باريس/إيلاف/ أنيسة مخالدي: من قال إن الشعوب الغربية لا تؤمن بالروحانيات و الغيبيات،؟؟ فرنسا مثال جّيد على عدم صّحة هذه الفكرة، فرغم التقليد العلماني الذي يميزهذا البلد منذ أكثرّ من قرنين وتراجع مظاهر التّدين إلا أن إقبال الفرنسيين على استشارة المّنجمين والعرّافين لم يعرف التراجع قطّ، بل انه في تزايد مستمر. الظاهرة تبدأ من حكام و سياسيي هذا البلد، فأشهر رؤساء فرنسا و هو فرانسوا متران الذي حكم البلاد أكثر من 15 سنة كان يلجأ باستمرار لخدمات عرّافة مشهورة اسمها (إيزابيل تيسي) يسأل رأيها في كل الأمور، وكثيراً ما كان يعتمد على تكهناتها في أخذ قراراته حتى السياسية منها، حتى أصبحت هذه العرّافة تلقب بعرافة الرئيس و حازت سنة 2001 على درجة الدكتوراه في علم الإجتماع من جامعة السوربون العريقة. كما كان الرئيس الفرنسي السابق جورج بومبيدو الذي حكم فرنسا من سنة 1969 إلى سنة 1974 قد ساهم في صنع شهرة المنّجمة والعرّافة مدام سولاي حيث كان غالبا ما يجيب على الأسئلة التعجيزية بعبارته المشهورة أنا لست مدام سولاي. !.. يقال أيضا إن الرئيس شيراك كان هو الأخر يزور عيّادة عرافة مشهورة أخرى تسمى برناديت أوبان- و إن كان تعلقه بالتنجيم أقل من سابقيه، كما أن كثيراً من مشاهير الفن والرياضة يصادقون علانية عدداً كبيراً من العرّافات المشهورات كالعرّافة اليهودية الأصل إستير التي تلقب بعرافة المشاهير، حتى مّدرب الفريق الوطني لكرة القدم ريمون دومنيك الذي صرحّ أكثر من مرة أنه يستشير الأبراج لاختيار لاعبي التشكيلة الوطنية.ولكن قصة الفرنسيين مع التنجيم لا تقف عند المشاهير فحسب بل هي قصة ولع شعب بأكمله، والإحصائيات التي أجريت تثبت ذالك، دانيال بوي باحث من معهد الدراسات الخاص بالحياة السياسية والاجتماعية Cevipof’’ قام بإنجاز 5 دراسات بين سنة 1982 و2000 خُلصُت كلها إلى أن إيمان الفرنسيين بالغيبيات في تطور مستمر، حيث تبين أن %21 منهم يِؤمن بالسحر، % 35 بالأحلام التنبؤية و% 33 منهم يؤمنون بالأبراج. وحسب دراسة حديثة أنجزها معهد ‘’إيفوب’’ المعروف سنة 2007 تبيّن أن% 42 من الفرنسيين لا زالوا يؤمنون بحدوث المعجزات، و% 59 منهم يعتقد باستحضار الأرواح ووجود الأشباح و العفاريت. المستوى الثقافي أو الاجتماعي للأشخاص لا يبدو ذا تأثير كبير على هذا التوجه، فالمقبلون على خدمات المنجمين و العرافين من كل الأوساط و المستويات بل أن غالبيتهم هم من الحاصلين على شهادات جامعية و من ميسوري الحال، بحسب شهادة الباحث ‘’غي ميشولا’’ مدير قسم علم الاجتماع ‘’بالمركز الوطني للأبحاث العلمية’’ والذي ساهم في تأليف كتاب حول هذا الموضوع بعنوان’’ نكبة الإرث المسيحي’’ (دار نشر لرمتان) وهو يرجع هذه الوضعية إلى الفراغ الروحي الذي تكّون عند الفرنسيين بسبب تراجع مظاهر التّدين والذي جاء الإيمان بالغيبيات كمحاولة منهم لملئه. [c1]منّجمون من كل حدب و صوب:[/c]لإشباع طلب الشّغوفين بعالم الغيبيات، تعجّّ فرنسا بعدد هائل من المنّجمين والعّرافين والسّحرة والفلكيين والُمرابو أو السحرة الإفريقيين. يضّعهم مركز السّجلات التجارية ضمن تصنيف العمال الأحّرار ويقّيم عددهم ب 70.000 عامل حّر ينشطون في حقل الغيبيات أو كما يورده مركز السّجلات التجارية باللغة الفرنسية paranormal، معظمهم متمّركز في المدن الكبرى كباريس، مرسيليا، ليون، نيس و بوردو، و يعتقد أن عددهم يفوق ذالك بكثير، علما أن القانون الفرنسي قد أصبح منذ 1994 أكثر ليونة مع الممارسين لهذه النوعية من النشاطات، حيث تمّ إلّغاء قانون R.34.7 الذي كان يجّرم من يمارس التنجيم والشعوذة منذ 1 مارس 1994 واستبدل بقانون أخر يسمح بممارسة هذا النشاط بكل حرية باسم ‘’مبدأ المساواة’’. و رغم هذا فقد بقي الإطار القانوني غير واضح، فلا شهادات معينة تطلب من الداخلين في هذه المهنة، ولا هم يخضعون لأي نقابة أو مسابقة ولا أية شروط قدرة مهنية أو مالية تذكر. بل أن الدخول في هذا النشاط يُمّكن الأجانب من الحصول على أوراق الإقامة و هو ما يفسر وجود عدد هائل من ‘’المرابو’’ أو السحرة الإفريقيين خاصة بالضاحية الباريسية، وإلى جانب أنهم استعاروا من الأطباء مفرداتهم التقنية مثل ‘’الزيارة’’ ‘’ التشخيص’’ ‘’ الحالة’’ أو ‘’الوصفة’’ فهم يدخلون أيضا مثل الأطباء و المحامين ضمن تصنيف ‘’المهن الحرّة’’ و هي الصفة التي منحت لهم باعتبارهم ‘’معالجين تقليدين’’ مما يجعل السلطات الفرنسية تمنحهم أوراق إقامة متّجددة الصلاحية. استشارة أي عرافة أو منجمة في ‘’عيّادتها’’ -كما يقال لوصف المكان الذي يستقبل فيه الزبائن- يُكلف على الأقل 80 يورو للساعة وقد يصل إلى 300 يورو و أكثر عندما يتعلق الأمر بعرّافة ذائعة الصيت، لكن ذالك لا يمنع الكثير من تخصيص جزء من ميزانيتهم تحديدا لهذا الغرض، ‘’إيلزابيت’’ 52 سنة تاجرة تقول أنها تستطيع أن تقتصد في كل شيء اللبس، الأكل، وسائل الترفيه و الأسفار، لكنها لا تتصور أن تبقى من دون تنبؤات عرافتها التي تعطيها الثقة وغالباً ما تكون، كما تقول ‘’صادقة’’ في تكهناتها. يبقى أن معظم الفرنسيين يتجهون إلى الاستشارة عبر الهاتف: فهي أسرع وأقل تكّلفة حيث تصل سعر مكالمة تدوم عشرة دقائق إلى 15 يورو. فتيحة فرنسية من أصول جزائرية تقول إنها لم تفكر يوما في استشارة عرّافة لكن وضعيتها النفسية المتأزمة بعد طلاقها وإحساسها بالوحدة و الضياع جعلها تتعلق بقشة العراّفة التي كان كلامها يعطيها إحساسا غريبا بالأمان.[c1]إقبال كبير على السحر الأسود..[/c]لكن أخطر من ذالك ظهور طلب جديد على أعمال الشعوذة و السحر الاسود، حيث يعتقد أن 40.000 من 70.000 عامل في مجال الغيبيات هم ممن يمارسون أعمال السحر و الشعوذة و هم لا يتّرددون في عرض منتجاتهم على زبائنهم و على صفحات المجلات ومواقع الأنترت علانية وفي وضح النهار. المُروّجون لهذه المنتوجات يقولون أنها قادرة على جلب الحّب، المال، الحظ أو الحماية لصاحبها أو إلحاق الأذى وسحر أعداءه و غالبا ما تكون عبارة عن دمى، توابيت صغيرة، مرايا، كرات وأحجبة صغيرة عليها عبارات غريبة وعادة ما يطالبون زبائنهم بمبالغ مرتفعة قد تصل إلى 3000 يورو مقابل أي عمل، خاصة فيما يخّص ألعاب الحظ أو علاج الأمراض مثلاً. الأدهى، أن اللجوء إلى هذه الممارسات أصبح يعتبر ضربًا من ضروب الموضة، فمن يقصد الفناك أكبر محلات الكتب وأدوات المكتب الفرنسية لا يجد الرفوف إلا وهي ملأى بكتب الميتافيزيقيا : دليل يُعلمك كيف تستعمل قوّاك الخفية، وآخر كيف تقرأ الطالع في الورق وفي الأرقام، و ثالث يساعدك على تنظيم حياتك حسب الأبراج، وصولاً إلى الأدب حيث أصبحت الروايات التي تعالج هذه المواضيع هي الأكثر مبيعاً : 3 ملايين نسخة لرواية دَان براون موجة القاع و700.000 نسخة لأخر رواية للكاتب نفسه ملائكة و شياطين (دار نشر لاتاس) منذ صدورها في مارس الفارط. بالإضافة إلى ظهور مكتبات متّخصصة على غرار مكتبة المجهول في الحيّ اللاتيني التي تعرض لزبائنها من هواة السحر والتنجيم كتب ومواد عجيبة كمفاتيح وصناديق و خواتم يقال إنها تجلب الحظ والقوة لصاحبها. البروفيسورجاكي كوردونييي وهو باحث في الأديان، يتابع منذ سنوات سلوكيات طلبة المدارس، ظهر مؤخراً محذراً من خلال محاضرات يلقيها في جميع مدارس وثانويات الجمهورية مما: أسماه سقوط المراهقين في فخّ الشعوذة والانحراف. السبب يقول البروفيسور كوردونيي عائد لتأثرهم بالأفلام التي أصبحت تنتج بكثرة في الآونة الأخيرة كهاري بوتر، بلوبري ماتريكس سيد الحلقات ومسلسلات بوفي، قاهرة الأشباح، و شرماد: الأخوات الساحرات و صبرينا، بعضهم يذهب لّحد تقّمص دورالتلاميذ السّحرة على أضرحة المقابر التي يذبحون فيها أجسام حيوانات صغيرة كنوع من القربان و يمارسون فيها طقوس غريبة أشبه بما يروه في أفلام هاري بوتر، كما يلتقون على صفحات الشبكة العنكبوتية من خلال مئات المّدونات التي يفتحونها لنقل تجاربهم مع عالم السحر و الماورائيات، ووصف تفاصيل و مكونات وصفات سحرية معينة. أكثر من كونها لعبة، عواقب مثل هذه الممارسات قد تكون وخيمة وتُدخل أصحابها في دائرة الجرائم والتطرف و ظاهرة ولع الفرنسيين بالتنجيم تبدو كلها وكأنها سد للفراغ الروحي الكبير الذي تعيشه المجتمعات الغربية وانتصار للخرافات والمعتقدات البّالية بعد ثلاثة قرون من الحكمة والعقل.