في ضوء إصلاحات خادم الحرمين الشريفين
للمملكة العربية السعودية ثقلٌ سياسيٌ في المنطقة، يقر به المخالف قبل الموافق، وما يحدث فيها يؤثر بشكلٍ أو بآخر على دول الجوار، وفي المملكة هذه الأيام عرسٌ إصلاحيٌ كبير، ذو مستوياتٍ ومجالاتٍ متعددةٍ، عبّرت عنه قراراتٌ ملكيّةٌ من العيار الثقيل، كان مرتكزها الأكبر في المؤسسات ذات العلاقة بالخطاب الديني مثل وزارة التربية والتعليم وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهيئة كبار العلماء، وكذلك المؤسسات القضائية بشتى أصنافها من المجلس الأعلى للقضاء إلى ديوان المظالم ووزارة العدل وصولاً إلى المحكمة العليا.للشعب السعودي طموحاته المشروعة في التطوير والإصلاح والبناء، وللملك رؤيةٌ فيها جميعاً، فها هنا طموح شعبٍ ورؤية ملكٍ التقيا على قدرٍ إصلاحيٍ وارف ظلاله طيب مسعاه، كانت المحبة المتبادلة تربته، فكانت هذه القرارات ثمرته.مرّ مفهوم الإصلاح في المجتمع السعودي بمراحل كان يعتبر في بعضها مفهوماً مشبوهاً ويتمّ تداوله بحذرٍ لأن البعض استغله استغلالاً سياسياً بعيداً عن الأجندة الوطنية، وما صنعه الملك عبدالله هو أنّه انتشل هذا المفهوم من كل التباساته السابقة ليجعله عنواناً لمرحلته ورمزاً لحقبته.من المهم أن نشير هنا إلى أنّ من أحسن اتخاذ القرار، وأتقن الأفعال لم تعنه الأقوال كثيراً، وليس بحاجةٍ لمديح الكلام من حاز ثناء التاريخ، هكذا هو المليك وهكذا هي قراراته وإنجازاته. إن هذه القرارات الضخمة تعبّر بشكلٍ أكثر جلاءً عن تصوّر الملك للإصلاح، كما تجسّد رؤيته المتكاملة للتطوير، وهي في شقّها المتعلق بالخطاب الديني ومؤسساته تتسق بشكلٍ سلسٍ ومتناغمٍ مع مشاريع الملك السابقة سواءً في الحوار الوطني الذي أطلقه منذ كان ولياً للعهد، أم في حوار الأديان الذي أطلقه قبل ما يقارب السنة، الأوّل كان موجّهاً للتغيير الداخلي والأخير موجّهٌ للخارج، وكلٌ قد آتى ثماره الطيّبة وحان الوقت للتقدّم للأمام، ومن هنا جاءت هذه القرارات التاريخية.لا يمكن لأحدٍ -مهما كان موقفه أو توجهه- أن يشكّك في الرغبة الصادقة للإصلاح لدى الملك، ولكنه إصلاحٌ بطريقته الخاصة، وهي طريقةٌ وئيدةٌ ومتزنةٌ، بعيداً عن مزايدات المزايدين وتحريض المتحمسين، والمؤمّل من هكذا قراراتٍ أن تأخذ طريقها للتنفيذ بمنأى عن البيروقراطية الحكومية المعتادة.لهذه القرارات في الوجوه بشرٌ وفي النفوس حبور، ولها كذلك في العقول تأييدٌ يوازيه طول انتظارٍ وترقّبٍ وأمل. ولقد شعر الجميع بالحرص في هذه القرارات على تمثيل عادلٍ لشرائح المجتمع السعودي، ففي المؤسسات الدينية جاء إدخال المذاهب السنيّة الأربعة المعتبرة من ضمن التكوين الأساس لهيئة كبار العلماء وذلك ما سيفتح مجالاً رحباً لتوسيع دائرة الاجتهاد داخل هذه الهيئة، وما سيمنحها قدراً أكبر في القدرة على مواجهة تحديات العصر وتعقيداته على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وعلى مستوى مؤسسات الدولة ككل، فقد شهدت هذه القرارات تكليف أوّل امرأةٍ في التاريخ السعودي بمنصب نائب وزير، وهو منصبٌ رفيعٌ تستحقه المرأة السعودية بجدارةٍ، نتيجةً لسياساتٍ طويلة المدى في تعليم المرأة وتأهيلها ودعمها، وقد حان الوقت لتأخذ فرصتها وها هي القرارات التاريخية تأتي بها إلى مكانتها المستحقة على طبقٍ من إنصافٍ وعدالةٍ.في هذه القرارات رسائل ملكيّةٌ مهمةٌ بحاجة للقراءة المتأنية، واحدةٌ تجاه الشعب تقول إنّ الإصلاح هو الثابت الأكبر في عهد رجل الإصلاح الأول، والثانية تجاه المسؤولين في الدولة تقول إنّ المنصب رهنٌ بالكفاءة والإنجاز، والثالثة تجاه من يعتقدون التهميش في المجتمع تقول إنّ لكل مجتهدٍ نصيبا، والرابعة تجاه الأسرة السعودية الصغيرة تقول إنّ الإرادة الملكية تسعى لتوفير تعليمٍ راقٍ لأبنائكم وعنايةٍ صحيةٍ فائقة واقتصادٍ متينٍ ومتماسك.مسؤولون جدد في مناصب جديدة، جاء الإعلان عنهم مفاجئاً في شقٍ منه، غير أنّ المراقب يمكنه تلمّس الجهد المبذول في اختيارهم وانتقائهم بناء على كفاءتهم ليكونوا أهلاً للمهام المنوطة بهم، على هؤلاء المسؤولين جميعاً أن يستحضروا على الدوام أن سرعة التنفيذ وإتقان الإنجاز سيكونان الحكم على أدائهم، وسيحملون على أكتافهم ثقل الأمانة وتبعة النتائج، وعليهم أيضاً أن يعلموا أن المطلوب منهم أن يكونوا على حجم المسؤولية الملقاة على كواهلهم وأن يسعوا بجدٍ واجتهادٍ لوضع الخطط التنفيذية الفاعلة والمؤثرة والشاملة، وأنّ تقييمهم من قبل القيادة والشعب سيكون هو الميزان الأهم.ثمة مشاريعٌ كبرى أطلقت في التاريخ العربي الحديث، من العراق إلى مصر إلى غيرها من الدول العربية، ولكنّ هذه المشاريع رغم شعاراتها البرّاقة لم تلبث أن وئدت في مهدها، ولم يكن لها أي أثرٍ على الواقع المعيش، وما ذاك إلا لأنّها شعاراتٌ كانت تلقى دون هاجس التطبيق والتفعيل، أو أنها كانت توسد إلى من لا يرعاها حق رعايتها ولا يمنحها ما تستحقه من التخطيط والدراسة وحسن العناية. ومع الثقة بالاختيار في القرارات الأخيرة، ومع حسن الظن بمن تمّ اختيارهم فإنّ الضابط الأهمّ لحسن الأداء والجودة يكمن في المراقبة والمحاسبة المستمرة ليأخذ كل ذي حقٍ حقه، ويقال للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت.عوداً على بدء، فإن الخطاب الديني ومؤسساته المعبّرة عنه في السعودية شابها في السنوات الأخيرة شيء من النقص والقصور عن مواكبة حاجات الدولة ومتغيرات الواقع، وكانت تصدر منها أو من بعض أعضائها فتاوى لا تتوافق مع التوجّه العام للدولة وسياساتها الداخلية والخارجية، لا إنّ بعض تلك الفتاوى والأحكام كانت تسبب شيئاً من الحرج داخلياً وخارجياً، ثمّ إنّ التحدّيات التي يفرضها الواقع وشروطه الصارمة تحتاج إلى فقهٍ مرنٍ يستطيع أن يتماشى معها، بل ويسبقها في انفتاحه وديناميكيته وتطوّره.إنّ تجديد المؤسسة الدينية وخطابها ليس ترفاً بل هو ضرورة ملحّةٌ، وهو فيما يتعلّق بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاق الضرورة بعدما كثرت التجاوزات من الأفراد المنتسبين لهذه المؤسسة الحكومية، وبعدما كثر المنتحلون لاسمها ودورها، مما أساء للهيئة وشوّه صورتها لدى الناس، والأمل في الرئيس الجديد لها أن يكون قادراً على ضبط الهيئة إدارياً وميدانياً، وأن يكون للهيئة نظامٌ معلنٌ للكافّة يعرفون به ما لهم وما عليهم، مع القيام بإعادة تدريب وتأهيل كوادر الهيئة ليكونوا قادرين على أداء مهامهم دون الاصطدام مع الناس أو التدخّل المجحف في خصوصياتهم، والانطلاق دائماً من حسن الظنّ بالنّاس، وأن الأصل في الناس البراءة كما هو المبدأ الإسلامي الشهير.أخيراً، إنّ السعودية ومعها دول الاعتدال العربي تواجه تحدّياتٍ إقليميةٍ خطرةٍ، وهي جميعاً بحاجةٍ إلى إعادة بناء اللحمة الداخلية بشكلٍ لا يدع مجالاً لأي متربّصٍ، بل على العكس يمنح التكاتف الوطني مداه الأقصى، ويستحث الجهود لتتوحد ضدّ الأعداء الإقليميين الذين بدأ بعضهم بالتكشير عن أنيابه وإصدار التصريح تلو التصريح تهجماً واستخفافاً بالتوازن الإقليمي.* كاتب سعودي