أضواء
يحيى الاميرمع أن هناك ما يبرر الاحتفاء بقصص ومقابلات العائدين عن التطرف والتائبين من الإرهاب والجماعات الإرهابية، ومع أن حديثهم عن لحظة الانتباه، والمراجعة يستحق الاهتمام، إلا أن الاحتفاء لا يجب أن يكون مبالغا فيه، بل يجب أن يكون حذرا ومستوعبا لما يحدث.العودة عن التطرف إشكالية كبرى، فحين يتحدث أحد أولئك التائبين، وحين يروي قصته مع الانخراط في تلك الجماعات والأفكار التي كان يؤمن بها، وآليات الاستقطاب التي أصبح من خلالها فردا في مجموعة إرهابية تنظيما أو دعما أو إعلاما، فإن جانبا آخرا أكثر لفتا للانتباه في حديثه، فكلهم تدور قصصهم حول أن كلاما مبنيا على أدلة ونصوص دينية سمعوه أو قرؤوه ووجدوا فيه صوابا وخيرا وملامسة لما في أنفسهم فاعتنقوه واعتناقهم له - وعلى المستوى الفكري - لم يكن دخولا إلى مرحلة جديدة بل كان عبارة عن تطوير لأفكار وقناعات قائمة أصلا في نفوسهم، بمعنى أن ما تلقوه لم يكن غريبا ولا جديدا عليهم، بل كان حديثا عن مسائل هي في الأصل قائمة في السائد الفقهي التقليدي، فكل ما حدث أنهم خرجوا من الالتزام العادي إلى الالتزام الأكثر تشددا وانصياعا. بدليل أن أحاديثهم تمتلئ بالمناطق الضيقة والدقيقة جدا، فهم لا يحملون رؤية جديدة تنسف تلك الرؤى السابقة، ولا مشروعا فكريا جديدا يمكن أن يضمن موقفا ثابتا ومتطورا من تلك القضايا فيما لو انفجرت في وجوههم مرة أخرى. من هنا يصبح الحديث عن هؤلاء ( العائدين ) مغيبا لأحد أبرز الأسئلة التي تحتاج إلى مواجهة بعد كل بث اعتراف لمجموعة من المتورطين في قضايا تطرف وإرهاب. وهو: إذا كانوا يعلنون عودتهم، وتوبتهم من فكر التطرف، فما هو الفكر البديل الذي سيعتنقونه، وما مرجعهم في ذلك. السؤال في ذاته إشكالي للغاية، لأنه يشير إلى أنهم متلقون فقط، ومهارتهم الذهنية الأبرز تتمثل في التلقي والاستجابة والانصياع، لا لأنهم يقادون فقط، ولا لأنهم سلبيون وسذج إلى هذه الدرجة، بل لأن كل فكرة تنطلق وتقدم على أنها من الدين تحظى باستجابة وانصياع مفرط، هكذا علمونا، وهكذا تشكلت أدواتنا الذهنية في التعامل مع مختلف الوصايا والأفكار ذات البعد الديني. مما يعني أن اتجاه كثير من الشباب إلى التطرف،لم يكن خروجا ولا شقاقا على الدين، بقدر ما هو استجابة لشكل من أشكال تعاليم الدين ووصاياه، وهي تلك التي تقدمه بشكل متطرف. الاعترافات الأخيرة التي بثتها وسائل الإعلام المحلية، والاعترافات السابقة لمتورطين في قضايا إرهابية تنظيما أو دعما أو مشاركة، كلها تدور حول محور واحد هو أنهم كانوا على ضلال وقد وجدوا الآن الطريق الصحيح. لكن ذلك الضلال لم يكن من فراغ، وإنما كان على فتاوى وآراء وبحوث كلها كانت مكتظة بمئات الأدلة من القرآن والسنة ( أشار أحد أصحاب التجارب السابقة الذين بث التلفزيون اعترافهم مؤخرا إلى أن تعاطفه بدأ من بحث قرأه يحث على الجهاد والخروج على ولاة الأمر، وكان معتمدا للغاية على أدلة القرآن والسنة ) وهو ما أسهم في اقتناع الكثيرين، بل إن شيوخ فتاوى التكفير الثلاثة المشهورين حين كانوا يصدرون فتاواهم التي تجيز القيام بعمليات إرهابية كانوا يستدلون في كل مواقفهم بأدلة من القرآن والسنة. وحين ظهروا متراجعين عن أفكارهم، كانت أحاديثهم أيضا تمتلئ بالاستشهاد بالقرآن والسنة. وهم وغيرهم من الذين ما زالوا في سياق التحول من التطرف وأفكار التطرف كلهم سينتقون بين مرحلتين الفاصل بينهما دقيق وحاد للغاية، بل وغير محدد الملامح غالبا. ليبرز السؤال الأكبر: ما الأفكار البديلة التي سيعتنقها هؤلاء،وإلام تستند، وما الأدوات والآليات التي سيعيدون بها قراءة ما كانوا يقرؤونه من نصوص، تنتج لهم دلالات وأحكاما متطرفة، لكي يعيدوا ومن ذات النصوص إنتاج دلالات وأحكام معتدلة ؟ فهل التيار المعتدل والوسطي في بلدنا واسع ومؤثر؟ وهل هو قادر ومغرٍ لاستيعاب هؤلاء العائدين؟ نعم.. هناك أفكار ورؤى وسطية لكنها لم تعد تشكل تياراً يمكن التعويل عليه، مما يعني أن الخيار الفكري القادم للعائدين عن التطرف عبارة عن حالة من الفراغ والرؤية غير الواضحة، وأحاديثهم تشير إلى ذلك، إذ يتبدى فيها موقف جديد من حالة واحدة هي حالة العنف، والخروج على ولي الأمر، بينما - ومن خلال حديثهم أيضا - تتبدى الاشتباكات الواسعة بين الأدوات والأساسات الفكرية التي ينطلقون منها، وبين ما يحاولون إظهاره من موقف جديد عاقل ومتزن وتائب، حتى إن المتابع يشعر أن بإمكانه أن يهزهم بأدنى نقاش حول الموقف من الجهاد مثلا. إن مفاهيم عامة ورائجة كالصلاح والالتزام وغيرهما ما زالت تدور في فلك غير مدني ولا متسامح، بعيدا عن الاعتدال والوسطية، مما يجعل من الصعوبة بمكان ولدى الشباب اليافعين إيجاد موقف واضح يمكن أن يكون فيه الفرد صالحا وملتزما وفي ذات الوقت معتدلا ومدنيا، وهو ما يثير الارتباك في أذهانهم، ويظهرون وكأنهم غير مقتنعين حينما يعلنون تراجعا أو توبة، بسبب غياب البديل الفكري أولا، والذي يمكن أن يحافظ لهم على التزامهم وفي نفس الوقت لا يشعرهم أنهم خارج الامتثال للأوامر الدينية والفقهية. يبدو أن حالات النقاش التي يتعرضون لها، لا تتجاوز حثهم على العدول عن الجريمة، والتنبيه من خطر القيام بعمليات إرهابية، لكنها لا تقدم رؤية جديدة للتدين والالتزام والوطنية والموقف من الحياة، والتي من شأنها أن تحول هؤلاء الشباب إلى قوة في وجه أفكار التطرف، بدل أن يخرجوا إلى فراغ وشتات ربما يكون الحل معه العودة إلى ما كان. إن التيارات الفقهية والدينية التقليدية معنية بهذه المهمة، وبما أن بعضهم ما زال يحذر من قتل الأجنبي فقط لأنه ذمّي ومعاهد، ( توقف مؤقت ومشروط ) لا لأن القتل أصلا جريمة وأداة وحشية، وتسويق بدائي للتدين، فسيظل الارتباك والشتات الذهني هو أول مصير يواجه العائدين من التطرف[c1]* جريدة ( الوطن ) السعودية[/c]