رسالة دكتوراه: التحولات الفكرية للعولمة (2-3)
[c1]* العولمة ارتبطت بالمشروع الرأسمالي منذ القرن (15) وخضعت في تطورها لقانونيات المسار التاريخي للنظام الرأسمالي[/c][c1]الاستنتاجات العامة للبحث[/c]يمكننا القول بعد أن وصلت هذه الدراسة على نهايتها، إنّ مختلف الطرق والمسالك الوعرة والمتشعبة معاً، التي سلكناها في دراسة إشكالية التحولات الفكرية للعولمة، قد قادت وفقاً لتلك المقدمات النظرية والمناهج المستخدمة التي اعتمدت عليها الدراسة، إلى مجموعة من النتائج المحتملة، والقابلة للنقاش على أية حالٍ؛ لأنّ البحث في العولمة مهما كانت النتائج التي يتوصل إليها الباحث، تظل نتائج مفتوحة على احتمالات شتى، فليس هناك إجابات نهائية حول ظاهرة لا تزال قيد البحث، ولم تستقر على شكل نهائي في أي جانب من جوانبها المختلفة.وتقودنا هذه المناهج المُشار غليها في مقدمة البحث إلى الإجابة عن العديد من الأسئلة التي كانت موضع بحث ومناقشة منذ المراحل الأولى من هذه الدراسة ومنها :هل العولمة ظاهرة قديمة أم جديدة؟ وإذا كانت قديمة، فما هي تلك التحولات الفكرية التي مرّت بها ورسمت مسار تطورها التاريخي؟. هل العولمة هي نتاج الحداثة والتحديث، أم هي نتاج لما بعد الحداثة على نحوٍ خاص؟.لقد جاءت هذه المناهج - كما رأينا في سياقات مختلفة من الدراسة - لتأكيد صواب الإشكالية، التي انطلقنا منها، وهي:إنّ العولمة، وإن كانت قد دخلت في السنوات الأخيرة من القرن العشرين مرحلة جديدة من تطورها؛ إلا أنّها قد جاءت نتيجة لمجموعةٍ من التحولات والتطورات التاريخية التي تبرهن على أنّ العولمة ليست وليدة اللحظة الراهنة، بل هي امتداد لتطور تاريخي طويل مرت به منذ نشأتها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من اكتساح عارم للفضاء العالمي، وقد تبيّن لنا من التحليل، أنّ هناك مَنْ حاول تقديم بعض التقسيمات للمراحل التاريخية التي مرّت بها العولمة، وقد أشرنا بوجه خاص إلى تقسيمات جورون توربون، الذي ذهب إلى القول، بوجود ست موجات تاريخية مرّت بها العولمة، واعتبر أنّ الموجة الأولى من العولمة، تعود إلى حقبة انتشار الأديان العالمية وقيام المدنيات الكبرى العابرة للقارات، ويرجع الموجة الثانية إلى حقب الغزوات الاستعمارية الأوروبية، التي اقترنت مع الاكتشافات الكبرى في أواخر القرن الخامس عشر. وقد تبيّن لنا من التحليل أيضاً، أنّ رونالد روبرتسون الذي رأى أنّ العولمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحداثة والتحديث وكذلك بما بعد الحداثة، ذهب إلى تقديم خمس مراحل تاريخية، شكلت بنظرة الطرق التاريخية المؤقتة إلى الظرف الحالي من العولمة الراهنة، واعتبر أنّ بداية المرحلة الأولى من العولمة، التي أطلق عليهاالمرحلة المبكرة، تعود إلى بواكير القرن الخامس عشرفيأوروبا واستمرت حتى منتصف القرن الثامن عشر.وإذا كانت النتيجة الأولى، التي توصلنا إليها بفضل المناهج المستخدمة في البحث، هي التأكيد على أنّ العولمة هي في الواقع امتداد للمشروع الرأسمالي الغربي، الذي بدأ منذ نهاية القرن الخامس عشر تقريباً، وهذه نقطة جوهرية حاولت هذه الدراسة التحقق منها في سياق دراسة التحولات الفكرية للعولمة؛ فإنّه من الممكن القول :[c1]أولاً :[/c]إنّ مسار البحث في هذه الإشكالية بمختلف جوانبها الفكرية - الفلسفية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية - قد قادنا إلى الاعتقاد بأنّ العولمة قد مرّت بثلاث تحولات فكرية كبرى، شكلت خط مسارها التطوري الذي قاد إلى عصر العولمة، الذي نعيشه اليوم. وهذه المراحل الثلاث تزامنت مع ثلاث تحولات تاريخية كبرى في مسيرة الرأسمالية، هي مرحلة الرأسمالية التجارية، ومرحلة الرأسمالية الصناعية، ومرحلة الرأسمالية ما بعد الصناعية :[c1]المرحلة الأولى :[/c] وهي مرحلة التأسيس الفكري لخطاب العولمة، وتمتد تاريخياً منذ بداية عصر النهضة تقريباً، وحتى نهاية عصر التنوير وقيام الثورة الفرنسية، في نهاية القرن الثامن عشر، حيث تبدأ المرحلة الثانية متزامنة مع الثورة الصناعية وفلسفة الحداثة في أوروبا.في خلال القرون الثلاثة الأولى من عمر الرأسمالية، حيث كانت فيها السيادة للرأسمالية التجارية، التي تبدأ بموجة الاستعمار الأوروبي الأولى واكتشاف العالم الجديد، والاستيلاء على طرق التجارة في كل من آسيا وأفريقيا، واكتشاف الطباعة على الأحرف المتحركة، وبروز ظاهرة الهجرة - الطوعية (الهجرة إلى العالم الجديد) والقسرية ( جلب ذوي البشرة السوداء من أفريقيا للعمل في مناجم ومزارع المستعمر الأوروبي في العالم الجديد) - بدأت مجموعة من التحولات الفكرية والفلسفية التي جاءت مصاحبةً لتلك التحولات الاقتصادية والسياسية والتقنية، التي شهدتها القارة الأوروبية بصورةٍ خاصة، حيث تبلورتالعديد من تلك المفاهيم والمصطلحات التي يجري تداولها على نطاقٍ واسع، في مختلف الأدبيات المعاصرة لخطاب العولمة الراهنة ومنها - تمثيلاً وليس حصراً - مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والتجارة الحرة، ومفهوم الدولة الدستورية الحديثة، والنظام العالمي، وقانون الشعوب، والسلام العالمي، والمواطنة العالمية، وما إلى ذلك من الأفكار والقضايا ذات الأبعاد العالمية، التي تبلورت على أيدي فلاسفة القرنين السابع عشر، والثامن عشر، الذين عبرت فلسفاتهم منذ البداية عن نزع إلى العالمية، والانفصال عما هو محلي، أمثال توماس هوبس وجون لوك، من المدرسة الفلسفية الإنجليزية، ورينيه ديكارت وفلاسفة التنوير اللاحقين من المدرسة الفلسفية الفرنسية، وإيمانويل كانط من المدرسة الفلسفية الألمانية، الذي تمّ التوقف عنده من خلال مشروعه الفلسفي، حول السلام الدائم، والذي شكل دعوة مبكرة إلى عولمة إنسانية قائمة على السلام ونبذ العنف والتأكيد على الحرية الإنسانية لكل مواطني العالم. وهو الأمر الذي تأكد من خلاله أنّ العديد من مفردات مفاهيم ومقولات خطاب العولمة الراهنة قد مثلت في الواقع صيحة التنوير الكبرى وحظيت باهتمام فلاسفة التنوير ومن قبلهم فلاسفة عصر النهضة.[c1]المرحلة الثانية :[/c] من التحولات الفكرية للعولمة - والتي تأتي على خلفية تلك التراكمات المعرفية العامة التي تعود إلى مرحلة التحول السابقة - بدأت مع قيام الثورة الصناعية في أوروبا، نهاية القرن الثامن عشر، حيث تزامنت سياسياً مع الثورة الفرنسية، ومعرفياً مع فلسفة الحداثة التي بدأت بفلسفة هيجل بشكل خاص، واستمرت خلال مرحلة سيادة الرأسمالية الصناعية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وخلال هذه المرحلة تظهر نظريات جديدة في علم الاقتصاد، ويظهر مفكرون ومنظرون اقتصاديون، يتقدمهم آدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد، الذي يبرز منذ البداية الصلة المباشرة بين السوق المحلية والسوق الخارجية، ويدعو إلى ضرورة أن يصبح السوق الخارجية توسيعاً للسوق المحلية، كما أنّ دعوته إلى امتناع الدول عن التدخل في عمليات الإنتاج والتوزيع، وترك آليات السوق لكي تكون هي الضابط لمسيرة الاقتصاد القومي، ما تزال تلقى حضوراً في أوساط الفكر الليبرالي حتى الوقت الراهن. ومع المرحلة الثانية من التحولات الفكرية للعولمة، المرتبطة بمرحلة الحداثة، والرأسمالية الصناعية، ومع حاجة هذه الأخيرة إلى أسواق جديدة لتصريف منتجاتها الفائضة عن حاجة السوق المحلية، ولزيادة أرباحها، ومن أجل تجاوز أزماتها، تبدأ الموجة الاستعمارية الأوروبية الثانية، التي تأتي في جوهرها لتلبية حاجة الرأسمالية إلى الأسواق الجديدة، والتوسع العالمي في عمليات الإنتاج، والتوزيع والاستهلاك، فضلاً عن تأمين المواد الخام، والأيدي العاملة الرخيصتين، لتلبية متطلبات النمو المتسارع للصناعات الجديدة.على أنّ هذه التحولات التي تشكل معالم المرحلة الثانية من التحولات الفكرية للعولمة، لم تكن بمنأى عن مسيرة الفكر الفلسفي للحداثة، الذي شكل جوهر هذه التحولات التي قادت إلى عولمة العصر الراهن.لقد تبيّن لنا أنّ فلسفة الحداثة، قد شكلت محطة أساسية في عملية التحولات الفكرية للعولمة، فكانت العولمة حاضرةً في خطاب الحداثة، وفلسفتها السياسية والاجتماعية بوجه خاص منذ حقب مبكرة، الأمر يجعلنا نذهب إلى القول : إنّ فلسفة الحداثة قد مهدت الأرض لقيام مختلف الأشكال الخطابية السائدة اليوم في ظل العولمة الراهنة، وهذا ما تمّ الكشف عنه من خلال العودة لتلك النماذج الفلسفية التي توقفت أمامها الدراسة، من كانط إلى هابر ماس، مروراً بهيجل، وماركس وهيدجر، وتأكد من خلاله، ذلك الحضور الذي لا يزال يمثله هؤلاء الفلاسفة كل من موقعه في بُنية الخطاب الفكري والفلسفي الراهن بمختلف توجهاته الفكرية والفلسفية.[c1]المرحلة الثالثة :[/c] تبدأ في النصف ا لثاني من القرن العشرين - مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية - وما تزال مستمرة حتى الوقت الراهن، وهذه المرحلة من التحولات الفكرية للعولمة مرتبطة بمجموعة من التحولات السياسية والاقتصادية، والفلسفية التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين،ومن أبرز معالم هذه المرحلة، ظهور فلسفة ما بعد الحداثة، ثورة الاتصالات والمعلوماتية، انهيار الأنظمة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، وتعميم النظام الرأسمالي على النطاق العالمي ليصبح هو نمط الإنتاج السائد عالمياً.[c1]ثانياً :[/c] على ضوء هذه التحولات الفكرية الثلاث الكبرى للعولمة، والتي كانت موضوعاً للبحث والتحليل والدراسة، فقد توصل الباحث في النهاية إلى مجموعة من النتائج العامة للبحث يمكن إجمالها في النقاط التالية :1 - إنّ هذه المراحل الثلاث التي شكلت تاريخ العولمة بتحولاتها الفكرية المختلفة جاءت مرتبطة مع بعضها البعض، بوصفها جزءاً من عملية الصيرورة المستمرة التي تطبع الرأسمالية، والفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، ولهذا السبب فقد كانت العودة لدراسة الظاهرة وفقاً لتحولاتها الفكرية تكتسب أهمية خاصة؛ لأنّه تحليل الظاهرة لا يقوم من خلال معرفة ما تتماثل به الحقب المختلفة في تطورها التاريخي فحسب، بل أيضاً معرفة ما يميز كل حقبة، وما تقدمه من جديدٍ عند كل نقطة تحول تصل إليه، بعبارة أخرى : إنّ التحليل النظري للظاهرة، كان لابد أن يقوم على أساس فهم خصوصية الظاهرة ومنطق عملها، واتجاه حركتها في كل لحظة تحول من تحولاتها الفكرية العامة، مع التأكيد هنا، على أنّ فهم خصوصية الظاهرة يقوم أيضاً على فهم الخصائص المشتركة مع كافة المراحل السابقة التي مرّت بها.2 - إنّ العولمة ظاهرة قديمة، وقد ارتبطت من حيث النشأة والتطور اللاحق بالمشروع الرأسمالي، الذي تعود بداياته إلى أواخر القرن الخامس عشر، وقد خضعت ظاهرة العولمة في تطورها التاريخي لتلك القانونيات التي حددت فعل المسار التاريخي للرأسمالية كنظامٍ اجتماعي تاريخي، ولقد تبيّن لنا أنّ العولمة تجد في فلسفة الحداثة المبكرة - فلسفة النهضة وعصر التنوير الأوروبي - بداية تشكل خطابها المعرفي، بل ان خطاب العولمة الراهن يستند كما بيّنت الدراسة، إلى العديد مما قاله فلاسفة تلك المرحلة المبكرة من التحول إلى الحداثة، وإلى هذه المرحلة أيضاً - كما لاحظنا - من معطيات النص الفلسفي عند كانط، ترجع تلك المطالب الفلسفية لعولمة إنسانية تقوم على مبادئ الحرية ومعايير الأخلاق في التعامل مع الأفراد والدول على حدٍ سواء، وقد لاحظنا، أنّ فلسفة كانط والحداثة المبكرة في مرحلة النهضة والتنوير يمكن أن تشكل أساساً معرفياً مهماً للإجابة على العديد من أسئلة عصرنا الراهن.3 - وفي ضوء دراستنا لإشكالية العولمة في سياق التحول الحداثي للرأسمالية، لاحظنا، أنّ الظاهرة الاستعمارية قد شكلت خاصية ملازم للنظام الرأسمالي، ومثلت في هذا السياق نقطة أساسية في عملية التحولات المختلفة نحو العولمة الرأسمالية بقوة السلاح من خلال الانتشار والتوسع، فإلى المرحلة الأولى من التحولات الفكرية للعولمة ترجع الظاهرة الاستعمارية الأولى، وإلى المرحلة الثانية ترجع موجة الاستعمار الأوروبية الثانية، ومع بداية المرحلة الثالثة من التحولات الفكرية للعولمة لاحت في الأفق نهاية مرحلة العولمة الرأسمالية بقوة السلاح، لكي يحل شكل جديد من الاستعمار، عرف بالتبعية الاقتصادية والسياسة لشعوب المستعمرات السابقة للدول الرأسمالية الكبرى، وهو ما عُرف باسم الاستعمار الجديد، غير أنّه مع عصر العولمة الراهنة عولمة نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد عادةتالقوى الاستعمارية لكي تمارس أسلوبها القديم في الغز والاحتلال وبناء الإمبراطوريات بقوة السلاح، من خلال موجة من الحروب الاستعمارية الجديدة، التي أخذت تُعرف بحروب العولمة.4 - لقد شكلت فلسفة لقد شكّلت فلسفة الحداثة - كما بيّنت الدراسة - من خلال العودة إلى بعض النصوص الفلسفية، عند هيجل وماركس وهيدجر وأخيراً هابرماس، أساساً فلسفياً قامت عليه العديد من مفاهيم الخطاب الراهن للعولمة، والاتجاهات الفلسفية المرتبطة بها، ومن خلال ما قدمته تلك النصوص الفلسفية يتضح ما يلي :أ ) إنّ مقولة نهاية التاريخ التي يجري الاحتفاء بها على نطاق واسع في الخطاب الفلسفي للعولمة وما بعد الحداثة وكأنّها اكتشاف جديد توصلت إليه فلسفة نهاية القرن العشرين، هي في حقيقة الأمر مقولة قديمة ارتبطت بالحداثة وشكلت أحد سماتها المميزة، ومثلت في سياق تطورها نقاطاً جوهرية في إطار التحولات الفكرية للعولمة، فقد اعتقد فلاسفة التنوير أنّ المجتمع التجاري في ظل المراحل المبكرة من التحول الحداثي يمثل أرقى وضع يمكن أن يتطلع إليه إنسان، وأنّ هذه المجتمع ممكن لجميع الشعوب حيثما كانوا، وكان كانط آخر فلاسفة التنوير ورائد فلسفة الحداثة قد قال :إنّ التاريخ سوف تكون له نهاية، أي هدف نهائي، وهو تحقيق الحرية الإنسانية، ومع فلسفة الحداثة وتحديداً مع هيجل، وعلى ضوء مناقشاته لموضوع الحق والمجتمع المدني والدولة، ذهب إلى القول بأنّ المجتمع يبقى عاجزاً عن إقامة العقل والحرية من تلقاء ذاته فيقترح الدولة القوية التي تحقق مثل هذه الغاية، وقد اعتبر هيجل، كما لاحظنا، في سياق الدراسة أنّ تطور الدولة التي وصلت فيه إلى النظام الملكي الدستوري هو إنجاز قام به العالم الحديث، وهو العالم الذي ظفرت فيه الفكرة الجوهرية بصورتها اللامتناهية وتاريخ هذا التعميق الداخلي لروح العالم، وبالتالي فإنّ تاريخ الحرية يصل بنظر هيجل إلى منتهاه بظهور الملكية الحديثة التي حققت مثل هذا الهدف، بعبارة أخرى، الدولة الدستورية تعتبر أعلى مرحلة تحقق الحرية، أنّها نهاية التاريخ العام بحسب فلسفة هيجل.إنّ كل ذلك يعني أنّ دُعاة التسقيف التاريخي من فلاسفة ما بعد الحداثة أو المتحمسين للعولمة بطابعها النيولبيرالي من أمثال فوكو ياما، لم يبتكروا مثل هذه المقولة التي حاولوا من خلالها الهجوم على مجمل التراث الفكري والفلسفي والاجتماعي لمشروع الحداثة، ونعت مفاهيمه ومقولاته بالحكايات الكبرى، كما ذهب إلى ذلك ليوتار، أو القول بنهاية التاريخ، كما هو الحال لدى فوكو ياما.ب ) وإذا كان هيجل قد قدّم الأساس الفلسفي لمقولة نهاية التاريخ التي يجري الاحتفاء بها على نطاقٍ كبيرٍ في الخطاب النيو لبيرالي فإنّ ماركس الذي قال هو الآخر بنهاية معينة للتاريخ، تقوم على تجاوز تلك التناقضات التي تصاحب تطور الرأسمالية والانتقال إلى المجتمع الشيوعي، قد بلور أيضاً رؤية استشرافية عميقة للمسار الذي سوف تصل إليه الرأسمالية في سياق تطورها اللاحق، وهو خلق عالم على صورتها، من خلال تعميم نموذج أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وكأنّ مقولة ماركس حول نهاية التاريخ تقف في وجه دُعاة التسقيف التاريخي، بمضمونها القديم عند هيجل، والجديد عند فوكو ياما - الديمقراطية الليبرالية، واقتصاد السوق - لأنّ مقولة نهاية التاريخ بمضمونها الماركسي، تعني قيام مجتمع خالٍ من تلك التناقضات التي تتسم بها المجتمعات القائمة على صراع الطبقات، في حين أنّ العصر الراهن الذي يحاول فوكو ياما وأمثاله من دُعاة نهاية التاريخ، يقوم على تناقضاتٍ أشد عمقاً وأكثر اتساعاً مما كان عليه الحال في عهد ماركس، ونعتقد أنّه برغم سقوط الأنظمة الاشتراكية على ذلك النحو الذي جرى في نهاية القرن العشرين، إلا أنّ ذلك، لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أنّ حلم البشرية بمجتمع إنساني قائم على تلك الأسس التي حلم بها ماركس وغيره من الفلاسفة المفكرين قد تحطم، ودفن كلياً تحت ركام جدار برلين، فمن تحت هذا الركام، سوف تظهر، بلا شك، أفكار ومشاريع اجتماعية جديدة لمستقبل أفضل للبشرية التي غدت موحدة بتقنيات ثورة الاتصال والمعلومات، ومصالح الاقتصاد، وتشريعات القانون الدولي، وكل ذلك يشكل في - اعتقادنا - الرهان الأساسي للفكر الفلسفي والاجتماعي للقرن الحادي والعشرين، ولعلنا نجد في هابرماس، وفلاسفة آخرين غيره من الفلاسفة المدافعين عن مشروع الحداثة، فضلاً عما يقدمه كثيرٌ من فلاسفة ما بعد الحداثة، مثالاً حياً لهذه الرهانات الفلسفية جديدة، التي يقدمها الفكر الفلسفي لمواجهة تحديات العولمة مع مطلع الألفية الجديدة.