عدن في شعر محمد عبده غانم
بعد قصيدة ( في الستين ) التي كتبها والدي رحمه الله في عدن في يناير 1972م تبقى قصيدتان في القسم الأول من ديوان ( في موكب الحياة ) وهو القسم المعنون ( ألحان الأصيل ) وهاتان القصيدتان كتبتا في لندن حيث ذهب والدي للعلاج من ورم في المثانة أصابه قبل بلوغ الستين بأيام أو أسابيع .القصيدة الأولى بعنوان ( عبثاً ) وكتبها في لندن في أكتوبر 1972م من وحي تطوافه ببعض شوارع لندن التي كان يرتادها في عامي 1948 و 1949 أثناء تحضير الدبلوم العالي للتربية في جامعتها العريقة ، يقول في مطلع القصيدة : [c1]عبثا أفتش عن شبابي في الأزقة والزوايـــــا أو في الحوانيت الندية بالكؤوس وبالصبايا [/c]إلى أن يقول في آخر القصيدة : [c1]عبثا أفتش في الأزقة والزوايا عن صبايا ولى الشباب ولم يدع من كأسه الا شظايا [/c]هذا مع العلم أن غانماً لم يقرب ابنة النعقود والبيتان الأولان اختارهما د. غازي القصيبي في كتابه في خيمة شاعر .أما القصيدة الثانيةى بعنوان ( بلاوكر ) بتاريخ يناير 1973م فهي من أشهر قصائد غانم وكانت مجلة العربي قد نشرتها في تلك الفترة فسارع بعض أبناء عدن إلى وضعها في إطار وتعليقها في بيوتهم لأنها كانت تعبر عن معاناتهم من النظام الشمولي القمعي ، والشاعر يوجه القصيدة ويهديها : إلى الحبيبة النائية في اليمن من الغريب المقيم في لندن .. لم يقل النائية في عدن أو في اليمن الجنوبي بل قال في اليمن وأنا أجد في ذلك دلالة لنزعة وحدوية شديدة في ذلك الوقت قبل قيام الوحدة بأكثر من 17 سنة والقصيدة طويلة في 43 بيتا تكاد تكون نواحاً شعرياً ينفذ إلى أعماق المستمع فغانم كان يعاني ليس من المرض وابتعاده عن الحبيبة النائية في اليمن ( أي الزوجة ) فحسب ولكنه أيضاً كان يعاني من الشعور بالتشرد في ذلك العمر المتقدم إذ كان قد قرر الا يعود إلى عدن وكان رجلا قد بلغ مكانة اجتماعية وعلمية متميزة فإذا بكل ذلك ينهار أمام عينيه في لحظة : [c1]ياليل لندن في كانون أين تـرى دارى وإلفي وأصحاب وزواري أين العيون التي كانت تغازلني في سفح ( شمسان ) بل توحي بأشعاري أين الشفاه التي كانت تشاطرني في شط ( حقات ) أقداحي وأسمارى وأين أين حديث الموج ينقله من حول ( صيرة ) تيار لتيار [/c]ثم يقول : [c1]ماذا جرى لحليف الدار يهجرها حتى غدا اليوم دياراً بلا دار يهيم كالفلك تجري دونما هدف في اليم لادفة فيها ولا صاري للطير في الليل أوكار تعود لها فأين ياليل في دنياك أو كاري تساقطت أم ذرتها الريح أم عبثت فيها الصقور بمنقار وأظفار قوادمي والخوافي كلها تعبت من رحلتي فهي أنضاء لأسفار أنا المهيض بلا وكر أنال به دفئا فيرتد ثأوى بعد إقصاري ألملم الريش من حولى ليدفئني وأين للريش جمع بعد إعصار [/c]ولا يمكن أن يفوت قارئ الشعر المتذوق جمال هذه الأبيات وهذه القصيدة التي شبه فيها الشاعر نفسه بطائر تتقاذفه الأعاصير وجعل من الوكر معادلا موضوعياً للوطن والسكن الذي استحوذ عليه بعد ذلك ضعاف نفوس استأمنهم عليه بحكم الأواصر التي لم تراع .في غرفة الفندق في بيروت في مطلع 1973م التي قعدت فيها أقراً مسودة الديوان بجانب والدي أوجعتني تلك القصيدة ربما أكثر من أي شيء آخر في الديوان فقلت لوالدي إنك تندب ذكريات شمسان وحقات وصيرة كانك لن تراها قريباً ، قال ( بالفعل فقد قررت عدم العودة ) فصدمت وقلت له ( ولكن لماذا ؟) قال : ( لأنك هاجرت وقبلك كل أخوتك هاجروا فلماذا أعود إلى هناك ثم انني في حاجة إلى مراجعة الجراح كل ستة أشهر للعلاج ، ولرؤية أولادي ، والحكم في عدن لا يعطى فيزا الخروج بسهولة ) وهكذا أفرغ النظام الشمولي الوطن من الكفاءات بوسائله الخانقة للحريات .. ولو كان السفر متيسراً لما كان اضطر لمغادرة الوطن ، واذكر أنني كنت في مكتب البروفسور السوداني عبدالله الطيب في جامعة الخرطوم وكان يومها يعمل على تأسيس جامعة ( جوبا ) التي عين رئيساً لها .. وكنا نناقش هذه القصيدة فتوقف رحمه الله وهو يبتسم بمراره عند البيت الذي يقول : تساقطت أم ذرتها الريح .. وهو يقلد بيده شكل المخلب والإظفار للصقور التي عبثت ليس بعدن وجنوب اليمن فحسب بل بمختلف الأقطار العربية كما المح . في الجزء الثاني من الديوان وعنوانه أهازيج بركان يركز الشاعر القصائد التأملية والاجتماعية وقضية فلسطين ومذابح على أيلول الأسود وموضوع القات وعدة قصائد وصفية لصنعاء و ( نقيل سمارة ) و ( وجبلة ) وقصيدة طويلة تصف جبل صيرة عندما جللت قلعتها بالمصابيح في عام 1970م وعنوانها ( من وحي صيرة ) ومطلعها : [c1]جللوها بالمصابيح اللآلي فجلوا في الصخر اسرار الجمال يا عروس الشط في موكبها صفق الموج وغنى في اختيال وسرى الملاح في زورقه خافق المجداف في النور الزلال هذه البهجة في أعيادنا نشوة النصر علــى الشر المزال [/c]ثم يستعرض الشاعر صفحات من التاريخ يمر فيها على ذي نواس وذي يزن وهما يحاربان الغزو الحبشي وعامر عبدالوهاب وهو يتحدى البرتغاليين ويأتي على مؤامرة الكابتن هينس وقصة ( داريا دولة ) التي يسميها الشاعر ( بالقصة البلهاء ) التي استعملها الاستعمار عذراً واهياً لاحتلال عدن ( وقد راينا منذ أربع سنوات كيف أحتل العراق بعذر أسلحة الدمار الشامل ، فما أشبه الليلة بالبارحة ) . وهناك قصيدة بعنوان ( في سبيل الوحدة اليمنية ) كتبها إثر المعارك بين الشمال والجنوب عام 1972م يقول فيها : ما لحج ما صنعاء ما عدن وما عتق ودوعن في ظلال الوادي الا بلاد للتلاحم بينها عهد من الآباء والأجداد كيف التمزق والأواصر جمة .. كيف التفرق والجميع بلادي وفي قصيدة أخرى بعنوان ( بلادي ) يقول في المطلع : [c1]دياري دياري ديار اليمن ومن سفح صنعاء حتى عدن [/c]كما يتغنى بالوحدة العربية في قصيدة ( في سبيل الوحدة العربية ) عندما تعلن مصر وسوريا وليبيا مشروع وحدة سرعان ماتبخر أما في قصيدته القلق العظيم .. التي كانت من وحي كارثه إحراق المسجد الأقصى فيقول في آخرها بمراره وهو يتذكراً أيضاً النكسة : [c1]باليت كاستعدادهم كنا نعد بلا هراء وبلا ضجيج كلما همنا به كشف الغطاء فتقول نسحقهم فنسحق عبرة للأغبياء ولو اشتهوا ملكوا البقية دون جهد أوعناء ياليتهم فعلوا فنحمل همهم فينا سواء ونعيش في القلق العظيم ولا نعيش على الرجاء [/c]وجلد الذات في هذه القصيدة قد نجد له عذراً في مآسي النكسة وحرق الأقصى والشاعر في قصيدة ( عودة البطلين ) المؤرخة عام 1970م في لندن يتغنى بالفدائيين وتضحية البطلين اليمنيين اللذين استشهدا في فلسطين : وغدت ظفار بهم مرحبة بعد الهوان الجاثم المرسي .. وفي قصيدة ( حامل القفاز ) يتغنى الشاعر برواد الفضاء الثلاثة في يوليو 1971م بصرف النظر عن جنسيتهم : في سبيل المجد للإنسان ما يطمح الإنسان فيه من عطايا أما في قصيدة ( إلى أين ؟ ) فنجد نموذجاً لشعر غانم حول الموت والمصير المحتوم وهو الموضوع الذي يعالجه في كثير من القصائد في ودواوينه اللاحقة ، وقد ترجمت هذه القصيدة وقصيدة غانم عن القات إلى الانكليزية في كتابي قصائد من أرض سبأ ، وكثير من قصائد غانم في هذا الديوان نشرتها مجلة العربي الواسعة الانتشار مما جعل جيلاً جديداً في أوائل السبعينات يعرف غانماً بعد أن كان قد عرفه أبناء اليمن منذ أو أخر الثلاثينيات وعرفه المثقفون العرب أيضاً من خلال مجلات الرسالة والأديب والآداب ومن خلال دواوينه المطبوعة في القاهرة وبيروت ، ومن تلك القصائد التي ظهرت في العربي ( صنعاء ) و ( بلا وكر ) و ( على نقيل سمارة ) و ( في الستين ) و ( يافجر ) وهي القصيدة التي منعت حكومة عدن توزيع المجلة بسببها لفترة لأنها خشيت أن تكون المقصودة سياسياً في القصيدة وقد أفرجت عنها بعد أن بعثت أحد عيونها إلى ( المقيل ) في منزل والدي الذي كان يجتمع فيه الأساتذة والشعراء أمثال عبدالله فاضل فارع ومحمد سعيد جرادة رحمه الله وعبده صوفي رحمه الله وسأل هذا الشخص الذي تطفل على المجلس بحجة حب الأدب من يقصد بالقصيدة فأجابه والدي – لحسن الحظ – أنه لم يكن يعني جهة محددة بل الأمة العربية بشكل عام ، ومنها : [c1]متى يا فجر يجلو عن حمانا ظلام بات ممدود الرواق فكم سالت لحبك من نفوس كرام لا تهون على الرفاق وكم ولى لأجلك من شباب بشاشته على قدم وساق وكم طفل رأى فينا أباه يساق إلى الردى شر المساق وكم زوج عدت من غير بعل فليس لها من الأحداث واق [/c]وفي هذا القسم من الديوان ثلاث قصائد ذات طابع روحي إسلامي الأولى ذات لغة صوفية بعنوان ( طواف الوقوف ) والثانية بعنوان ( من وحي الإسراء ) والثالثة عن الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام بعنوان ( هجرة الراعي ) وهي من وحي الهجرة ولكنها تتكلم عن جانب من السيرة النبوية الشريفة منذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرعى الأغنام :[c1]يرعى القطيع بأسفل الوادي وهو الملح الرائح الغادي [/c]وكانت الإشادة بالإسلام ورسوله العظيم مما لايروق للحكم الشمولي ولكن العجيب أن عالم الدين الشهيد علي باحميش رحمه الله تناول القصيدة في أحد خطبه بنقد لأنه رأى في وصف الراعي شيئاً من التقليل ، ولا أدري لماذا ، ألم يقل فيلسوف وشاعر الإسلام الشهير محمد إقبال : [c1]بالله كيف رعي الشعوب وساساها من كان يرعي الشاة والأغناما[/c]وهي القصيدة الشهيرة التي تغنت بها أم كلثوم وكان قد ترجمها من الأردية نثراً إلى العربية عالم يدعي الأعظمي ثم ترجمها عن تلك الترجمة إلى النظم بالعربية الصاوي شعلان . الأعظمي هذا زار منزلنا في أحدى الأمسيات في عدن في أواخر الستينيات وانتظر والدي طويلاً وكان والدي خارج المنزل – ولعله كان يسجل حلقة في الإذاعة والتلفزيون – ولم تكن في تلك الأيام نعمة ( أو نقمة ) الموبايل قد اكتشفت وتفشت فلم نستطع الاتصال به وتجاذبت مع ذلك الرجل العلامة أطراف الحديث لمدة قرابة الساعتين وعلمت منه أنه من ترجم القصيدة وقدمها للصاوي شعلان . قدم لي الاعظمي بطاقته ووجدت أنه يترأس أويدير نحو ثماني جمعيات ومؤسسات علمية ومع ذلك فقد كان ملبسه بسيطا وقديماً وحذاؤه مرقعاً وهو ضخم الجثة وتحدثنا عن الكتب والمكتبات في عدن ورأى مكتبتنا المحدودة وذكرت له أن الأستاذ عبدالله فاضل فارع يمتلك مكتبة كبيرة فأخبرني أنه أطلع عليها ولايعتبرها كبيرة إطلاقاً وعرفت أنه يمتلك مكتبة تحوي من الكتب أضعافها ، وهكذا شأن عشاق الكتب يصرفون بسخاء على اقتنائها ويكتفون بحذاء مرقع . الجزء الاخير من الديوان بعنوان ( دمعة وفاء ) وهو خاص بالمراثي وفيه سبع مراث يبكي فيها والدي الشاعر عبدالمجيد الأضج ، وشباب قتلوا أثناء الثورة على الاستعمار بعد 1963م منهم هشام زوقري وماهر خليفة وعادل والحبيشي ، وقصيدة يرثي فيها صديقه ووالد زوجته رجل التنوير المحامي محمد علي لقمان : [c1]مازلت أذكر منبر الإصلاح والأهواء حشد تستصرخ الأقوام ماذا للكريهة قد أعدوا والناس بين مسالم بالصمت لاذ فلايرد وممالئ يرجو ويخشى من له حل وعقد وقفوا مع المستعمر الباغي كأن البغي رشد ووقفت ما باليت كالطود الأشم وأنت فرد .. [/c]وقصيدة يرثي بها خاله حيدر عبدالله حمزة رحمه الله ونحن نعرف أن غانماً فقد والدته وهو طفل في الرابعة فكانت زوجة خاله ( سلمى ) التي كانت بدون أولاد نعم الأم له بل وكان يدعوها ( ماما سلمى ) وكانت جدة حنونة علينا رحمها الله وهناك مرثية طويلة للزعيم الخالد جمال عبدالناصر رحمه الله : [c1]هذا الذي لو شئت قست به ألفا لكان بقدره يربي أوقست مليونـــا لما بلغــوا من شأوه حتى إلى الكعب [/c]إن الشاعر هنا يتحدث عن المتخاذلين وعن الغثاء ، وهناك قصيدة طويلة بلغت نحو 70 بيتاً يرثي بها صديقه وتلميذة – وأستاذي – الشاعر لطفي جعفر أمان رحمه الله وقد نسج القصيدة على وزن وقافية بائيه أبي تمام في عمورية . ( وعندما رثي غانم الشاعر علي محمد لقمان أيضاً أطال في مرثيته ) يقول غانم عن لطفي : [c1]هناك في كل ديوان له عجب من فنه المشمخر الراسخ الطنب ياحسنه في ( بقايا ) كلها نغم ثرلنا " بالمنى معسوله الحلب " مازال ( في الدرب ) منه موكب خطرت ( أيامه ) فيه للرائين عن كثب [/c]ويستعرض كل دواوين الشاعر وكان غانم هو الذي كتب مقدمة ديوان ( بقايا نغم ) ولطفي قد أشاد بغانم في كثير من قصائده ويقول في قصيدته ( صدى الشاطئ ) التي أهداها لغانم بمناسبة صدور ديوانه الأول ( على الشاطئ المسحور ) : [c1]ياشاعر كلما رنت قياثـره حسبت أن مآسي الكون لم تكن هفت من الشاطئ المسحور راقصة نشوى تعربد في قطبي وفي أذني [/c]أما القصيدة الأخيرة في الديوان فمرثية لصديقه الشاعر والمسرحي الكبير علي أحمد باكثير الذي كان صديقا لغانم في الثلاثينيات في عدن ثم هاجر إلى مصر ولم يزر عدن الا مرة واحدة في آخر الستينيات وزاره والدي في القاهرة بعد ذلك قبل وفاته بشهور قليلة : [c1]لم يمض منذ رأيته الا اليسير من الشهور في داره في ضفة النيل المصفق بالنمير وهو الكثير فليس ينسى الود للماضي الأثير أيام تجمعنا به عدن على الأمل المنير أيام كان يزورنا في حلقة النادي النضير فيهز آفاق الندي بشعره العذب المثير [/c]وكان رئيس نادي الإصلاح بالتواهي هو السيد عبده غانم الهاشمي الحسني والد د. محمد عبده غانم ومدير نادي الإصلاح بعدن هو المحامي محمد علي لقمان والد زوجة محمد عبده غانم ، ولاشك أن أحد أسباب أصهار غانم إلى لقمان هو ما كان يجمعهما من حب العلم والإصلاح مما أدى إلى التعارف الأسري فالزواج . ويقول غانم في قصيدته في رثاء باكثير : للحضرمي مع النبوغ مواقف الشرف الشهير وكأنه هنا يشير إلى بيت الباكثير الذي يفخر فيه بقومه قائلاً :[c1]ولو ثقفت يوماً حضرميـاً لجـاءك آيـة في النابغـينـا [/c]ويستعرض غانم عناوين مؤلفات ومسرحيات باكثير وما فيها من إبداع كما فعل مع لطفي أمان ، رحمهم الله جميعاً .