عوامل قيام الثورة
الدعوة إلى بدء الكفاح المسلح لم تنطلق من فراغ، فإلى جانب أن الكفاح المسلح كان واردا في فكر الفرع اليمني لحركة القوميين العرب منذ البداية، فإن هناك عدة عوامل ساعدت على إنضاج الظروف لبدء الثورة المسلحة فضلاً عن أن بداية الستينيات كانت فترة الانهيار السريع لنظام الاستعمار العالمي لتنشط حركة التحرير الوطني العالمية والعربية، بلغت الحركة الوطنية في جنوب اليمن مرحلة النضوج. وكان إدراك الوحدة القومية قد تغلغل إلى عقول أبناء العديد من الطبقات والفئات الاجتماعية في المجتمع اليمني الجنوبي. وكان الاقتناع بتصفية الوجود الاستعماري والانتقال إلى التطور المستقل قد انتشر انتشاراً واسعاً في أوساط مختلفة من فئات السكان. أما ابرز العوامل التي ساعدت على انطلاق الثورة فهي:أولاً: الاضطهاد الاستعماري وسياسة الدوس على الحقوق الأولية والانتقاص من مصالح القبائل، ونزعة «العداء للعروبة» لدى السلطات الانجليزية وصنعائها في عدن التي جرحت مشاعر القومية المتأججة، كلها لعبت دوراً كبيراً في النمو العاصف للاستياء من الاستعمار (3).ثانياً: ساعدت التطورات التي حدثت في الحياة الاجتماعية لليمن الجنوبي على تكون الوعي الوطني الذاتي وقيام الحركة الوطنية وهي: تطور الطبقة العاملة، تعمق التمايز الطبقي في المدينة والريف، ازدياد تذمر الجماهير الشعبية ولاسيما الفلاحون المحليون من الاستغلال والاضطهاد اللذين كان يقترفها الحكام العملاء والاقطاعيون المحليون والبرجوازية الكمبرادورية وسائر الفئات التي كان وجودها مرتبطاً بسيطرة الاستعمار. كما ساعد على ذلك ظهور فئة من المثقفين والطلاب المعاصرين الذين تلقوا تعليمهم في البلدان العربية وكانوا مرتبطين بها (4).ثالثاً: خيبة أمل الوطنيين اليمنيين الجنوبيين من أساليب النضال السياسية والمذاهب الإصلاحية لرابطة أبناء الجنوب العربي وحزب الشعب الاشتراكي والنقابات والتنظيمات الأخرى. ولم تشمل خيبة الأمل هذه أعضاء حركة القوميين العرب وأبناء فئات السكان المعدمة فحسب بل العديد من أعضاء حزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب العربي وقادة آخرين للحركة الوطنية (5).رابعاً: قيام ثورة 26سبتمبر 1962م في شمال اليمن والقضاء على نظام حكم الإمام المتخلف. لقد كان واضحاً في أذهان دعوة الكفاح المسلح منذ البدء، انه لايمكن أن تنطلق الثورة وتحقق أهدافها مالم يتم إسقاط نظام الإمام الذي كان يحول بطبيعته دون الاستفادة من شمال الوطن اليمني كعمق استراتيجي لدعم ثورة التحرير في الجنوب.خامساً: تواجد القوات المصرية في شمال اليمن من اجل حماية الجمهورية من المؤامرات الداخلية والخارجية التي تعرضت لها فور نجاح الثورة في سقوط حكم الإمام وتمكن الإمام (البدر) نفسه من الهرب والإفلات من أيدي الثوار في صبيحة الثورة. ولقد اجمل مكرم محمد احمد قيمة الوجود المصري في الشمال بالنسبة لثورة الجنوب في الأبعاد التالية (6):1) ان الوجود المصري في الشمال قد قام بدور فعال لحماية ثورة 26سبتمبر، ومن ثم أمن قاعدة نضالية حرية الكر والفر والتدريب لثوار اليمن الجنوبي.2) الدعم العسكري المتصل بالسلاح والتدريب وهو دعم ضروري لاستمرار الكفاح المسلح في الجنوب.3) الدعم المالي الذي مكن أجهزة الثورة في الجنوب من التحرك في الداخل والخارج.4) الدعم المعنوي المتمثل في ثقل الجمهورية العربية المتحدة مع ثورة 14أكتوبر، الامر الذي ساعد الجبهة القومية في استقطاب مزيد من أبناء الجنوب إلى صف الثورة.وقد كان من الطبيعي أن تساعد مصر ثورة الشعب في اليمن الجنوبي انطلاقاً من مبدأ وحدة الثورة العربية ووحدة نضال الشعوب العربية ووفاء بالتزاماتها تجاه الأمة العربية نظراً لوعيها بطبيعة الاستعمار وان قضية الحرية لا تتجزأ. ولعل كلمة رئيس الجمهورية العربية المتحدة في صنعاء ووعده بطرد الاستعمار البريطاني من كل ارض عربية تقدم الدليل على تجسيد مبادئ الثورة العربية وتقديم العون الكامل لشعب الجنوب (7).وعموماً فان اندلاع الثورة المسلحة، كما جاء في الوثيقة التحليلية للاتحاد الشعبي الديمقراطي بهذا الصدد، كان «من شأنه انه يخفف الضغط على وجود القوات العسكرية المصرية في الشمال (8). وهو الأمر الذي لا يعني غياب بعض السلبيات التي وجدت من خلال التعامل بين ثوار الجنوب وبين أجهزة «ج. ع. م.» لان السلبيات وجدت من خلال التركيب الخاص الذي تواجهه دولة مثل «ج. ع. م.» ذات توجه اشتراكي ولابد أن تعاني خلال مرحلة استكمال التحرر من تناقضات اجتماعية متعددة (9).سادساً: قرارات الأمم المتحدة الخاصة بإنهاء الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن. في الأساس كانت الأمم المتحدة قد أصدرت في 14ديسمبر 1960م بياناً بمنح الاستقلال للأقطار والشعوب المستعمرة أعلنت فيه.. ضرورة الإسراع دون قيد أو شرط بإنهاء الاستعمار بكل أشكاله ومظاهره «وأكدت أن شعوب العالم عبرت عن رغبتها في إنهاء كل أشكال الاستعمار وأكدت قناعتها بان الاستعمار يعوق تطور الشعوب ويؤثر تأثيراً ضاراً على السلام العالمي. كما أكدت الأمم المتحدة في إعلانها أن حركة التحرر لا يمكن إعاقتها وان الحياة هي حق لا منازع فيه للشعوب. وانتهت إلى أن عدم النضج السياسي أو الاقتصادي لا يجب أن تستند إليه القوى الاستعمارية لتأخير استقلال وحرية الشعوب، وطالبت بإيقاف كل أساليب القمع الاستعمارية واتخاذ التدابير السريعة لاستقلال المستعمرات ونقل السلطة إلى ممثلي الشعوب المستعمرة دون أية شروط، وأكدت حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها (10).غير ان بريطانيا لم تتعاون مع الأمم المتحدة لإنهاء استعمارها لجنوب اليمن. لذلك أصدرت الجمعية العامة للمنظمة الدولية قراراً في 17ديسمبر 1962م تضمن أن بريطانيا تستمر في سياستها التي ترفض السماح لوفد لجنة تصفية الاستعمار من زيارة عدن ومحمياتها، وطالبت بريطانيا بإلغاء القيود المفروضة على الحريات وضرورة إجراء انتخابات عامة في المنطقة في وجود الامم المتحدة وان تؤدي هذه الانتخابات بالضرورة إلى استقلال شعب المنطقة (11).وفي 3مايو 1963م أصدرت لجنة تصفية الاستعمار المنبثقة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً اتخذته بعد دراسة الأوضاع في الجنوب المحتل وبعد استماعها إلى ممثلي شعب المنطقة، أوضحت فيه أن بريطانيا لم تراع ما جاء بالإعلان العالمي الخاص بمنح الاستقلال للأقطار والشعوب غير المستقلة الذي صدر عام 1960م وأكدت سوء حالة السكان والزعماء الوطنيين في المنطقة وركزت على حق شعب المنطقة في تقرير مصيره في اقرب فرصة، وطالبت اللجنة المملكة المتحدة بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين وعودة الزعماء المبعدين والمنفيين وإلغاء كافة القيود المفروضة على الحريات، وقررت اللجنة إيفاد لجنة فرعية لزيارة اليمن الجنوبي والمناطق المجاورة والاستماع إلى وجهات نظر أبناء المنطقة وزعاماتهم. وعبرت اللجنة عن أملها في تعاون بريطانيا مع اللجنة الفرعية التي عليها أن تقدم تقريراً في نفس العام تضمنه توصياتها للوفاء بما جاء في الإعلان العالمي الخاص بمنح الاستقلال للأقطار والشعوب غير المستقلة (12).وقامت اللجنة الفرعية بالاتصال بأطراف الحركة الوطنية في الجنوب الموجودة بالقاهرة وجدة وتعز وغيرها، كما حاولت القيام باتصالاتها مع بريطانيا في لندن وعدن ورفعت توصياتها الى لجنة تصفية الاستعمار في أول يوليو 1963م وهي توصيات تضمنت الاتجاهات التي اتضحت في قرار اللجنة في مايو 1963م بالإضافة إلى توصيات جديدة بناءة تطالب بإيقاف أعمال القمع ضد شعب المنطقة، وقصف القرى بالقنابل وإنهاء المجالس التشريعية الموجودة في المنطقة والتي لا تمثل الشعب تمهيداً لقيام مجلس يمثل شعب المنطقة وحكومته المنبثقة عن إراداته. وأكدت التوصيات أهمية وضرورة وجود الأمم المتحدة في المنطقة إبان قيام الانتخابات المفتوحة لتجسيد الإدارة الشعبية وهي انتخابات تجرى قبل الاستقلال الذي يتم وفقاً لإرادة الشعب. وانتهت التوصيات إلى ضرورة دخول السلطة البريطانية في مفاوضات مع الحكومة التي تجسد أماني الشعب لإعداد الترتيبات الكفيلة بنقل السلطة إلى ممثلي الشعب بالمنطقة (13).وفي 19 يوليو 1963م بعد أن درست لجنة تصفية الاستعمار تقرير اللجنة الفرعية واطلعت على توصياتها، أصدرت قراراً جديداً أكدت فيه رغبة شعب المنطقة في إنهاء الوجود الاستعمار وأوضحت إن استمرار الموقف في المنطقة قد يؤدي إلى وضع يهدد السلام والأمن في العالم. وصدقت اللجنة على كل ما جاء في تقرير اللجنة الفرعية، ونلمح إضافة إلى ما جاء في قرارها الأول، اتجاهات بناءة أبرزها المطالبة بضرورة تصفية القاعدة العسكرية البريطانية في عدن في اقرب فرصة على أساس أن شعب المنطقة يعتبر وجودها تهديداً لأمنه وان حق تقرير المصير يجب أن يسير على أساس حق التصويت العام لكل البالغين (14).وفي 11ديسمبر 1963م أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً أيدت فيه توصيات اللجنة الفرعية الخاصة بعدن. وأعربت عن أسفها لامتناع بريطانيا عن التعاون مع اللجنة الفرعية والسماح لها بدخول عدن لتنفيذ المهام الموكلة إليها. وأيد القرار قرارات لجنة تصفية الاستعمار في 3مايو، 19يوليو من عام 1963م وأكدت الجمعية العامة حق شعب «عدن ومحمياتها» في تقرير مصيره وطالبت السلطة البريطانية بتنفيذ ما سبق أن أوصت به لجنة تصفية الاستعمار. وطالبت لجنة تصفية الاستعمار بمتابعة الوضع في المنطقة وتقديم تقرير عنه في الدورة التالية (15).ولا شك أن هذا الموقف من الأمم المتحدة قد ساهم في التعريف العالمي بقضية الجنوب اليمني وتعرية الاستعمار البريطاني.سابعاً: الخبرة التي اكتسبها شعب اليمن الجنوبية في الاشتباكات المسلحة الأولى ضد المستعمرين في الخميسينيات، وكذلك الخبرات العسكرية التي حصل عليها اليمنيون الجنوبيون إبان خدمتهم في الحرس الوطني في الشمال. وينبغي أن تؤخذ بالحسبان الاعتبارات الذاتية أيضاً: وجود أسلحة لدى القبائل اليمنية الجنوبية، استعمالها لها بصورة ممتازة، الشجاعة التقليدية والميزات الحربية لليمنيين. وليس من باب الصدفة ان التشكيل الذي كان قد اكتسب خبرة الاشتباك مع القوات البريطانية، عنينا به تشكيل القبائل، بات واحداً من مؤسسي الجبهة القومية (16).ثامناً: وهناك عامل أخير، وهو ذو أهمية خاصة في ذات الوقت، ذلك هو وجود التنظيم الثوري الذي تولى القيام بالثورة وقيادتها.. أي الفرع اليمني لحركة القوميين العرب الذي كان محدود الحجم إذ كان يضم بضع مئات من الأعضاء في تنظيم متماسك ومنضبط إجمالاً (17)، إلا ان فعاليته كانت في نمو مضطرد «نظراً لتسلحها ببناء تنظيمي وفكري محدد ومعمق وبخط سياسي واضح، وكانت مهيأة للقيام بدور النواة في تنظيم اكبر يتمكن من تجسيد الحس الوطني ويحشد طاقات الجنوب لتحقيق الأماني الوطنية بتصور جديد لا يرفض أبعد أشكال النضال وهو الكفاح المسلح (18).[c1]* كاتب مصري[/c]