المؤرخ الكبير الدكتور سيد مصطفى لـ "14 أكتوبر" :
حديث أجراه : محمد زكريا منذ أن تخرج من كلية الآداب في جامعة القاهرة . وسحر جمال أزال يداعب مخيلته في بياض النهار وسواد الليل . كان ومازال قلبه ينبض بحبها العميق .رسم لها صورة غاية في الرواء والحسن فجعل بحرها درا ، وجبالها ياقوتا ، وشجرها عطرا وقع في شباك هواها قبل أن يراها رأي العين . وعندما حلق بجناحيه الرقيقين من ضفاف وادي النيل العظيم وهبط إلى أرض أزال ( صنعاء ) الحضارة رأى حلمه يتحقق ، ويخرج إلى حيز النور . رآها أجمل من الصورة التي طبعها في وجدانه ، صافحته بعينيها الواسعتين الجميلتين . ومنذ ذلك اليوم الموعود صار عاشق اليمن ، عاشقا لجباله وهضابه ، و سهوله ، وسواحله وأوديته . لسنا نبالغ إذا قلنا أن موطنه مصر ، وأرضه اليمن . وكان لإخلاصه وولاءه العميقين لتاريخ اليمن وخصوصا في تاريخه الحديث أن منحه الرئيس القائد علي عبد الله صالح الجنسية اليمنية عرفانا , وتقديرا ووفاء لمساهمته القيمة والعديدة في خدمة تاريخ اليمن التليد . أن تلك الشخصية الرائعة هو الأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم الذي عاش وعايش اليمنيين قرابة 35 عاما فعرفوه عن كثب فأحبوه , وأحبهم . فكان جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع اليمني بعاداته وتقاليده الأصيلة. [c1]مع الدكتور سيد مصطفى[/c]ولقد شاءت الظروف السعيدة أن منحتنا فرصة ثمينة أن نجري معه حديثا صحفيا على الرغم من مشاغله العلمية الكبيرة . حيث تطرق فيه إلى عدد من قضايا اليمن وتاريخه المختلفة من ناحية وتسليط الأضواء على مؤلفاته عن اليمن والتي صارت مرجعا أساسيا من مراجع التاريخ اليمني الحديث والمعاصر . والحقيقة كان الحديث معه ممتع و ذا شجون . وفيما يلي نص وقائع الحديث: [c1]الوحدة الوضع الطبيعي [/c][c1]- وردا على سؤال حول الوحدة في تاريخ اليمن ؟ . [/c]- وقبل أن يجيب الأستاذ الدكتور سيد مصطفى ــــ ارتسمت على وجهه المستطيل الطيب ابتسامة رقيقة تشع تفاؤلا وأملا . وعندما كان يتكلم عن موضوع ما من مواضيع تاريخ اليمن كان يضعه تحت مجهر البحث التاريخي مدعما بالدلائل ، والبراهين . وتشعر وهو يروي عن تاريخ اليمن بأنه يشدو بحبه الكبير أو كأن تاريخ اليمن أغنية عذبة في فمه . وبصوت هادئ ورصين ، ونبرات وواضحة و عميقة ــــ أجاب قائلا : والحقيقة لقد سألتني عن الوحدة اليمنية الرائعة الأخيرة في التاريخ اليمني ، فأقول أن الوحدة هي القاعدة ، والتمزق هو الاستثناء ، أن وحدة اليمن هي الوضع الطبيعي للبلاد ، أما التمزق والتفكك فهو الاستثناء الذي قد يحدث بين حين وآخر . فكل عوامل الوحدة تتوفر في اليمن ، ابتداء من اللغة , والعادات والتقاليد , والدين وغير ذلك حتى التاريخ فهى جميعها عوامل تعمق الوحدة ولا تفككها . - لقد ذكر بعض الكتاب الغربيين أن تضاريس اليمن وتنوعها ، وتباينها من منطقة إلى منطقة ومن إقليم إلى آخر كان من الأسباب الرئيسة في تمزق الوحدة عبر تاريخها الوسيط ما تعقيبكم على ذلك الرأي ؟ . [c1]من أسباب القوة والازدهار[/c]- وأجاب على الفور ـــ وقد نزع نظارته الكبيرة من على عينيه , وظهرت على ملامح وجهه شيء من الضيق : فأقول لك ، ولماذا لا يكون هذا التنوع في التضاريس هو عامل هام من عوامل التكامل والازدهار . فاليمن الذي يتمتع بالجبال والتلال تمتد فيه أيضا السهول , والقيعان ، وكما تمتد سواحله غربا على البحر الأحمر ، وجنوبا على خليج عدن ، والمحيط الهندي ، فإنه يمتد عميقا إلى حدود الربع الخالي. ويمضي في حديثه :وهذا التنوع والاختلاف يمنح البلاد ثروة زراعية ، وسمكية ، إلى جانب النفط ، والغاز ، وهذا التنوع أدى إلى تنوع المواسم في الزراعة . وهذا ما أقصدة من وراء أن التنوع هو السبب في التكامل . وكم من بلاد أكثر تنوعا في تضاريسها ولهجاتها ، وربما بعض عاداتها ولكنها ترابطت وحدتها عبر القرون ، وجعلت من التنوع سببا في القوة و الازدهار ، وهذا ما نتمناه جميعا لليمن . [c1]الجنسية اليمنية[/c]- في 18/ 7 / 1980م ، منحت الجنسية اليمنية من فخامة الرئيس علي عبد الله صالح بسبب مساهماتك القيمة والعديدة في خدمة اليمن وتاريخه بصفة خاصة والحياة العلمية بصفة عامة . فماذا كان شعورك بذلك القرار الذي منحك هذه الجنسية بعد تسع سنوات قضيتها في خدمة اليمن؟. - سكت برهة ، وطافت عيناه في الغرفة ، كأنه يستحضر أجمل وأحلى حدث وقع له في حياته . ولفت نظري في عينيه غلالة شفافة لمع من خلالها وميض خاطف , وبصوت يشي بالحب الكبير لليمن واليمنيين ولفخامة الرئيس علي عبد الله صالح الذي منحه الجنسية اليمنية , قائلا : والحقيقة لا أستطيع أن أنسى هذا اليوم الذي صدر من فخامة رئيس الجمهورية اليمنية علي عبد الله صالح بالرغم من مشاغله الجمة والكبيرة في فترة كانت اليمن تمر في مرحلة البناء والنماء ، وترسم طريق التحديث في كل نواحي الحياة وأنشطتها سواء على الصعيد السياسي ، و الاقتصادي ، والاجتماعي ، والثقافي . فقد منحني تلك الجنسية اليمنية أو قل إن شئت ذلك الوسام الباهر والرفيع الذي يزين صدر حياتي . فمهما حاولت أن أعبر عن أحاسيسي تجاه الرئيس علي عبد الله صالح لمنحي تلك الجنسية اليمنية فلن أوفيه حقه وحق الشعب اليمني . ولقد كان شرفا كبيرا لي أن أمنح تلك الجنسية . لقد صرت رسميا انتمي إلى اليمن التليد الذي بهر العالم القديم ــ وقتئذ ـــ بحضارته الضاربة في أعماق فجر الإنسانية . ولقد كان منحي تلك الجنسية اليمنية أن تعمق وترسخ في مشاعري ووجداني أن أهل اليمن عبر تاريخهم الطويل اتسموا بالوفاء والحكمة ، أليست الحكمة يمانية وهاهي صفاتهم الطيبة والأصيلة الراسخة رسوخ جبال اليمن الراسخات الشامخات التي تلثم وجه السماء . تدل أنهم بالفعل أوفياء وحضاريون بكل معنى لهذه الكلمة فيقدرون ويحترمون كل إنسان يعمل في خدمة اليمن بصدق وإخلاص ، وحب كل على حسب تخصصه العلمي ومجاله العملي . [c1].. ويسترسل : [/c]ومرة أخرى أشكر فخامة الرئيس علي عبد الله صالح على الوسام السامي والراقي الذي علقه في صدر حياتي وهو منحي الجنسية اليمنية الغالية . وأنني أفخر أن أكون يمنيا ذلك الإنسان الرائع الذي شيد السدود ، وأبحر في أعماق البحار ، وأقام المدن في داخل اليمن و شرق أفريقيا في التاريخ القديم , وأما في التاريخ الإسلامي فقد أجمعت كتب التاريخ أن الإنسان اليمني المسلم كان له السبق والريادة في الفتوحات الإسلامية الكبرى . وكان لهم بصمات مضيئة في نشر العلوم والمعارف في الأمصار التي استقروا بها ومازالت مناقبهم وآثارهم العظيمة كمصر ، والأندلس وغيرهما الكثير من البلدان ماثلة للعيان .[c1]المؤرخ شفيق غربال [/c][c1]- وردا على سؤال حول كيف تعرف على تاريخ اليمن الحديث والمعاصر ؟ . [/c]- وقبل أن يجيب الدكتور سيد مصطفى صمت برهة ونظر بعيدا كأنه يستحضر ذكريات غالية إلى نفسه ، ومساحتها الزمنية بعيدة ـــ فأجاب قائلا : يرجع الفضل في لفت نظري إلى تاريخ اليمن الحديث إلى الأستاذ الكبير محمد شفيق غربال عميد أساتذة التاريخ في مصر وهو من جيل أساتذة النهضة في مصر مثل الدكتور طه حسين ، وعباس العقاد وغيرهما . وكان عميدا لمعهد الدراسات العربية . وعندما حصلت على دبلوم هذا المعهد ، سألني عما إذا كان في ذهني موضوع أعده للحصول على الماجستير ، فرددت على الفور باسم موضوع عن تاريخ مصر الحديث ، فقال : لا لا علينا أن نخرج إلى العالم العربي ، فما بلك أن تبحث في تاريخ جنوب غرب الجزيرة العربية. [c1]أنحت في الصخر [/c]كانت المشكلة أمامي ، فلم نكن نتوسع في تاريخ اليمن إلا ضمن مادة تاريخ العرب الحديث أثناء الدراسة في مرحلة الليسانس فلا أعرف عن اليمن إلا لماما من المعلومات العامة . ورغم ذلك فقد غرقت في مكتبة ذلك المعهد ، ومكتبة جامعة القاهرة لعلني أجد موضوعا اكتبه ، واستغرق ذلك حوالي شهرين أو ثلاثة . وفي أحدى الجلسات الأسبوعية التي كان يعقدها لتلاميذه والطلاب ، سألني ماذا أفعل وما هو الموضوع الذي أريد أن أبحث عنه ، ثم قال بروح ودية أبوية ، إذا كنت تجد صعوبة في مواصلة البحث ، فابحث عن موضوع آخر ، ولكني شعرت هنا بأني فأر أمام عملاق كبير ، فقلت له ، سأحاول التغلب على هذه الصعاب وسأستمر. وقد سعد أستاذي بهذا الرد، وقال هيا على بركة الله . وكانت الصعاب جمة في الحقيقة فقد كانت المراجع محدودة وكأني أنحت في الصخر ، فكنت أنبش في أية مراجع لأجد إشارة إلى ايمن وأحداثها . وكان أستاذي يراجع ما أكتب أور بأول ، ثم أمر بطبع الرسالة وهي كتاب ( تكوين اليمن الحديث ) على نفقة المعهد . ويضيف ــــ وقد خيمت سحاب حزن على وجهه ـــ ، فقال : غير أن الحظ لم يسعدني ، فبعد أن حدد أستاذي موعد المناقشة وكذلك لجنة المناقشة ، توفي رحمه الله قبل ذلك بعشرة أيام فقط . [c1]الفتح العثماني الأول[/c]- وحول أسباب تأليف كتاب الفتح العثماني الأول والذي يمتد مساحته الزمنية من 1538 ـــ 1635 م ، قال الدكتور سيد مصطفى : والحقيقة لقد كنت أريد أن أواصل الدكتوراه في تاريخ الإمام أحمد وخاصة وقد كانت الثورة قد بدأت في اليمن أي دراسة تاريخ الفترة من 1948 إلى 1962 م ، ولكن الأستاذ الدكتور أحمد عزت عبد الكريم أقنعني بغير ذلك تماما وقال : لكي تفهم تاريخ اليمن جيدا عليك أن تعود إلى بداية التاريخ الحديث أو ما يعتبر بداية مرحلة التاريخ الحديث عالميا أي العودة إلى تاريخ اليمن في القرن السادس عشر. [c1]بحر من المخطوطات اليمنية[/c]وكما كنت أنحت في الصخر خلال دراستي لدرجة الماجستير ، فقد تغير الوضع بالنسبة لدراسة الدكتوراه ، فقد غرقت في بحر عميق من المخطوطات اليمنية الموجودة بدار الكتب المصرية بالقاهرة التي كانت مصورة من اليمن نفسها ، أو من المكتبات العالمية ، ويرجع الفضل في تعرفي على هذه الكنوز إلى المرحوم الأستاذ فؤاد السيد مدير قسم المخطوطات بدار الكتب حينذاك . هذه هي رحلتي الدراسية مع تاريخ اليمن ، وهذا قبل أن تطأ قدماي أرض اليمن . [c1]الطريق إلى صنعاء [/c]- وعن رحلته إلى صنعاء اليمن ، يقول : والحقيقة لقد كنت أسعى لزيارة اليمن ، ولكني لم أنجح . وجاءت المفاجأة ، وهي مجيء الأستاذ أحمد جابر عفيف وزير التربية والتعليم حينذاك إلى القاهرة ، وقابل مدير جامعة عين شمس وطلب منه الموافقة على إعارتي لجامعة صنعاء ، وكان ذلك بالفعل . ونزلت إلى مطار صنعاء الدولي لأول مرة في 10 / 10 / 1971 م ، ولم يكن هناك مطار في الواقع سوى المدرج الذي تنزل إليه الطائرات أو تقلع . [c1]اليمن ومصر قدر مكتوب[/c]- قمت بنشر وتحقيق كتاب (نصوص يمنية عن الحملة الفرنسية على مصر ) لصاحبه لطف الله بن أحمد جحاف المتوفى سنة 1243 هـ / 1828 م . وفي مقدمة طبعة الكتاب الثانية وصفت العلاقات اليمنية ـــ المصرية وكأنها قدر مكتوب أو أنها استجابة لعبقرية المكان لكل من البلدين " . ماذا تعني بتلك العبارة ؟ . - والحقيقة لقد قصدت من تلك العبارة أنها تعطينا صورة تاريخية من صور التأثير التي تبرز على السطح بين الفينة والأخرى عندما يتعرض طرف من أطراف حوض البحر الأحمر لخطر خارجي أو داخلي فتهتز له باقي الأطراف وهذا مما يؤكد رسوخ العلاقات المصرية ــ اليمنية وكأنها قدر مكتوب أو أنها استجابة لعبقرية المكان لكل من البلدين ، إذ تقع مصر عند شمال البحر الأحمر واليمن عند جنوبه . بالأحرى يمثل حوض البحر بوتقة لتفاعل الأحداث بين أجزائه ــ إما سلبا أو إيجابا ـــ منذ أقدم العصور حتى الآن . [c1]كنوز من التراث[/c]- وسألته عن الدراسات اليمنية هل مازالت أمامها مشوار طويل من العناية والجهد والبحث والتنقيب ؟ . - والحقيقة أن اليمن مازال يعتبر حقلا بكرا ينتظر الجهود المضنية ، لكشف كنوزه الدفينة وللتعرف على جوانب شخصيته الاجتماعية والطبيعية . ونتأكد من ذلك كلما أوغلنا في البحث في جانب من جوانب الشخصية اليمنية ، ففي مجال التخصص ـــ أي التاريخ ـــ يشعر المرء دائما بأن هناك بحر لا ينضب من التراث الذي يحتاج الكشف عنه والتعريف به ، أو الذي ينتظر العثور عليه والرجوع إليه لكتابة الأبحاث المستفيضة عن جميع عصور اليمن التاريخية ، بل وهذا التوغل يدفع المرء إلى الشعور بضآلة ما بذل وما كتب لخدمة هذا التاريخ ، وأن هناك الكثير الذي ينتظره ، والذي يحتاج إلى جهد جماعات من الكتاب والباحثين . [c1]قصتي مع " الحكمة " اليمانية[/c]- قلت للأستاذ الدكتور سيد مصطفى لكل كتاب من كتبك قصة ، فما هي قصتك مع مجلة " الحكمة " اليمانية؟. - أجاب ــــ وقد مرت ابتسامة رقيقة على وجهه ، فقال : في الواقع أن مجلة " الحكمة " اليمانية الذي صدر العدد الأول منها في ذي القعدة عام 1357 هـ / ديسمبر 1938 م ـــ يناير 1939 م . وصدر العدد الأخير منها في صفر 1360 هـ ( فبراير / مارس 1941 ) أي أنها لم تستمر إلا عامين وثلث ، لذلك كان مجموع أعداها ثمانية وعشرين عددا فقط . [c1]تعلقي بالحكمة[/c]والحقيقة تعلقت " بمجلة الحكمة " قبل أن أراها ، وقبل أن أبدا الخطوات التقليدية المعروفة للكتابة عنها , وذلك عندما سمعت عنها منذ عهد طويل ، أي منذ بدأت البحث في تاريخ اليمن الحديث في أواخر الخمسينات من هذا القرن (أي القرن العشرين ). وكان موضوع هذه البداية هو (( اليمن تحت حكم الإمام يحيى )) وهو الإمام الذي ظهرت في عهده " المجلة " ، فتمنيت حينذاك أن أعثر عليها لأتخذها مرجعا ــ ضمن مراجع البحث ـــ حتى ولو كانت منحازة لذلك العهد كما تخيلت ، ولكن الظروف وقتذاك لم تساعدني على العثور عليها في المكتبات الكبيرة بالقاهرة ــ وعلى رأسها دار الكتب المصرية ــ كما لم يكن من السهل حينذاك السفر إلى اليمن للبحث والتقصي . [c1]ملتقى الأحرار[/c]والحقيقة بعد إعارتي للتدريس في جامعة صنعاء في العام الدراسي 70 / 71 م . كانت رغبتي في العثور على المجلة تزداد يوما بعد آخر ، لا لطول تفكيري فيها ، ولا لما بذلته من جهد للحصول عليها فحسب ، بل أيضا لكثرة ما سمعته عنها وعن أهميتها التاريخية من الأخوة اليمنيين . فقد كنت أتصور أنها تشبه زميلتها جريدة " الإيمان " التي صدرت في عام ( 1345 هـ / 1926 م ) والتي سبقتها إلى الظهور والتي كانت بمثابة الجريدة الرسمية للإمام يحيى ، وأن الأمام وافق على صدور " الحكمة " لتساند " الإيمان " في دعم حكمه . [c1]منبر المعارضة[/c]غير أني سمعت كثيرا ـــ من مصادر عدة متنوعة المشارب ـــ أنها كانت ملتقى الأحرار ، وأنها عبرت ـــ صراحة وعلنيا ومبكرا ـــ عن الدعوات الإصلاحية في عهد الإمام يحيى ، بل وقيل عنها أنها كانت تمثل منبر المعارضة الهادئ الهادف ، ذلك كله رغم أنها كانت حكومية ، إذ كانت تصدر عن وزارة المعارف ، وتخضع لأشراف وزيرها سيف الإسلام عبد الله ـــ أحد أبناء الإمام فزاد هذا جميعه من شوقي إلى العثور عليها . وعلى أية حال ، فقد عثرت عليها وذلك من خلال الأستاذ علي أبو الرجال . وهكذا تحقق اللقاء أخيرا بيني وبين المجلة فتجددت الأحلام , وتلقفت المجلة بسعادة غامرة ، أقلب صفحاتها ، وألتهم سطورها . [c1]محررو " الحكمة "[/c]- طالما تحدثنا عن مجلة " الحكمة " اليمانية ، فهل تعطينا صورة واضحة عن محرريها ؟ . - والحقيقة لقد ظهر على مسرح اليمن السياسي في عهد الإمام يحيى شباب كانوا يمتلئون حماسا ، وحيوية ، ونشاطا ، وكانوا إلى جانب ذلك يمتلكون رؤية واضحة ومشرقة عن آفاق المستقبل الذي يتطلعون إليه . وكانوا يبذلون قصار جهدهم وطاقتهم أن يخرجوا اليمن واليمنيين من العزلة الخانقة الذي ضربها الإمام بحجة خوفه من الأطماع الأجنبية على استقلال اليمن . وعلى أية حال ، هؤلاء المحررين هم أحمد عبد الوهاب الوريث ، أحمد بن أحمد المطاع ، وعبد الله العزب. ويضيف قائلا : تلك المجموعات التي دارت حول محاور معينة ومقالات متتالية وليست جميع كتاباتهم بالمجلة . [c1]أقلام زلزلت السلطة[/c]والحقيقة أن المرء يتعجب من هؤلاء الشباب الذين زلزلوا بأقلامهم سلطة قاسية عزلت اليمن واليمنيين عن العالم وعما يجري فيها من تطورات سريعة في مختلف نواحي السياسة ، الاقتصاد ، والثقافة ، أن يصلوا إلى درجة رفيعة من الثقافة والفكر ولم يخرجوا من اليمن بتاتا . ولقد أشاد بهم عدد من المثقفين المصريين والعراقيين وقتئذ . [c1]نموذج لجيل من أبناء اليمن[/c]والحقيقة أن الاقتصار على نشر حلقات هؤلاء الثلاثة فقط لا ترجع إلى أهمية شخصياتهم ، ولا إلى الدور الثقافي والسياسي الذي لعبوه في حياتهم ، ولكن يرجع إلى أنهم كانوا نموذجا لجيل من أبناء اليمن الذين اعتمدوا على تثقيف أنفسم ذاتيا ، فدرسوا ما كان متوفرا داخل البلاد من مصادر ثقافية ، والتهموا الشتات الذي كان يصل إليهم من خارجها ، فجمعوا بذلك بين القديم والجديد ، أو بين الأصالة والمعاصرة ، اعتمادا على جهودهم الشخصية ، وعلى إرادتهم القوية ،إذ من المعروف أن هؤلاء الثلاثة ( أحمد عبد الوهاب الوريث ، أحمد بن أحمد المطاع ، وعبد الله العزب ) لم يغادروا البلاد قط طوال حياتهم ، ورغم ذلك لفتوا أنظار معاصريهم ــ ومن تلاهم ـــ إلى كتاباتهم . [c1]دخول المطبعة اليمن[/c]وعن دخول المطبعة إلى اليمن ، يقول الدكتور سيد مصطفى : والحقيقة أن دراستنا لمجلة " الحكمة " اليمانية فتحت لنا آفاق واسعة من تاريخ اليمن الثقافي تتمثل في دخول المطبعة إلى اليمن . لقد كانت تطبع " الحكمة " في المطبعة الوحيدة التي كانت توجد في اليمن حينذاك . وهي التي خلفها الأتراك للإمام يحيى عند خروجهم من البلاد في نهاية الحرب العالمية الأولى . وكان هؤلاء يستخدمونها في طبع أوراقهم وأوامرهم الرسمية ، كذلك في إصدار جريدتهم التي أطلقوا عليها اسم " صنعاء " والتي كانوا ينشرون بها أخبارهم وأحوال (( ولاية اليمن )) في عهدهم . [c1].. ويسترسل : [/c]وكانت بمثابة النشرة الرسمية للحكم التركي ، فقد كانت تصدر في أربع صفحات ، اثنتان منها باللغة التركية ، والأخريين باللغة العربية ، أي ترجمة لنفس ما كتب بالتركية ، وكان عنوانها " صنعاء " يكتب على الجانبين ــ العربي والتركي ـــ . وقد ظلت هذه المطبعة هي الوحيدة في اليمن طوال عهد الإمام يحيى ولا تستخدم إلا بإذن منه . ويضيف الدكتور سيد مصطفى ، قائلا : وهناك وصف لهذه المطبعة لأحد معاصريها ورد خلال وصف أوضاع اليمن في ذلك العهد ، فقال : " وعلى مدى ستين سنة لم فيها ( في اليمن ) غير مطبعة واحدة بدائية ، تدار وترص حروفها باليد ، خلفها الأتراك للإمام يحيى لاستعمالها في أغراض حكومية ، ومع هذا كانت لها ثمرة واحدة هي جريدة " الإيمان " ثم مجلة " الحكمة " التي تمكن أفراد من إظهارها وبالتحايل ولمدة قصيرة . ورغم هذا فالجدير بالذكر أن هذه المطبعة الوحيدة العاجزة تطبع ألف نسخة من العدد الواحد من المجلة . [c1]المدير الفني " للحكمة "[/c]أحب أن أشير إلى أن المدير الفني لمجلة " الحكمة " كان رشيد سنو وهو لبناني الأصل وممن أقاموا طويلا في اليمن في تلك الفترة ، وساهم في تحرير جريدة " الإيمان " . ـــ وردا على سؤال حول هل خاضت مجلة " الحكمة " في قضية الوحدة اليمنية ، قال الدكتور سيد مصطفى : والحقيقة أن من أهم القضايا التي تناولتها المجلة هي قضية الوحدة اليمنية وإن لم يكن أهمها على الإطلاق . فقد تعرضت مقالة في " الحكمة " إلى العلاقات اليمنية الإنجليزية منذ عقد معاهدة 1934 المعروفة بين الإمام يحيى والحكومة البريطانية ، وأوضحت أي المقالة أن إنجلترا لم تكن حسنة النية تجاه المعاهدة التي تنص على إبقاء الأوضاع في جنوب اليمن كما هي دون تدخل الطرفين المتعاقدين ــ مدة سريان المعاهدة وهي أربعين عاما ـــ حتى يتم التفاوض بشأنها خلال هذه المدة. غير أن إنجلترا أخلت بالتزاماتها ، فأخذت تقيم المنشآت والمطارات الحربية ، وتعمل على التفريق بين الأهلي بعضهم البعض ، وبينهم وبين باقي الشعب اليمني في الشمال . [c1]" الحكمة " والوحدة اليمنية[/c]والحقيقة لقد واصلت " الحكمة " اهتمامها بالوحدة اليمنية أرضا وشعبا ، فنشرت في صدر أحد أعدادها ــ وتحت عنوان ضخم هو : (( شبوة والعبر عضوان من بدن اليمن ، ولا بد من إرجاعهما مطلقا )) ـــ نشرت نص الاحتجاج الرسمي الذي أرسله الإمام يحيى إلى ملك إنجلترا الإمبراطور جورج السادس بخصوص اعتداء القوات الإنجليزية على هاتين المنطقتين ، وضمهما للجنوب . ولم يقف الأمر عند نشر هذا الاحتجاج ، فقد نشر أحمد عبد الوهاب الوريث ردا عنيفا على المزاعم التي يدسها وينشرها الإنجليز وعملاؤهم بأن (( شبوة )) من حضرموت وليست من اليمن . ويضيف قائلا : وقدم أحمد الوريث عرضا تاريخيا عميقا لأوضاع المنطقة منذ أقدم العصور حتى ذلك الحين ، فقد جاء فيها : " إن من الحق البين والسفه الواضح أن يسأل كاتب غيره أو يتساءل : أشبوة من اليمن أم من حضرموت ، وأن يظن أن اليمن شيء وحضرموت شيء آخر ، فالله جعل لليمن حدودا طبيعية لا يدخلها لبي ولا يعتريها غموض ، إذ أحاطه بالبحر من غربه وجنوبه وشرقه ، وكل ما شملته هذه الحدود إلى أطراف الحجاز الجنوبية فهو اليمن ، فهل رأي حضرموت جزيرة منقطعة في أوساط بحر الهند حتى يسوغ له أن يقول : شبوة من حضرموت لا من اليمن أو من اليمن من حضرموت . [c1]ما أسباب توقف " الحكمة "[/c][c1]- ما الأسباب الحقيقية وراء توقف مجلة " الحكمة " اليمانية في عهد الإمام يحيى؟ . [/c]- والحقيقة يكاد أن يكون هناك إجماع على أن السبب الرسمي الظاهري لتوقف الحكمة عن الصدور هو قلة الورق باليمن خلال فترة الحرب نظرا لتوقف الاستيراد ـــ أو انقطاعه تقريبا ـــ نتيجة ظروف الحرب نفسها ، فأصدر الإمام أمره بإيقاف " الإيمان " و " الحكمة " معا لهذه الظروف الاستثنائية . ولا شك أن هذا السبب كان كافيا ومنطقيا للغاية من جانب الإمام وأمام المعاصرين ، غير أن ما يدل على أنه كان للإمام موقف معين من " الحكمة " هو موافقته على إعادة " الإيمان" إلى الظهور بعد قليل ، والسكوت عن عدم عودة الحكمة ، مما يعني أن الحكمة لاقت حتفها في صمت وسكون دون صدام أو ضجة ، ومما أدى إلى أن ابتلع (( المحررون )) الغصة في هدوء وصمت أيضا لأنهم لم يستطيعوا مواصلة رسالتهم وجني ثمار جهودهم . [c1]التاريخ الاجتماعي[/c]- هل الإمكان الاعتماد على التاريخ السياسي فقط في دراسة تاريخنا اليمني الحديث المعاصر ؟ .- وفي الحقيقة إذا كان التاريخ هو دراسة الماضي لفهم الحاضر ولرسم خطوط المستقبل كما يقول فلاسفة التاريخ ، وأنه ذاكرة الشعوب وأن علينا أن ننشط هذه الذاكرة باستمرار ، فلا يجب أن ينصب اهتممنا على التاريخ السياسي فقط ، بل يجب أن نكرس الجهود لدارسة التاريخ الاجتماعي بكل جوانبه المختلفة من اقتصادية إلى فكرية وثقافية وحضارية ، حتى تعي الأجيال معانة القوى الشعبية السابقة ومدى تفاعلها مع العوامل المختلفة التي أحاطت بها حتى أنضجت الظروف المهيئة لوقوع الحدث السياسي ، ولإبراز التغيرات والتطورات المتعاقبة على مر العصور . [c1]المؤرخون الرسميون[/c]- في كتابك القيم الذي يحمل عنوان (( المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول ) والذي يبدأ وقائعه وأحداثه التاريخية منذ بداية دخول العثمانيين إلى اليمن سنة 1538 م ، وغروب شمسهم عن سماء اليمن سنة 1635 م . وقعت معارك على مسرح اليمن ولكن من نوع مغاير عن المعارك العسكرية التي كنا نسمع ونرى خلالها دوي المدافع العثمانية الثقيلة والضخمة , ووميضها وهي تدك حصون وقلاع القوى السياسية في اليمن وكان أبرزها القوى الزيدية . فهل في الإمكان إعطاؤنا صورة سريعة عن الكتاب و المؤرخين الرسميين ، والمؤرخين المعارضين ؟ .- أقصد بالكتاب أو المؤرخين الرسميين أولئك الذين كانوا منحازين إلى الحكم العثماني . فقد كان أغلب أفراد هذه المجموعة يعملون في خدمة العثمانيين في اليمن . إذ كانوا يتولون الوظائف الحكومية المختلفة هناك ، وكان لهذا أيضا أثره في انحيازهم إلى جانب العثمانيين خوفا من طردهم من وظائفهم من ناحية قام بعض هؤلاء المؤرخين بتأليف كتبهم بناء على تكليف بعض الولاة العثمانيين لهم , ولذلك جاءت كتابتهم في صالح هؤلاء الولاة أو في صالح العثمانيين بوجه عام . وأن تفاوتت درجة الانحياز والميل من مؤرخ إلى آخر من ناحية ثانية . [c1]المؤرخون المعارضون[/c]أما المجموعة الثانية وهي مجموعة المؤرخين المنحازين إلى الأئمة الزيدية ، فيقول عنهم الأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم : أولا : كانوا جميعا من أتباع المذهب الزيدي , وكان بعضهم من أسر الأئمة الزيديين الذين ظهروا أو بالأحرى دعوا إلى إمامتهم في اليمن في العهد العثماني ، كما كان بعضهم الآخر من قادة هؤلاء الأئمة أو من عمالهم أي من المقربين إليهم . ومعنى هذا أن هؤلاء المؤرخين كانوا على صلة وثيقة بالأحداث وصانعيها .
مدينة صنعاء
مدينة عدن