مرافئ
قد يتبادر إلى الذهن أن ظهور "الجريدة الرسمية" مسألة جديدة ترتبط بظهور الدولة الحديثة والحكومات الحالية.لكن مثل هذا الانطباع سرعان ما يزول أمام حقائق التاريخ. فأجدادنا عرفوا الجريدة الرسمية قبل ذلك بقرون عديدة.ما يعني أنها قديمة قدم الدولة.فقد دلت الاكتشافات الأثرية أن المجتمعات السابقة التي يعود بعضها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) عرفت الجريدة الرسمية التي كانت تصدرها الدولة وتنشر فيها القوانين والقرارات الصادرة عن سلطة الملك.لكن تلك الجريدة لم تكن مطبوعة ورقية يمكن تداولها بيسر وسهولة كما هو ا لحال اليوم،بل كان لكل حضارة خصائصها لنحت أو إصدار جريدتها الرسمية. فقد تكون عبارة عن نصب حجري،أو طيني أو خشبي ينقش عليه النص القانوني الصادر ليطلع عليه الرعية.وما "قانون حموا ربي" الذي يعتبر أقدم نص قانوني يجري اكتشافه سوى تلك الجريدة الرسمية كما نعهدها اليوم.وقد عرفت الدول اليمنية القديمة هذا النوع من الجريدة الرسمية.ويذكر جواد علي في "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" أن الكتابات المنكشفة تشير إلى أن القوانين كانت تعلق على " باب شدو" في عهد الملك القتباني "شهر هلل بن ذر أكرب.وبالطبع فإن الحجر أو الطين كانا وسيلة الكتابة أو النقش في العصر السابق لاكتشاف الرقع الجلدية،أو الورق،حيث اكتشفت أول أبجدية في التاريخ في منطقة "رأس شمرا" باللاذقية بسورية.وكان الملوك ينشرون أخبار انتصاراتهم في ألواح كما نجد في الكتابات الأشورية.ويرى جواد علي أن الكتابات المعينية تعد من أقدم النصوص الكتابية التي عثر عليها فيما يتعلق بحضارة جنوب الجزيرة العربية.وقد عاشت الدولة المعينية 1300-630 ق.م على رأي بعض العلماء. وهي بذلك من أقدم الدول العربية التي بلغنا خبرها كما يؤكد.ويرجع الباحثون تاريخ الأبجدية التي استعملها المعينيون إلى الألف الثانية أو الثالثة قبل الميلاد.ومن ناحية أخرى فإن الكتابة التي دونها "شكم سلحن" ووضعت على جدار (لبنا) وعثر عليها في مكانها كما ورد في نفس المصدر الذي سبق ذكره،هي أقدم كتابة حضرمية وصلت الينا حتى الآن. وتليها في القدم الكتابة التي عثر عليها في "عقبة عقيبة" وتخص ممر (همريان)، شرق شبوة في رأي بعض الباحثين الذين يرون أن زمنها يعود إلى القرن الخامس أو أوائل القرن الرابع قبل الميلاد.كما وجدت عدد من كتابات ملوك حضرموت في كتابات عثر عليها في موقع عقلة، واسم الملك "العز" في كتابة حفرت عند قاعدة جبل "قرنيم" – (القرن).ويشير جواد على إلى نصوص مهمة بالنسبة إلى تاريخ "شبوة" كتبت في عهد الملك "يدع ايل بين بن رب شمس" يسجل فيه عمارته للمدنية وبناء معبدها بالحجارة بعد الخراب الذي حل بها وعمر ما تهدم منها. وهي نصوص تعود إلى القرن الثاني بعد الميلاد.غير أن في الكتابات القتبانية التي تم اكتشافها نصوص تتعلق بالضرائب وبالقوانين وبالتجارة،وهي بهذا تمتاز عن غيرها من الكتابات العربية المعينية والحضرمية أو السبئية بكثرة ما ورد فيها من نصوص رسمية.ومن بين الوثائق المكتشفة المهمة والكتابة القتبانية نص يتحدث عن عمل هندسي يصفه جواد علي بـ (المهم والخطير)، هو فتح طريق جبلي في منطقة وعرة وفي أرضين جبلية،مما استوجب تمهيد الأرض وتسويتها وإحداث ثغرفي الصخور وفتح إنفاق ليمر بها الطريق أشرف عليه رجل اسمه "اوس عم بن يصرعم". ولعله المهندس الذي أشرف على ذلك العمل "المهم والخطير". لكن النص لا يقول لنا بكل أسف المدة التي استغرقها انجاز هذا الانجاز، ولا شيئاً عن العمال الذين قاموا بشقه وتنفيذه، وما هي الوسائط أو الأدوات التي حفروا بواسطتها تلك الإنفاق في تلك المنطقة الصخرية والأرض الجبلية الوعرة.وتشير وثيقة قتبانية أخرى إلى أن الملك القتباني "يدع أب ذبيان بن شهر" أصدر وثيقة على جانب كبير من الأهمية هي بمثابة قانون من القوانين الجزائية المستعملة في مملكة قتبان. بل هي في الواقع من الوثائق القانونية العالمية. وهي قانون في عقوبات القتل العمد،والقتل الخطأ غير المتعمد. وفي العقوبات التي يجب أن يعاقب بها من يصيب إنسانا بجرح أو جروح قد تحدث آفات أو عطلاً في الشخص.والوثيقة – القانون من الأوامر التي أصدرها ذلك الملك في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد.كما أن هناك كتابة قتبانية أخرى يشير إليها المؤلف هي قانون لتنظيم التجارة،وكيفية دفع الضرائب وقد إصداره الملك "أشهر هلل بن يدع أب" للقتبانيين المقيمين في مدينة "تمنع" العاصمة وللمقيمين في الخارج.والمهم وبحسبما تمت الإشارة فإن هذه الوثائق وغيرها المتعلقة بالضرائب أو بالعقود أو بالعقوبات كانت تكتب وتعلق للناس بوضعها في محال بارزة، يتجمع عندها الملأ في العادة، أو يمرون عليها، مثل المعابد أو أبواب المدن، باعتبارها من أكثر الأماكن التصاقاً بالأفراد والجماعات.وهذه المواقع كانت بمثابة الجريدة الرسمية اليوم، أو بمثابة الوسيلة الإعلامية التي بواسطتها تبلغ القوانين والشرائع إلى الرعية كما هو الحال اليوم بالنسبة للصحف والإذاعة والتلفزيون ،بالإضافة إلى الجريدة الرسمية للدولة وهي المعنية أكثر من غيرها بنشر نصوص القوانين والقرارات والمراسم الصادرة عنها.وهكذا نرى أن الحضارات الإنسانية والدول القديمة بما في ذلك اليمنية مرت بمراحل تطور متقدمة فعرفت العمران وهندسة الطرق وحفر الأنفاق. كما أن هذه الدول بلغت مستوى من الحكم والتنظيم الإداري والقانوني مما استدعى تشريع القوانين التي تنظم حياة الدولة والسكان.ويقودنا هذا إلى استنتاج مهم، وهو أن اللغة- نطقاً وكتابة- لدى شعوب تلك الحضارات والدول اليمنية القديمة قد وصلت إلى مراحل متطورة ومتقدمة جداً بحيث صارت- اللغة- قادرة على استيعاب ما يتطلبه سن القوانين والتشريعات من تراكيب والفاظ ومصطلحات مما يدلل على النضج اللغوي الذي بلغه القوم، وهو لا يمكن الوصول إليه إلا بوصلهم إلى مستوى أو درجة من الحضارة والاستقرار صارت معها اللغة أكثر استعداداً لظهور الضوابط والمقاييس ،وبروزها كلغة كتابة وشعر.ويتفق الباحثون بأن اللغة العربية اشتقت من اللغة الجنوبية التي يطلق عليها العلماء اسم " اليمنية القديمة" أو "القحطانية"، ويلقبها بعضهم أحياناً بـ "السبئية" تسمية لها بإحدى لهجاتها الشعرية التي تغلبت عليها جميعاً في صراعها معها كما يقرر الدكتور محمد بلاسي قي بحثه الموسوم: "اللغة العربية" أقدم اللغات السامية- تطور ظهور اللغة" المنشور في مجلة "الرافد" الإماراتية - العدد 87 - نوفمبر 2004م.كما هو معروف فإن أهم اللهجات الجنوبية العربية أربع هي المعينية،والسبئية،والحضرمية، والقتبانية.وتصور عزيزي القارئ أنه لولا اكتشاف الصين أو اختراعهم للورق كم من النصب المصنوع من الحجر كانت ستحتاج البشرية لنشر قوانينها وشرائعها وأخبار انتصارات ملوكها. بالتأكيد كنا إزاء غابة من النصب الحجرية تطغي على ما سواها.وها هو الكمبيوتر والانترنت والثورة الرقمية تختزل كل ذلك في قرص مدمج تضعه في جيبك أو حقيبتك..أو تعلقه على رقبتك.