إبن خلدون
د. قاسم المحبشي:أقرت المنظمة العالمية للثقافة والتربية والعلوم "اليونسكو" التابعة للأمم المتحدة عام 2006م ان يكون العام العالي لابن خلدون (1332- 1406م) وذلك احتفاءً بمناسبة مرور ستة قرون ميلادية على وفاته، حيث تحتفل الدوائر الثقافية والاكاديمية في العالم أجمع بتنظيم حملة واسعة من الفعاليات: مؤتمرات علمية وندوات وملتقيات ثقافية، مناقشات وحوارات ساخنة في مختلف وسائط الإعلام السمعية والمرئية والكتابات الصحفية وغيرها تحت أسم اليوم العالمي لابن خلدون.فما الذي يفسر انبعاث ذلك الذي يرقد منذ 17 مارس 1406م في مقبرة العظماء في القاهرة ليتوهج اليوم في سماء الثقافة المعاصرة، وما الذي يمنح عبدالرحمن محمد بن خلدون التونسي الحضرمي هذا الزخم الجديد وهذا الدفق المتواصل؟!بل قل: ما السر الذي يخفيه ابن خلدون ليحظى بهذا الاهتمام المنقطع النظير، ومن اين يستمد صاحب (المقدمة) هذه المكانة العالية في عرش الثقافة العالمية، واين يمكن لنا العثور عن السبب في ذلك المجد الرفيع الذي حققه ابن خلدون بعد ستة قرون من وفاته، وماهي القيمة الحقيقية التي منحها العالم المعاصر لفيلسوف المغرب العربي والشمال الافريقي؟!هذه الاسئلة وغيرها كثير هي التي وضعها الدكتور قاسم عبد عوض المحبشي استاذ فلسفة التاريخ والحضارة المساعد في جامعة عدن محط عنايته في المحاضرة التي القاها في منتدى الصهاريج الثقافي مساء الاحد الماضي وهي حصيلة سنوات طويلة من الدرس والاهتمام والبحث في فلسفة التاريخ والحضارة التي يعد ابن خلدون المؤسس الرائد لها باعتراف اساطين الفكر الفلسفي التاريخي الحديث والمعاصر.والباحث الدكتور قاسم المحبشي من الباحثين القلائل الذين تخصصوا في هذا الحقل الاكاديمي الاستراتيجي الهام، حيث اعد اطروحته في الدكتوراة في جامعة بغداد عام 2004م بعنوان "فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر، ارنولد توينبي موضوعاً" تحت اشراف واحد من أبرز المفكرين العرب الاستاذ الدكتور مدني صالح الهيتي.وقد أحتوت الاطروحة على مساحة واسعة افردها الباحث للحديث عن ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية السياسية التاريخية في سياق رؤية منهجية مقارنة مع ابرز فلاسفة التاريخ الحديث والمعاصر واشهرهم (ارنولد توينبي).فمن هو ابن خلدون:هو عبدالرحمن محمد بن محمد بن خلدون ولد في تونس في اول رمضان 732هـ الموافق 27 مايو 1332 وتوفى في القاهرة في اواخر رمضان عام 808هـ الموافق 17 مارس 1406م.نشاء وترعرع في كنف أسرة عريقة النسب واسعة العلم والأدب، تعلم القرآن والحديث والفقه واللغة والعلوم العقلية والمنطقية ونبغ فيها.عاش حياة عاصفة بالأحداث الخاصة والعامة، زاخرة بالنشاط والعطاء وتنقل بين عدد واسع من الوظائف السياسية والدبلوماسية والعلمية والفقهية والقضائية، من كاتب بسيط في بلاط السلطات إلى صاحب السلطان، بما يعادل رئيس وزراء اليوم، تولى شؤون قاضي قضاة المالكية في مصر سبع مرات، ومارس مهنة التدريس والفقهية.تزوج وانجب ولدين غرقا مع أمهم في البحر في طريقهم اليه في مصر، فقد اعز الناس لديه والديه وشيوخه واصدقاءه وهو مازال شاباً بسبب وباء الطاعون.كتب عدد من المؤلفات هي:1- المقدمة: وهي خلاصة عبقريته التي أشتهر بها.2- كتاب العبد وديوان المبتداء والخبر في اخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، وهو كتاب في التاريخ في ستة اجزاء.3- كتاب في التصوف وعلم الكلام.4- كتاب السائل في تهذيب المسأل.5- ابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، وهي سيرته الذاتية.6- جغرافية بلاد المغرب، قدمها للغازي التتري.7- له عدد من القصائد الشهرية الجميلة.فما الذي بقي لنا اليوم من ذلك الشخص الذي تحلل جسده إلى عناصره العضوية منذ ستمائة عام؟من المؤكد ان ابن خلدون السياسي المثقف، كان قد افزعه ان تنتهي حياته كما بدأت في أي مكان، وكيما اتفق، لكن عبقريته غيرت كل شيء، فادرك ان ضربات السيف تذهب اما ضربات العقل والقلم فهي آثار خالدة، وهذا ما جعله يصب رحيق حياته في حروف من البرونز ويستبدل ضجيجها بكتابات لا تمحى، فاحل محل جسده الفاني اسلوباً يدل عليه، ومنح نفسه جسماً غير قابل للبلي، إذا انه كتب ليست لمجرد اللذة في الكتابة، وانما لينحت من الفكر والكلمات جسم المجد والخلود الذي اصبحه اليوم وربما بعد ألف سنة.في 17 مارس من عام 1406م ستنفجر دودة وستخرج منها سبع فراشات ستحقق بكل صفحاتها لتطير وتحط فوق رفوف المكتبات العالمية وتغني في أروقة الجامعات والمتاحف وتلك الفراشات الورقية لبت غير ابن خلدون العقل والروح الذي ابى ان يموت فاضحى اليوم آلاف الصفحات وملايين الحروف، ان عظامه من الجلد والورق المقوى، ودمه من الحبر والصمغ، وروحه من الفكر والنور والجمال الخالد، انه يولد من جديد ويصبح اخيراً انساناً كاملاً متكلماً مفكراً، مغنياً، مزمجراً يؤكد نفسه ضد جمود المادة القاسي.ويحق لابن خلدون اليوم ان يفتخر بنفسه قائلاً: ليس ثمة من يستطيع نسياني ولا من يغرقني في الصمت، انني رمزاً كبير والرموز خالدة لا تموت، فإذا كان ضميري غائب فقد تكفلت ضمائر اخرى فأنا في جميع الأفواه لغة عالمية، وانا في ملايين العيون والعقول انتصب فضولاً قابلاً للاتساع، فأنا لست موجوداً بعد في أي مكان، انني موجواً اخيراً في كل مكان ..