سعيد صالح بامكريدالكلمة "الحلوة" تتشبت بالوجدان بداخله، وتتقدم بثقة نحو الأحاسيس لتثير ماهو أرق وأجمل لدى الإنسان، ثم تبقى متوهجة صاخبة في الذاكرة حين تلامس بصدقها وروعتها مشاعره وعواطفه .هاهي اشعار المحضار تقتحم وتتغلغل دواخل البشر وتقطن في ثناياها ناشرة الخضرة والبهجة والنشوة وقليل من كثير الشجن .. قصائد المحضار حركت مياه راكدة وأنفس عليلة و...المحضار أبن مدينة الشحر الساحلية أو بالأصح الميناء الشهير الذي سطر أبناؤه أروع ملاحم لمقاومة للغزو البرتغالي "كما جاء في كتاب الشهداء السبعة" للمؤرخ الكبير أبن مدينة الشحر ايضاً محمد عبدالقادر بامطرف.تفتحت عينا المحضار منذ الصغر على بيئة متأدبة متدينة لها تقاليدها الثقافية والأدبية والفنية، لذا بدأ المحضار بدراسة القرآن الكريم الذي فيه البداية الحقة والاساس المكين والطريق السليم لإنسان وهب نفسه للحرف الحنون والكلمة الطرية والشعر الجميل .. أستفاد كثيراً من دراسته القرآن الكريم على يد ابيه العلامة الذي وجهه بعد ذلك للإلتحاق بالمدرسة الابتدائية حين قضى فيها نحو سنوات أربع، ثم انتقل بعدها إلى "رباط الشحر" وهو معهد ديني متخصص تلقى فيه خلال ست سنوات كاملة علوم الدين من فقه وحديث وتجويد وكذا علوم الأدب واللغة من نحخو وصرف وبلاغة وشعر.في صباه الباكر ظهر ميله جلياً نحو الأدب، وتذوقه الواضح للشعر إذا تعلّق كثيراً بدواوين شعر العربية الذي امتلأت مكتبة والده التي كان لايفارقها إلا لماماً.ولع صاحبنا المحضار بالشعر الشعبي الحضرمي حيث أخذ يرتاد مجالس الشعراء وحضور مساجلاتهم الشعرية التي أشتهرت بها مدينة الشحر، وقد حرص كل الحرص ايضاَ على متابعة مطارحاتهم وأنشطتهم المختلفة.إنتساب شاعرنا المحضار الأسرة شغوفة بالعلم والأدب والفن كان سبباً وجيهاً لسريان الشعر في دمه وشرايينه وأوردته وحنايا دواخله، وهذا بالضبط ما كتبه الأديب الكبير والمؤرخ الشهير بامطرف عن المحضار حين قال:"لم يكن من قبيل الصدفة أن يبرز مثل هذا الشاعر الملهم بيننا، ذلك لأنه شاعر تقلّب في إصلاب شعراء، ودلف إلى هذه الدنيا والشاعرية تسري في دمه بحكم الوراثة وبحكم الاستعداد الفطري".بدأت موهبة الشاب حسين أبوبكر المحضار في التفتح والنمو متأثراً بالشاعر الشعبي المعروف آنذاك، "محفوظ العطيش" الذي كان له مساجلات كثيرى واشعار مؤثرة.وما أن بلغ المحضار الخامسة عشر من عمره حتى فقد أباه الذي كان يقوم برعايته وعنايته وتعليمه علوم الدين والدنيا .. هذه الفاجعة التي ألمت به وجدنا أثرها حزناً عميقاً في شعره وقصائده البديعة.منذ أن ناهز عمره الرابعة عشر عبرت أغانيه الأولى نحو الناس فجاءت صادقة التعبير عن روحه ووجدانه ومعاناته فكانت أشعاره مليئة بالحب مكتنزة بالشجن.بدايات المحضار حملت بوضوح نضج شاعريته وبعدها عن الركاكة والتقليد التي غالباً ما ترافق بالبدايات الشعرية، قصائد المحضار في أغلبها تنهل من السهل الممتنع فهي قوية ورائعة وغنية .. فما أن جاوز المحضار العشرين من عمره حتى أصبح يتصدر المساجلات الشعرية التي تعقد أو تنظم بين الحين والآخر في مدينة الشحر أو مدن حضرموت الأخرى .. وأخذ بالفعل يقول شعراًُ شعبياً بالغ العمق والجمال يبث فيه أشجانه وأحزانه، ويذيب في كلماته مافي نفسه من حب وأسى وعواطف ومشاعر جياشة.من خلال قصائده ذات الإغراض المتعددة والمواضيع المتنوعة استطاع المحاضر الغوص في أعماق النفس البشرية محاولاً تصوير ما يعتمل بداخلها من أحلام وآمال وآلام وهواجس وتطلعات.نجح المحضار نجاحاً منقطع النظير حين جعل "الغزل" بوابته الواسعة لكي يدلف ويدخل عالم الشعر والغناء واللحن والطرب، وتبدو جدية موهبته وروعتها إذ صاغ الغزل بوسفه قيمة نبيلة وأحساساً رائعاً ومشاعر صادقة، حين جعله ــ أي الغزل ــ محتشماً في اللفظ، عفيفاً في المعنى، رقيقاً في العاطفة .. بعيداً عن الميوعة والإستهتار .. قريباً من الحياء وسحر الكلام .. هاهو يقول:[c1]نظرة وبس ماتكفي لابد من تعارف وإنسجامكلمة وبس ما تشفي لابد يتبع الكلمة كلام[/c]ونجده في موقع شعري آخر يؤكد ويرسخ المعنى الذي ذهبنا إليه ومفاده ان للغزل والحب والعاطفة أجواء سامية تحفها الطهارة والعفة وليس الكلام الفاضح أو الغزل الداعر .. تأملو معي:[c1]"نا" درست الهوى وعرفت صورته وأسمه واستوت ياعرب عندي حروبه وسلمه كله أتعاب .. من أوله لمن تاليه[/c]ويضيف المحضار موضحاً موقفه من الحب بأنه دعوة لإصلاح الدواخل البشرية وعلاجها من العطب والأدران المجتمعية، فيقول:[c1] والله يرضى بعرضي يستباح ونا نقي .. أنقى من الراحةما مقصدي في الحب شيء غير الصلاح كلما خرب .. حاولت إصلاحه[/c]عندما يتنفس الإنسان قصة حب ويعيش إشتعالاتها المختلفة وما يتبعها من فراق وعتاب وود وخصام فلابد له التعبير عن كل تلك الإنفعالات والمشاعر .. فما بالك وهذا التعبير يأتينا من شاعر فياض المشاعر هو المحاضر صاحب العتاب الرفيق/ والخصام الشفيف، دوماً عتابه مهذب لكنه واضح وعميق المعاني وغائر الاثر .. المحضار رجل مشاعر متسامح لكنه صاحب كبرياء فهو يقول:[c1]رح ماء أنت أول من تحدانا وراح رح مامعي في عشقتك راحة رح خلنا داوي صوبي والجراح من هو مصوّب يعرف إجراحه[/c]المحضار الشاعر الفذ إلى جانب كونه ناعم المشاعر، مرهف الحس، عميق المعاني نجده أيضاً يعاتب في رفق ولين كما أسلفنا وهذا يتفق مع طبيعته كرجل مسالم .. يقول الأستاذ الكبر المؤرخ/ محمد عبدالقادر بامطرف:"والمحضار في غزلياته عاشق مبرقع بالحياء وعفة اللسان فهو نظري عاشق محافظ".اشعار المحضار واكبت التطورات والأحداث وترجمت بشكل راق ومؤثر الوقائع الإجتماعية والأحداث السياسية المختلفة .. فقد غنّى المحضار للوطن في أجمل وأروع صوره، تناجى مع شمسان وضبضب كما تفجرّ حبه الكبير لمسقط راسه مدينة الشحر، حيث يقول المحضار في قصيدته البديعة "أمي الشحر":[c1]أنا نصيبي من الدنيا حبيبي يوم كل مجتهد له نصيب[/c] *** *[c1]أمي الشحر .. والوالد جبل ضبضب وابني الحيد لسود وابنتي ضبةكل ما جيت لهم قالوا: هلا ومرحب عش هنا بيننا لاتنزل الرحبةبانسايرك على سيرة وضبة طننا فيك طول الوقت ما بايجني[/c]المحضار دون شك فلتة أدبية وفنية ترغم الجميع على إحترامها والإعتراف بقدراتها الكبيرة .. كلمته الشعرية رصينة، عذبة، ساحرة، وله إبتداع متميز في تركيبها وحبك مدلولها .. مجمل القول ان المحضار طاقة أدبية وفنية لاتتكرر.عرف ميدان الغناء اليمني وخصوصاً اللون الحضرمي الشاعر الراحل المحضار ليس شاعراً كبيراً وحسب، بل وملحناً متفرداً، كثيراً ما علقت ألحانه بالذاكرة والوجدان والمشاعر .. يقول عن ذلك الشاعر والملحن المعروف صالح ابوبكر المفلحي:"المحضار ملحن بارز وألحانه ذائعة الصيت وواسعة الإنتشار إلى جانب كونه شاعر مرهف الحس وعميق المعاني".لهذا تتفق الغالبية بأن المحضار فنان بالسليقة شاعراً وملحناً حيث يستخرج من المشاهد العادية جمالاً فنياً بديعاً وأخاذاً.اجمع المهتمون بالغناء والطرب والموسيقى أن للمحضار دوراً واضحاً ومهماً في تحديد الشخصية الفنية للأغنية الحضرمية التي عانت قبل مجيء المحضار من النمطية والتكرار والبدائية .. ومع المحضار اضحى "الحضارم" يرددون أغنيتهم الاصيلة التي شهدت على يديه التطور والازدهار والإنتشار .. وفي هذا الأمر كتب الأستاذ الكبير محمد عبدالقادر بامطرف:"لقد أتسمت أغاني المحضار بالتنغيم الموسيقي الأخاذ على مختلف الطبقات الصوتية، كما أتسمت بالحيوية والتجديد، إضافة إلى ما كانت تمتاز به من المقومات الوجدانية".المحضار هو بحق شاعر وملحن الأغنية العاطفية في اليمن، وربما في الجزيرة كلها، إذ أن أغلب شعره غناء عاطفي حزين كله شجن وحب ولوعة وعتاب .. غناء صادر عن روح عاشقة ولهانة متعطشة للحب .. أنظروا ماذا يقول المحضار:[c1]أعود له من بعد ما خانني؟ استغفر الله لا أشتري بالود ما باعني في بيعه وشراهبا أرميه بالسهم الذي صابني به باتحداهوبسعد هذا على الماضي سلام الله[/c]الشاعر الحق هو ذلك الذي يستطيع إقناع الآخرين بصدق تجربته بحيث يمتلك عليهم مشاعرهم وعواطفهم .. وهذا بالضبط ما يفعله المحضار وكلماته التي تستوطن الأحاسيس ولا تغادرها، فمن مننا لاينفعل ويتفاعل مع كلمات الأغنية التالية:[c1]أنا من أجل واحد تجنبت العرب وبقيت وحديوحبيت التباعد ولا فكرت قط أيش عاد بعديعطيته قسم زايد وغيره يقبل الزايد إذا زاد[/c]الكبار والصغار في عموم حضرموت ومختلف بقاع اليمن، والجزيرة والخليج، يعرفون ويحفظون أغلب كلمات وقصائد واغاني المحضار .. وهل يمكن أن ننس:[c1]"رد قلبي في مكانه أن كان عينك بالخيانة"أو:" سر حبي فيك غامض سر حبي ما أنكشف"[/c]عشرات وعشرات من الأغاني الجميلة الساحرة التي غناها كبار الفنانين وعبروا بها المحيطات وحصدوا المجد والشهرة من أمثال:محمد جمعة خان، سعيد عبدالمعين، د. عبدالرب أدريس، أبوبكر سالم بلفقيه، مرسال والقائمة طويلة.
|
ثقافة
قليل من كثير المحضار
أخبار متعلقة