رائدة الشعر الحر
نجوى عبد القادرودعت الأوساط الثقافية والأدبية في العالم العربي الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي انتقلت إلى رحمة الله عن عمر ناهز الخامسة والثمانين.وهي الشاعرة التي غيرت خريطة الشعر العربي،عندما نشرت قصيدتها(الكوليرا)في ديسمبر عام 1947م..وفي إحدى الصحف العربية وذلك إثر تفشى وباء الكوليرا في مصر وموت الآلاف من الناس جراء هذا الوباء.لم تكن قصيدة الكوليرا هي أول محاولات الشاعرة،فقد نشرت العديد من القصائد بالشكل التقليدي “القصيدة العمودية” كما أصدرت ديوانها الأول “عاشقة الليل” بنظام القصيدة العمودية جاءت قصيدة الكوليرا في ديوانها الثاني “شظايا ورماد” ضمن مجموعة من القصائد كان بينها إحدى عشرة قصيدة بنظام التفعيلة “الشعر الحر” أصدر هذا الديوان عام 1949م.ولكن!ما الذي أحدثته هذه القصيدة من تغيير في مسار الشعر العربي؟وماهي الضجة التي أثارها النقاد والشعراء؟ إثر نشرها هذه القصيدة التي تجرأت فيها الشاعرة نازك الملائكة على عمود الشعر وأقدمت على نشرها بخطى واثقة غير عابئة بما ستحدثه من سخط وغضب وبما ستتعرض له،هذه الشاعرة المتمكنة من موسيقى الشعر العربي من هجوم نقدي،بل ما ستتعرض له من السب والشتائم والأذى.وقد تعرضت الشاعرة نازك الملائكة لهجوم نقدي من المئات من محبي الشعر العربي في العراق وفي الوطن العربي وذلك لأنها كانت هي أول من وصف هذه التجربة وأعلنت عنها بكثير من الثقة والحيوية والإصرار..وهي المرأة التي تجرأت أن تضاهي التراث المقدس للشعر العربي،الذي كان حقاً مقصوراً على الرجال لوقت طويل،وأدخلت فيه- ما كان يعد حينذاك- فوضى خطيرة.كان وباء الكوليرا قد تفشى في مصر،وحملت مئات وآلاف الموتى إلى المقابر..ولم تستطع هذه الشاعرة أن تعبر عن ألمها لهذه الكارثة،بالشعر العمودي التقليدي،فكتبت هذه القصيدة بالشعر الحر أو شعر التفعيلة لأن فيه مجالاً واسعاً للتعبير عما في نفسها من ألم وقلق وحزن.ولم تكن تجربة نازك الملائكة لكتابة الشعر الحر هروباً من الوزن والقافية أو عجزاً عن التعبير،بل لأن الشعر الحر يعني بالمضمون أكثر من عنايته بالشكل -الوزن والقافية-،ويجعل الشاعر أكثر قدرة على مسايرة الواقع والتعبير عن أفكاره العصرية بالقدره الذي تسمح له المعاني والصور للانطلاق والاسترسال أكثر من الشعر التقليدي الذي يركز فيه الشاعر على اللغة واللفظ أكثر من المعنى أو الصورة الشعرية..كان ديوانها الأول “عاشقة الليل” يضم عدداً من القصائد التي لم تنظمها بالشعر الحر،وإنما ضم القصائد التي نشرتها بالشعر العمودي التقليدي وكانت معظم القصائد في ديوانها الأول هذا تفسر ارتباط شعرها من حيث مضمونه،بالشعر الرومانسي الوجداني الذي كان يسود الوطن العربي في تلك المرحلة وتعود أول قصيدة فيه إلى عام1944م..وإذا كانت الشاعرة نازك الملائكة من مواليد 1923م فهذا يعني أنها قد بدأت تنظم الشعر في سن مبكرة وهي تنتمي إلى أسرة عريقة في اتجاهاتها الأدبية واللغوية كما أن كثيراً من أفرادها عرف بحفظ الشعر ونظمه وروايته..وهذا يجعلنا لا نستغرب عندما بدأت نازك نظم الشعر في سن مبكرة ثم نشره في مجتمع العراق الذي يعتبر آنذاك معزولاً ومتخلفاً..ولم تكن بداية نشرها للشعر محاولة ركيكة أو غير مكتملة ولكن شعرها منذ بداية صدوره يشير إلى شاعرة كان قد أكتمل وعيها وإدراكها بمفهوم الشعر وأدواته وأساليبه.وإذا كانت ملامح الشعر الرومانسي واضحة في شعرها مع انقياد هذا الشعر للمفهومات الكلاسيكية في الشعر العربي “الشكل”..فهي “عاشقة الليل” تلك الفتاة الشرقية التي تبحث عن أحلامها وآمالها وهي تعاني مأساة “الفراغ” “الشباب الضائع” “الحب” “الشعور بالوحدة والكآبة والسأم والقلق” “الرغبة الملحة بالرحيل عبر البحر “القيود التي تعرقل انطلاق الروح الشابة نحو الحرية وتحقيق الحلم” “الواقع المتخلف الذي يخنق أنفاسها ويفرض عليها العيش في الظلام أو حبيسة الجدران” وهكذا جاءت قصائد الديوان لتوضح العلاقة السيئة بينها وبين مجتمعها أو العلاقة المتخلفة بين المرأة والمجتمع فهي لا تعبر عن نفسها ولكن عن عالم النساء الشرقيات في مثل هذا المجتمع المتخلف:-[c1]هنالك،في الأمس البعيد وليله سأدفن تمثالي وحبي وأدمعيأشيد قبراً من تمرد خافقيوأسقيه من بغضي له وترفعيأغنيه ألحان احتقاري وثورتيوتهزأ أضواء النجوم به معيوأزرع الشوك والسم واللظى وأتركه شلوا،كقلبي المروع[/c]هكذا كانت نازك الملائكة في عاشقة الليل،شاعرة ثائرة،ساخطة غاضبة كما جاءت عناوين قصائدها- وادي العبيد- المقبرة الغريقة- الغروب- على وقع المطر- الخيط المشدود في شجرة السرو- إلى المعبد- جزيرة الوحي-ثم قصيدتها(مدينة الحب)وهي في جميع قصائدها تنهزم في صراعها المرير مع الواقع والآمال الخائبة والكبت والخيبة.وهي قد هربت من هذا الواقع تارة إلى المعبد وتارة إلى جزيرة الوحي ثم البحث عن مدينة الحب التي تصورتها واحة وسط الصحراء ولكن مياهها سامة ورمالها تدفن كل من يحاول العيش فيها..كان أثر الشعر الإنجليزي بارزاً في شعر نازك الملائكة خاصة النظرة التشاؤمية التي بدت واضحة في كثير من أشعارها،فهي التي درست الأدب الانجليزي وأكبت على قراءة الشعر الانجليزي سواء الكلاسيكي أو الرومانسي.وترجمت قصيدة الشاعر الانجليزي المتشائم “توماس غراي” “مرثية في مقبرة ريفيه” كما ترجمت عدداً من قصائد الشعراء الانجليز كانت النظرة التشاؤمية إلى الحياة تتجلى في قصائد ديوانها الأول وتستمر بهذه النظرة التشاؤمية إلى ديوانها الثاني “شظايا ورماد” ولا تزال الكآبة والحزن والقلق والخوف من المجهول أو ما تخبئه الأقدار،وإن كانت الشاعرة نازك الملائكة قد تفوقت في تصوير كل تلك المشاعر وأبدعت في تصوير نظرتها القاتمة السوداوية للكون والحياة وهي تصف قسوة الأيام- وقسوة الموت- وقسوة المجتمع وهي دائمة الإحساس بالحزن واليأس والملل ورفض الواقع وهي دائمة التعبير عن كل معاني الغضب والكره والاحتجاج والثورة والصراع النفسي.في عام 1962 أصدرت نازك الملائكة كتابها الشهير “قضايا الشعر المعاصر” وهو الكتاب الذي أُعيد طبعه لسنوات عدة،فقد أعتمد هذا الكتاب كمرجع هام لدراسة الشعر الحر..حيث وضعت أسس وقواعد الشعر الحر،ذلك الكتاب الذي اعتمدته كثير من الجامعات العربية كأهم مرجع لدراسة الشعر العربي المعاصر كما أعتمد عليه النقاد والباحثون والدارسون في قضايا الشعر الحديث:الشعر المرسل أو الشعر النثري أو شعر التفعيلة.كما استمرت الشاعرة نازك الملائكة في خوض تجربتها الشعرية وديوانها الرابع الرائدة بإصدار ديوانها الثالث “قرارة الموجة” و”يغير ألوانه البحر”.. وللشاعرة دورها الريادي في نشر مقالات النقدية وإقامة الندوات والمحاضرات الأدبية واللغوية وإسهامها في مجال الدراسة والبحث الجامعي..فهي أستادة “الأدب المقارن” في كل من جامعتي بغداد والكويت وأستاذة “موسيقى الشعر”أو “علم العروض” وقد أشرفت على العديد من الدراسات الأكاديمية العليا في كل من علوم اللغة العربية والأدب العربي..ولا ننسى دورها الريادي في الدفاع عن حقوق المرأة في مواجهة التيارات المتزمتة..من خلال محاضراتها في الأندية الثقافية..وها هي نازك الملائكة الشاعرة العراقية التي شرق اسمها وغرب- تموت في مصر وحيدة غريبه بعد أن داهمها المرض في العراق منذ اندلاع الخليج،وهي منذ سنوات كانت تعيش وحيدة منسية يعوزها الدواء ولا تجد من يمد إليها يد العون والمساعدة خاصة بعد الحصار الذي ضرب على العراق لسنوات طويلة،وهي بعد كل هذا العطاء..وكل تلك المعارك الأدبية والنقدية التي واجهتها وهي تحمل راية التجديد والتحديث في الشعر العربي بعد سنوات من الجمود والتقليد. وتدافع عن حقوق المرأة في الحياة والمجتمع وتحرص على تطور مناهج تعليم اللغة العربية لتكسب هذه اللغة قوتها وأهميتها وهي التي عرف عنها حساسيتها المرهفة وتحمسها الكبير لمناصرة القضية العربية ولم يعرف إلا القليلون ولسنوات طويلة عن تبرع نازك الملائكة بمبلغ كبير من راتبها الشهري لنصرة القدس ولصندوق اللاجئين الفلسطينيين..فهل يحظى المبدع في وطننا العربي بعد كل هذا العطاء بمثل هذا الجحود والنكران الذي حظيت به الشاعرة نازك الملائكة- رائدة الشعر الحر- وأستاذة الأدب العربي؟! عرفت نازك الملائكة عند جميع القراء والأدباء والمثقفين تحمسها للقضية العربية وغيرتها من ذلك المغتصب الإسرائيلي وهذه بين أيدينا مقطوعة من قصيدتها ( مستحيلات إسحق رابين ) عندما صرح رابين رئيس وزراء العدو ، أن من المستحيل إنسحاب إسرائيل إلى حدود ماقبل حزيران 67م.[c1]مستحيل مستحيلأن يبيح القمح يارابين حقلهمستحيل أن صفصاف الذرى يجحد اصلهوالروابي والحقول وسهول اللوز والمئذنة الولهى ، وأهداب الأهلة لم تزل مابين أيديكم آهلة صارخات بكم أن لهذا الحقل أهلهواعلموا يازارعي الحقد ،وتجار الضغائن أن شعلة سوف تنمو في دوالي كل تلّه تأكل الطغيان ، تنبيكم بأنّ الجرح ساخنليلة واحدة ثمّ يغطي عصرنا صحوٌ طويلويطل المستحيل[/c]