مع الأحداث
عاطف الغمري :لا يزال العرب مكبلين بسلسلة أزمات متصلة حلقاتها ببعضها، حتى إذا انفكت عنهم واحدة, تفجرت فيهم التالية. وبذلك ينشغلون بكل أزمة علي حدة. والمطلوب أن تعمي عيونهم عن رؤية الترابط بين الكل، وأن يغيب عنهم الهدف الأعم لمجموعة الأزمات.هذه الخطة كانت مقررة منذ مجيء الرئيس بوش إلى الحكم في يناير2001، حتى قيل علي لسان عسكريين أمريكيين قبيل غزو العراق عام2003، إن العراق لم يكن مقصودا لذاته، ولكن لما سيأتي بعد حرب العراق, في المنطقة كلها.كانت أوراق العمل التي نشرت متضمنة مبادئ المحافظين الجدد كثيرة ومتنوعة، وأكثرها شمولا للتفاصيل ما سمي برنامج القرن الأمريكي الجديد المعلن عام1997، والذي اعتمدت عليه إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، التي أعلنها البيت الأبيض في20 سبتمبر2002.صحيح أن إسرائيل كانت حتى من قبل وصولهم إلي الحكم, فقد نفذت داخل مؤسسات صناعة السياسة الخارجية, حتي قيل إنها هي التي تضع أجندة سياسة أمريكا في الشرق الأوسط, إلا أن ما فعله المحافظون الجدد, كان انقلابا في السياسة الخارجية, سواء فيما يتعلق بأفكارهم للهيمنة علي العالم, أو بالنسبة لكونهم مرتبطين بتحالف عقائدي وسياسي منظم مع اليمين المتطرف في إسرائيل وبالذات الليكود, ولأن أكثر من90% منهم صهاينة.وبالرغم من أن استطلاعات الرأي التي أجريت عام1998, لقياس حجم الأجنحة المختلفة داخل الحزب الجمهوري, وجدت أن المحافظين الجدد يمثلون20% فقط داخل الحزب, أي الأقلية, إلا أن دخول بوش البيت الأبيض, قد فتح الباب الذهبي أمامهم, حيث نصبهم في الغالبية العظمي من المناصب الحساسة. دفعه إلي ذلك سببان: الأول أن أفكار بوش في عمومياتها كانت تجد لها تفسيرات عملية في برامج المحافظين الجدد, مثل اقتناعه بأن العالم كثرت فيه قوي الشر, وما لدي المحافظين الجدد من فكر محدد بضرورة قيام الولايات المتحدة بضرب هذه القوي بكل إمكاناتها العسكرية.. وهكذا.السبب الثاني هو اختياره ديك تشيني نائبا له, وهو من أقطاب المحافظين الجدد, وتفويضه سلطات لم تتح لأي نائب للرئيس من قبل, حتى شاع وصف لتشيني بأنه رئيس الوزراء في حكومة بوش, بينما لا يوجد في الولايات المتحدة بحكم الدستور منصب رئيس وزراء.وبالنظر إلي الصورة العامة لأهداف المحافظين الجدد في المنطقة منذ دخولهم البيت الأبيض, ظهر أن حرب العراق لم تكن مدفوعة بأسباب طارئة, بل كانت خطة موضوعة عام1992 ومعروفة بعنوان دليل التخطيط الدفاعي, وقبيل البدء فيها عام2003 حدد عسكريون في البنتاجون أن الخطة بعد غزو العراق تتضمن ضربات عسكرية ضد ست دول هي: إيران, ولبنان, وسوريا, والسودان, والصومال, وليبيا. حتى تشتعل سلسلة مجموعة الأزمات واحدة وراء أخري, فضلا عما اتخذ بعد ذلك من تعديلات تكتيكية أجلت هذه الضربات العسكرية واستبدلت بسياسات الضغوط النفسية, والاقتصادية, والسياسية علي حكومات بالمنطقة.وفي قلب الفوضى الإقليمية التي كان متوقعا أن تحدثها هذه الخطة, يتم تنفيذ ما وصفه عسكريون أمريكيون معارضون للحرب, بإعادة رسم خريطة الأوضاع الإقليمية, حتى توضع إسرائيل في مركزها, سياسيا واقتصاديا, وأمنيا, وتصفية القضية الفلسطينية.والواضح أن إشعال المنطقة بسلسلة متصلة ومتوالية من الأزمات, كان مقصودا به شغل شعوب المنطقة عن الهدف الأكبر للمحافظين الجدد, وإلهاؤهم عنه, بجذب الانتباه ناحية أزمة واحدة, تعمي النظر عن الهدف الكلي... إن من المفترض أن تتغير أوراق كثيرة بعد رحيل بوش والمحافظين الجدد, فهم كتيبة عقائدية في المقام الأول, وارتباطهم بإسرائيل أكبر منه ارتباط سياسات أو مصالح, لكن النظرة إلي الصورة من هذه الزاوية وحدها, يدخل بنا إلي مأزق النظرة الجزئية, فلا ننتبه للخريطة الكلية للأزمات الموصولة ببعضها. وهذه بعض معالمها المتبقية:(1) مازال في حساب استمرارية سياسة أمريكا الخارجية في المنطقة مصلحتان إستراتيجيتان, تحسبان بمعايير المصالح الحيوية ذات الأهمية الإستراتيجية الفائقة, وهما: البترول, وإسرائيل. وهما قضيتان محوريتان للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.(2) ما أعلن مرارا من أن الشرق الأوسط سيكون محل اهتمام السياسات العالمية لعشرات السنين المقبلة, بمعني أن المنطقة ستكون دائرة صراع عالمي.(3) تصاعد التنافس علي مصالح إستراتيجية حيوية يمثلها البترول, الذي تضاعف مرات عديدة طلب الصين عليه, من أجل عملية النمو الاقتصادي التي تقفز بمعدلات عالية غير مألوفة. وتؤهل الصين لتكون قوة عالمية تعادل قوة الولايات المتحدة, خلال فترة زمنية قصيرة.إن النظرة إلي حلقات سلسلة الأزمات التي توالت من بعد العراق, لتجر إليها أطرافا أخري في فلسطين, ولبنان, وإيران, والصومال, والسودان وأحدثت إنهاكا نفسيا واجتماعيا لبقية دول المنطقة, يتكشف الترابط بينها, بالعودة إلي نقطة الأصل.. في خطة إعادة رسم خريطة الأوضاع الإقليمية من جديد, بوضع إسرائيل في مركزها.وربما يكون ما أبطل مفعول الخطة بالصورة التي كانت مقررة, هو الفشل العسكري في العراق, وصمود الشعب الفلسطيني, وقوة إرادة الشعوب العربية في مواجهة محاولات اغتصاب إرادتها القومية, لكن الصراع لايزال له بقية، فخريطة إشعال الأزمات ليست ساكنة, ولم تهدأ بعد.[c1]* عن / صحيفة ) الأهرام )المصرية [/c]