبقة الاجتماعية أو المولد أو القدرات. وإذا كانت التشريعات تكفل للأطفال حقوقهم الأساسية فإن واقع الطفولة في كثير من أنحاء العالم يكشف عن حالات مرعبة من حيث الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والتعليمية، مما يجعل هذه الحقوق والتشريعات أقرب إلى أن تكون حبراً على ورق؛ فملايين الأطفال لا يجدون الفرصة الكريمة للرعاية الصحية، إذ كشف تقرير صدر عن منظمة اليونيسيف أن أكثر من تسعة ملايين طفل تحت سن الخامسة يلاقون حتفهم كل عام في أنحاء مختلفة من العالم بسبب أمراض يمكن الوقاية منها باتباع إجراءات بسيطة وبتكلفة معقولة. وتكشف التقارير المتصلة بأوضاع الطفولة في العالم أن عدداً كبيراً من الأطفال يشاركون في الصراعات المسلحة ويتأثرون بها، فلم تعد الصراعات المسلحة حكراً على المنخرطين في سلك العسكرية أو البالغين، وإنما أصبح الأطفال وقوداً لهذه الصراعات، وربما يبدو استغلال الطفولة في التأثير على معنويات الخصم في استهداف الأطفال على نحو ما نرى في تعمد الآلة العسكرية الصهيونية قتل الأطفال باستهدافها التجمعات السكنية المدنية. حتى بات مشهد قتل الرضع وحديثي الولادة من المشاهد التي اعتاد عليها مشاهد القنوات الفضائية في العالم كله. ولعل تعرض الأطفال للصراعات المسلحة يعرضهم أيضاً للأزمات النفسية الحادة التي تخرجهم من براءتهم وطفولتهم التي لم يعيشوها إلى عالم الخوف والرعب والعقد النفسية. ومن المشكلات المفزعة المطروحة أمام المهتمين بحال الطفل وحقوقه في العالم ما يتعرض له الأطفال، ولاسيما في العالم الثالث، من استغلال بشع، ويتمثل ذلك في استغلال الأطفال باعتبارهم عنصراً رخيصاً من عناصر العمالة أو استغلالهم استغلالاً بشعاً يصل حد الاستغلال الجنسي، ومعروف أنهم في هذه البيئات غير الملائمة ينمون نمواً مشوهاً يجعلهم دائماً في موقف الضعيف المبتز. وقد يصل الأمر إلى حد العبودية المقنعة، على نحو ما نرى في الاتجار بهم وبيعهم كالأدوات التي تجعلهم فاقدي القيمة الإنسانية، وقد يتجلى استغلال الأطفال البشع في الاتجار بأعضائهم في مقابل مبالغ زهيدة تسد حاجاتهم وحاجات ذويهم. فمن يحمي هؤلاء من البيع والاستغلال؟ ومن يحميهم من أن يكونوا وقوداً للصراعات المسلحة؟ ومن يحمي الأطفال من العنف والاعتداء والقتل؟ ومن يحقق لهم إنسانيتهم المهدورة؟ ومن أبشع الصور التي يتعرض لها الأطفال مشاركتهم في ظاهرة التسول؛ فالأطفال يعانون من الاستغلال البشع في خضوعهم لعصابات الضغط التي تجبرهم على أن يكونوا أدوات لهم ينفذون مآربهم بأحط السبل والوسائل، مما يفقدهم كرامتهم الإنسانية ويجعلهم عرضة لسلسلة من الاستغلال المادي والروحي، ويمهد لهم السبيل من أيسر الطرق للانحراف والفساد والجريمة. ولعل من أخطر ما تتعرض له الطفولة من ظلم بشع حرمانها من حقها الأساسي في التعليم، وتبدو هذه الظاهرة مرعبة في العالم الثالث؛ إذ نجد كثيراً من البلدان لا يتوافر فيها الحد الأدنى من مقومات الحياة، ولعل ما شاهدناه على شاشة التلفاز من ظهور أسر تقضي حياتها بلا مأوى في الحر والفقر تحت الشجر يوجع النفس والضمير. ويطرح سؤالاً على الإنسانية جمعاء كيف يقر بال كثير من الناس وهم ينظرون إلى ملايين الأطفال بلا طعام ولا تعليم ولا كرامة وهم يعيشون لاهين في تحقيق ذواتهم دون التفات إلى هذه الطفولة المعذبة؟ إن واجب الإنسانية أن تلتفت إلى هذه المأساة، إذ لا يجوز أن ينقسم العالم إلى عالمين في ثنائية حادة: عالم المتخمين السعداء وعالم المحرومين التعساء. ولعل أوجب الواجبات علينا أن نحقق للطفولة ولاسيما في عالمنا العربي والإسلامي الحد الأدنى من الحقوق التي نصت عليها وثيقة حقوق الإنسان، بل الأدق ما دعا إليه ديننا الإسلامي من التراحم والتكافل وحماية الأفراد والمجتمعات والحفاظ على صرح القيم والأخلاق متماسكاً بعيداً عن الانتكاسات والهزات. فمتى نرى العالم كله يتخلى عن الصراعات المحمومة والحروب الطاحنة التي تنتفي فيها المبادئ والقيم الحقيقية وتقف وراءها الأطماع والجشع وروح التعصب والحقد والكراهية؟ ومتى نتأمل أحوال الأطفال المعذبين في العالم ونرد لهم شيئاً من براءتهم المفقودة؟ وننفي عنهم الخوف والرعب والجوع والأمية والاستغلال، وننظر في وجوههم نظرة الحنان؟ حتى يستعيد العالم نفسه وروحه التي سحقتها القيم المادية البشعة، وحتى تعلو قيمة الإنسان فوق كل الشرور والتشوهات. إنها أحلام طوباوية في الأغلب ولكنه يجب علينا ألا نقتل الحلم لأنه طريق الإنسانية المعذبة إلى الخلاص والحرية والعدالة. * عن/ صحيفة ( البيان ) الاماراتية