مع الأحداث
كانت قد اكتشفت وثيقة فرعونية قديمة بمصر تتضمن خطاب احد ملوكها في مسّلة تؤرخ للجوع البشري لأول مرة قبل خمسة آلاف سنة، قال فيها : «إنني أنوح من أعلى عرشي المرتفع، بسبب البؤس الشامل الذي شاء ألا تأتي مياه النيل طوال سبع سنوات في أيامي. إن الحبوب نادرة، وكل فرد أصبح سارقاً لجاره.ويريد الناس أن يركضوا ولكنهم لا يستطيعون. الأطفال يبكون، والشبان يترنحون كالشيوخ، فقد تحطمت نفوسهم، وأيديهم تظل على صدورهم. ومجلس كبار البلاط مقفر. والخزائن فُتحت، ولكنها لا تحتوي على شيء سوى الهواء. لقد نفد كل شيء». واستعيد ها هنا هذا «النص» نظرا للهلع الذي يصيبنا نحن في منطقتنا جراء المعاناة من المعيشة اليومية وارتفاع الأسعار للغذاء والدواء والمحروقات.. وصراع مجتمعاتنا من اجل البقاء، ولكن في فرص غير متكافئة ابدا في حياة أي مجتمع من مجتمعاتنا.. إنني اليوم لا أريد ان اقدّم بانوراما تشاؤمية لمن لا مشكلة مستعصية عنده، ويعيش رخاء بسبب إمكاناته او ثرواته او سلطته في اي مجتمع، ولكن ينبغي ان يدرك الجميع بدءا بالمسؤولين الحاكمين وانتهاء بالمواطنين العاديين ان ثمة مجاعة قادمة ينبغي التنبيه لها في ظل أوضاع لا تبشّر بخير ابدا.. وينبغي الرد على كل الخاملين والكسالى والمثرثرين والعاطلين الذين ليس لهم اي شعور بالمسؤولية وخطورة ما تتعّرض له مجتمعاتنا التي فتحنا عيوننا منذ صغرنا على مشاكلها، وكنّا ولم نزل نصغي لمن يردد دوما ان مصائبنا ثلاث : الفقر والجوع والمرض. هنا نسأل من قبيل استعادة التفكير بالمصير، للعمل على خلق استراتيجية جديدة من اجل المستقبل.. خصوصا وان الغذاء أصبح جزءا حيويا من الصفقات السياسية بين الدول القوية والنظم السياسية الضعيفة. يتساءل البعض : لماذا خبا وهج الناس سياسيا وثقافيا وفكريا ؟ من دون ان يفكّرهذا البعض كيف يعيش الناس في عواصمهم المزدحمة ومدنهم الكئيبة وأريافهم الكسيحة. ان كل مجتمعاتنا لا تفّكر الا في أرزاقها وكيف تعيش. لم تعد الهموم السياسية والأوجاع القومية تشغل البال.. لم تعد الإصلاحات والديمقراطية استراتيجية أولوية في التفكير العربي اليوم.. وبنفس الوقت، لم يعد الشباب يلتصقون بالواقع وبات الجيل الجديد وكأنه منفصم عن واقعه وهارب الى وهج الماضي ومتاهة المجهول، فلم نجد عنده اية آمال ولا اية مشروعات كالتي كان تتّغنى بها الأجيال السابقة. لقد نجحت السياسات المعاصرة اليوم سواء من النظم السياسية أو على يد الأحزاب والتيارات المسيطرة ان تشغل الجيل الجديد بالأوهام والتصورات والشعارات والأغاني الصاخبة وكل الفراغات.. ان الجوع سيغدو مسلّة عربية قريبا، وستندر فرص الاستدامة في الحياة، وسيهدد وجودنا في المستقبل.. السكان في حالة ازدياد ديموغرافي غير طبيعية، المياه قليلة وتشح يوما بعد آخر.. إخفاق كياناتنا السياسية في تبني استراتيجيات وقائية بعد ان أخفقت اهم بلداننا العربية الزراعية في بناء ثورات زراعية ! اذ كانت سهول العراق وبنادر مصر وغابات السودان ومروج سوريا تعتبر كلها بلا استثناء سلال غذاء عربية لو طبقت فيها مشروعات اروائية وزراعية متطورة كما جرى في بلدان أوروبية وآسيوية أخرى، ومنها بلدان مجاورة ! ان كلا من تركيا وإسرائيل يعدان من أهم بلدان المنطقة تطويرا للثروات الإنتاجية الزراعية والحيوانية والتربية السمكية وعلوم الجينات الزراعية. علينا ان نسأل أنفسنا : ما الذي اعاقنا منذ خمسين سنة في جعل عدة بيئات عربية غنية بعناصر الإنتاج والمياه والإنسان تموت سلالها الغذائية. وباتت تعيش على الاستيرادات او على المساعدات ؟ ما الذي جنته النظم السياسية العربية بحق مجتمعاتنا العربية التي لا تعرف ما الذي تأكله وتقتات عليه اليوم ؟ بل وباتت بعض حكوماتنا لا تستطيع تنفيذ اية سياسات داخلية زراعية كونها ربطت نفسها بمصالح أميركية ومواثيق دولية ! ما جناية الملايين من الناس الذين تركوا أراضيهم الزراعية ليقطنوا حول احزمه المدن البائسة، ويغدو هؤلاء عالة حقيقية على المدن، بل وقنابل موقوتة ضدها ؟ ما الذي جعل مجتمعاتنا تركض لهاثا وراء الدولة من اجل راتب شهري دون إنتاج حقيقي يومي ؟ ما الذي ضّيع فرص الاكتفاء الذاتي في دول عربية كانت تصدر الى العالم كله القمح والشعير والقطن والجلود والصمغ والأرز والتبوغ.. ؟ ما الذي فعلته نظم الإصلاح الزراعي التي تشدقّت بها النظم الثورية العربية في اهم بلداننا الزراعية ؟ ما الذي فعلته دول المغرب العربي ازاء شح المياه الجوفية وشح الأمطار ؟ لماذا اعتمدت مجتمعاتنا في غذائها على ما هو مستورد من الخارج، وخصوصا القمح والشعير والأرز باعتبارها أساس الغذاء اليومي لعيش الإنسان ؟ اين تونس الخضراء وأين اليمن السعيد ؟ اين بلاد وادي الرافدين ؟ أين مصر هبة النيل؟ اين سهوب الجزائر ؟ اين الريف المغربي ؟ اين الجبال ؟ اين السواحل والدواخل ؟ وأخيرا : ما الذي يمكننا فعله اليوم ؟ أقول مناشدا كل عالمنا العربي العمل الجاد لبدء استراتيجية جديدة خاصة بالإنتاج الزراعي، والعمل على حلحلة المشكلات الداخلية، والإسراع بإحياء المشروعات الاستراتيجية الإنتاجية العربية التي لم تر النور ابدا، والاستفادة من خبرات وتجارب العالم كله في هذا الجانب، فالمسألة خطيرة جدا، وينبغي التوقف عندها وتسهيل فرص العمل.. او دعونا ننتظر اجتياح المجاعة لكل مجتمعاتنا لا سمح الله. [c1]* عن/ صحيفة “البيان” الإماراتية[/c]