صفحات من تاريخ الاجتماعي
لسنا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ عدن ثغر اليمن المحروس مازال في حاجة ماسة إلى من يكشف النقاب عن كثير من قضاياه المختلفة المتصلة بتاريخه, ومن أهم تلك القضايا التاريخ الاجتماعي المتمثل بحياة الناس , وعاداتهم ، وتقاليدهم ، وأعرافهم في مختلف المناسبات التي لم يسلط عليها المؤرخون الأضواء من قريب أو بعيد . التاريخ و العامة من الناسوالحقيقة أن التاريخ المتوافر لدينا عن ثغر عدن أنصب كله على الحكام ، والأمراء ، والملوك , والسلاطين وإظهار دورهم على المسرح السياسي اليمني واخفى دور العامة واهمل دورهم في الحياة السياسية .الحكايات الشعبية و أما ما يخص تاريخ الحياة الاجتماعية لعدن وأهلها فهو لا يكاد يبين على صفحات كتب المؤرخين القدامى , وإن برز فإنه يظهر على شكل وميض خاطف في سياق الحديث عن تاريخ حكام عدن . والحقيقة أن تاريخ عدن الاجتماعي ينبع من الحكايات أو السير الشعبية التي نسجها رواة مجهولون أو بعبارة أدق كانت حكاياتهم وسيرهم الشعبية نبض الحياة الاجتماعية لأهل عدن . والحقيقة قد يظن الكثير من الناس أن الحكايات والسير الشعبية تعد ضربا من ضروب العبث أو خبطة عشوائية . وفي الواقع أن أساسها الأحداث والوقائع التاريخية الحقيقة التي طفت على سطح الحياة , ولكن الراوي أو الرواة يضيفون عليه أمور تجعلها قريبة من مشاعر , وأحاسيس المستمع , ويقوم الراوي أو الرواة بتجديد السيرة أو الحكاية أو القصص من وقت إلى آخر حتى لا يمل المستمعين منها. ولكن ــ كما قلنا سابقا ــ جوهرها هي المعرفة الحقيقة , ولكن تصبغ بلون الأدبي الذي يهز المشاعر ، ويدغدغ الأحاسيس ، ويلامس خلجات القلوب . صناع التاريخ الحقيقيولقد ذكرنا سابقا ، أن التاريخ في الزمن القديم ، كان يدون ويسجل مناقب الأباطرة والملوك ، والحكام ، والأمراء , وإن لم يكن يمدحهم مثله مثل شعر المدح الذي يصف الحكام بمناقب باهرة بعيدة كل البعد عن صفاتهم الحقيقة , ومع تطور الحياة السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، وصارت الشعوب تعي حقوقها ، وتدرك الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، والجيد من السيئة . فقد نزل التاريخ من عليائه من قصور الملوك ، والحكام والأمراء في التاريخ القريب ,فصور حياة الناس تصويرا واقعيا أو بالأحرى دون وكتب تاريخ صناع الأحداث التاريخية وهم الشعوب الحية التي غيرت وجه التاريخ . وهذا ما دفع بالدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه (( بين التاريخ والفولكلور )) أن يقول في ذلك الموضوع : " بيد أن أهم التطورات التي لحقت بالتاريخ جاءت مواكبة لتطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية جعلت الناس العاديين أصحاب الحق الأول في تسيير شئون حياتهم وصارت الشعوب مصدر السلطات الديمقراطيات الحديثة . لقد تخلى التاريخ عن مكانه التقليدي في قصور الأباطرة والملوك والحكام والأمراء ، وفي ساحات الحروب ،لينزل إلى خضم الحياة العامة " . ويمضي في حديثه ، قائلا: " باحثا عن الحقيقة في الشوارع والطرقات ، والأسواق بين جموع الفلاحين وجماهير العمال ، وجماعات المثقفين والفنانين والشعراء . لقد بدأ التاريخ يدرس أحوال صناع التاريخ الحقيقيين . وكانت النتيجة أن ظهرت للتاريخ فروع عديدة تبحث في شتى نواحي النشاط الإنساني ، ومنها التاريخ الاجتماعي". معنى التاريخ الاجتماعيويعرف الدكتور قاسم عبده التاريخ الاجتماعي ، بقوله : " والتاريخ الاجتماعي يدرس أحوال المجتمع عبر التاريخ ؛ من حيث التركيب الاجتماعي ، والبناء الطبقي ، وتاريخ الطبقات ، والعادات والتقاليد، والحرف والصنائع ، والأسواق ، والبنيان السكاني ... وفضلا عن ذلك يدرس التاريخ الاجتماعي القيم والمثل والأخلاقيات التي تحرك المجتمع في عصر ما من عصوره التاريخية ". ويضيف ، قائلا : " بيد أن التاريخ الاجتماعي يهتم أيضا بالجوانب السياسية والاقتصادية والفكرية في حياة المجتمع ". روح تاريخ عدنوالحقيقة أن قاسم عبده ينوه إلى مسألة غاية في الأهمية في كتابة التاريخ الاجتماعي أو بالأحرى المراجع التي تستعمل في تدوينه ، فيقول : " والموروثات الشعبية مصدر هام للمؤرخ الذي يدرس التاريخ الاجتماعي ، أو النتاج الثقافي لأمة من الأمم لأنها تعبر عن هذه الجوانب العاطفية والوجدانية والأخلاقية ". ويصف الدكتور عبده قاسم وصفا غاية في البلاغة الموروثات الشعبية ، بقوله : " فنحن نبحث في الموروثات الشعبية عن تفسير شعبي لحوادث التاريخ ، ولا نبحث عن الأحداث نفسها ؛ نبحث عن (( روح التاريخ )) لا عن جسده ". في قلب العواصف السياسيةوكيفما كان الأمر ، فإننا سنحاول على قدر إمكانياتنا ، وطاقاتنا في هذا البحث المتواضع أن نظهر تاريخ عدن الاجتماعي أو بعبارة أخرى أن نقرأ تاريخ عدن الاجتماعي قراءة شعبية . والحقيقة أن تاريخ ثغر عدن ( الرسمي ) ــ إن صح ذلك التعبير ـــ الذي كتبه المؤرخين القدامى أمثال المؤرخ بامخرمة المتوفي سنة ( 947هـ / 1540 م ) لم يتناول من قريب أو من بعيد حياة أهل عدن الذين كانوا دائما في قلب العواصف السياسية العاتية التي كانت تهب على مدينتهم من حين إلى آخر . فعلى سبيل المثال عندما حاول الأسطول البرتغالي أن يغزو عدن سنة ( 919 هـ / 1513 م ) ، ويجعلها قاعدة عسكرية ينطلق منها لقطع الطريق البحري المتجهة إلى الهند ، وضرب كل سفينة تجارية غير برتغالية تحاول أن تشق طريقها إلى الموانئ والسواحل اليمنية . الأمير مرجان في كتب التاريخوكيفما كان الأمر ، فقد ذكر المؤرخين القدامى اليمنيين في روايتهم التاريخية ـــ أن الأمير ( مرجان ) حاكم عدن من قبل الطاهريين الذي استنجد بالسلطان عامر بن عبد الوهاب ليمده بالرجال والعداد لمواجهة الغز البرتغالي ، ولكن كان السلطان ( عامر) مشغولا في إخماد الفتن والقلاقل الذي اشعلها معارضيه السياسيين في العديد من مناطق نفوذه في اليمن . الأمير مرجان في السيرة الشعبيةقد أبلى بلاءا حسنا في مقاومة البرتغاليين وكان من الأسباب الرئيسة في هزيمة الفرنجة البرتغاليين. والحقيقة أن الذي قاوم البرتغاليين , ودافعوا عن مدينتهم عدن ، كانوا العامة من الناس فضحوا بالنفس والنفيس . فقد روى رواة السير والحكايات الشعبية صورة مغايرة عما ذكره المؤرخين اليمنيين القدامى حول الغزو البرتغالي على عدن ــ كما ذكرنا ــ سابقاــ .وهنا ربما كان مناسبا أن نقتبس ما رواه عيسى بن لطف الله شرف الدين المتوفي سنة ( 1048 هـ / 1638 م ) في روايته عن أحداث سنة 919 هـ في مؤلفه (( روح الروح )) التي تتحدث عن الحملة البرتغالية على مدينة عدن حتى تتضح الصورة الكاملة بأن المؤرخين القدامى لم يذكروا العامة من أهل عدن بل وصل الأمر بهم إلى أنهم طمسوا دورهم في مقاومة الإفرنج البرتغاليين ، إذ يقول : " ودخلت سنة تسع عشرة وتسعمائة ، في محرم منها وصل الخبر بقدوم ثمانية عشر مركبا إلى بندر عدن الفرنج فجهز السلطان عسكرا إلى بندر عدن وأمر بالتحفظ منهم ... وكان وصولهم في 17 محرم ، وأمر الأمير ( يقصد حاكم عدن الأمير مرجان ) أهل عدن بالتغافل عنهم والتشاغل بتحصين البلد والأخذ بالحزم ، ثم أن الفرنج خرجوا إلى الساحل بسلالم قد صنعوها ووضعوها على أقصر جانب من سور عدن فطلعوا ودخل بعضهم إلى عدن ، فأمر الأمير أهل عدن أن يخرجوا إليهم فخرجوا فحازوا السلالم وقتلوا منهم بضعة وأسروا أربعة ، وهزموا الفرنج ... ". الأمير يفر من المعركةولكن هناك رواية أخرى تقول بمعناه : " أن الأمير مرجان حاكم عدن ، عندما لاح في الأفق الأسطول البرتغالي أمام عدن ، أصابه الفزع والخوف ، وفر من قصره دار السعادة في صيرة تارك مصير عدن وأهلها في يد الفرنج البرتغاليين ". السيرة الشعبية والأميرة شمسوفي الواقع ، أن الروايات الشعبية رسمت صورة معبرة عن شعور أهل عدن وخصوصا العامة منهم تجاه الغزو البرتغالي على مدينتهم ، في الوقت الذي كان الأمراء الطاهريين يفرون من المدينة الواحد تلو الآخر متجهين صوب الداخل ( الريف ) لحج ، وأبين محملين بالأحمر ، والأبيض ( الذهب والفضة ) , وكذلك نزل قادة الحصون والقلاع المحيطة بالمدينة لحمايتها من كل غزو خارجي ، مما سبب الاضطراب والفوضى بين صفوف الجند والذين بدورهم عندما رأوا قادتهم يتقهقرون ، وينزلون من الحصون والقلاع ، فاخرج الكثير من الجند منها تاركين القلاع والحصون خاوية على عروشها، ولكن كان عامة الناس على قلب رجل واحد مصممين على الاستشهاد أو النصر على الغزاة الإفرنجة البرتغاليين وبالرغم من هروب قادة قلاع وحصون المدينة ومعهم الكثير من الجند ــ كما مر بنا سابقا ــ وقد أخذوا أسحلتهم معهم . وتروي الرواية الشعبية بمعناه " أن فتاة في عمر الزهور اسمها ( شمس ) وكانت تعيش على شاطئ بحر صيرة . قد فقدت والدها وهي طفلة صغيرة أثناء أحدى غارات الأسطول البرتغالي على سفينة تجارية وكان والدها ربانها والذي قاوم مقاومة بطولية حتى استشهد وهو متثبت بسكان السفينة . ومنذ ذلك التاريخ المأسوي ، قررت شمس الأخذ بثأر والدها من الفرنج البرتغاليين ". وتواصل الرواية حديثها ، فتقول : " وكانت ( شمس ) تلك الفتاة البارعة الحسن ، قد أخذت من صفاتها والدها وهي الشجاعة ، والجرأة ، والقلب الكبير. من الملاحم البطوليةوعندما أطل الخطر برأسه البشع والمتمثل بغزو الفرنجة البرتغاليين على مدينتها الغالية سطرت تلك الفتاة ( شمس ) ومعها عامة الناس من أهل عدن أروع والملاحم البطولية في كيفية حماية مدينتهم من هؤلاء الإفرنج البرتغاليين ؟ . فقد وقفوا أمامهم يتلقون الموت بصدور عارية ، مصممين على النصر أو الشهادة في الوقت الذي فر الأمراء ، وحاكم عدن من المدينة وبعد معارك قاسية وشرسة دحر أهل عدن الإفرنج ، مخلفين وراءهم العار والخزي الكبيرين , ويقال أن قائد الحملة البرتغالية البوكرك ، قد أصابه الحزن والأسى الكبيرين من تلك الهزيمة النكراء والتي أصابته بمقتل ، والذي لم يكن يتوقعها , وبعدها بشهور عديدة أصيب بالحمى , ومات من جرائها والحسرة والألم يأكلان قلبه ، وقبيل وفاته سجل في مذكراته كيف غرق في مستنع الهزيمة عند أبواب عدن فكتب ، يقول :" ولا أعرف من ألوم في النهاية ؟ هل ألوم جارسيا ــ أحد ضباطه ـــ لعدم الانصياع لمحاولة النجاة بنفسه مثل زملائه ؟ أم أولئك الذين شكى ( شكا ) منهم أنهم تخلوا عنه؟ ". تلك الرواية أو الروايات الشعبية التي روت تلك الملحمة البطولية مثلت جزء من نسيج الموروثات الشعبية ( الفلكلور ) الذي لم يتطرق إليها ــ كما مر بنا سابقا ــ من قريب أو بعيد المؤرخين القدامى . صانعة التاريخ الحقيقيوإذا نحن رجعنا إلى قول أولئك المؤرخين اليمنيين القدامى عن تلك الواقعة وهي محاولة الفرنجة البرتغاليين الاستيلاء على عدن ، سيلفت نظرنا . أن الأضواء تسلط فقط على الأمراء والقادة وحاكم عدن ( مرجان ) ، وأما عامة الناس من أهل عدن وهم الصناع الحقيقيين في هزيمة الفرنجة فلم يذكروهم في صفحات كتبهم وهذا ما رأيناه في كتاب( روح الروح ) لصاحبه عيسى بن لطف الله الذي ألقى الأضواء القوية على ( مرجان ) حاكم عدن , وكيف وضع الخطط ، وأعطى الأوامر الحازمة لأهل عدن لمقاومة البرتغاليين . في الوقت الذي ذكر أحد المؤرخين المحدثين ، بأن ( مرجان ) فر من قصره دار السعادة عندما لاح في الأفق الأسطول البرتغالي أمام سواحل عدن , ويقول بمعناه" لقد قرر ( مرجان ) حاكم عدن التخلي عنها بسبب أسلحة البرتغاليين الفتاكة، وتخلي ــ أيضا ــ السلطان عامر بن عبد الوهاب عنه لانشغاله في إخماد الفتن والقلاقل والإضطرابات السياسية التي اشتعلت من أدنا اليمن إلى أقصاها.والحقيقة أن الملوك والسلاطين ، من عاداتهم في العهود الماضية أن يسرقوا من عامة الناس كفاحهم ، ووبطولاتهم وينسبوها لهم ـــ على حد تعبير الدكتور قاسم عبده ـــ . ولكن الموروث الشعبي والذي يمثل نبض الشعوب صانعة التاريخ الحقيقي ، فضح أساليب أولئك الأباطرة ، والملوك ، والسلاطين ، والأمراء الذين سرقوا تاريخ شعوبهم حيث أدعوا أنهم هم صناع التاريخ . عدن وموقعها الجغرافيوالحقيقة الواضحة ، أن موقع عدن الجغرافي أثر تأثيرا جليا وواضحا على عادات وتقاليد أهلها ومعيشتهم اليومية، و نشاط حياتهم الاقتصادي من ناحية وتركيبة سكانها من ناحية أخرى . وبسبب أن عدن كانت المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر ، والمطلة على البحر العربي ( الهندي) ، فإنها كانت همزة وصل بين الهند والغرب , ومعنى أخر كانت محطة تلتقي عندها تجارة شرق آسيا ، فيأتي إليها التجار من مختلف بقاع العالم لجلبها من هناك ، وكان من جراء احتكت ثقافتها المحلية بثقافة عادات وتقاليد الأجناس الأخرى التي كانت ترد على مينائها , وهنا ربما كان مناسبا ، أن نورد ما ذكره الأستاذ الدكتور محمد كريم الشمري عن التركيبة السكانية لمدينة عدن في العصور الوسطى وخصوصا في عهد الدولة الطاهرية ( 858 هـ ــ 933 هـ / 1453 م ــ 1527 م ) ، وذلك بسبب ميناؤها الهام الذي جذب إليها الكثير من مختلف الأقطار ، فيقول : " ازداد الاهتمام بميناء عدن على مر الزمن ، وكان التجار يقصدونها من كل مكان ، ويستقرون فيها ، وهذا أدى إلى تنوع سكانها وتعدد جنسياتهم ، وأصولهم ". تحت سمائهاأما الدكتور سيد مصطفى سالم ، فيعدد الجنسيات المختلفة التي استقرت في عدن وعاشت تحت سماؤها ، فيقول : " ... حتى قيل إن أغلب سكانها ــ في عهد الطاهريين ـــ كانوا من المصريين ، والمغاربة ، والأحباش والفرس ، ومن أهالي ساحل أفريقية الشرقي ". وتعطينا الباحثة إيمان بيضاني في بحثها تحت عنوان (( عدن في مصنف ابن بطوطة انطباعات ذلك الرحال المسلم الذي زار عدن في عهد الدولة الطاهرية , ومن أهم ما لفت ابن بطوطة في هو أخلاقهم وسلوكهم الطيب تجاه الغرباء , والفقراء .ولقد استخلصنا من انطباعاته أن المجتمع العدني ــ وقتئذ ــ كان يسوده الرحمة والتآلف ،وأنهم أهل تقوى وصلاح وعلى وجه الخصوص قضاتهم الذين اتسموا بالعدل.عدن و ابن بطوطةوالحقيقة أن تلك المشاهد الذي تحدث عنها الرحال ابن بطوطة أهل مدينة عدن تدخل في صميم تاريخها الاجتماعي ,ويذكر الدكتور حسين محمد في كتابه ( أدب الرحلات ) أن الرحالة المسلمين استخدموا مصطلح ( الإثنوجرافيا ) في تدوين رحلاتهم وهي " ... الدارسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد ، والعادات والقيم ، والأدوات والفنون ، والمأثورات الشعبية لدى جماعة أو مجتمع معين ، خلال فترة محددة ". وكيفما كان الأمر ، فقد وصف الرحال ابن بطوطة وصفا دقيقا لمدينة عدن وأهلها ، وتقاليدهم وعاداتهم ، والفئات الاجتماعية التي كانت فيها ــ كما قلنا سابقا ـــ وسنقتبس ما ذكرته الباحثة إيمان في بحثها نقلا عن رواية وصف ابن بطوطة لأخلاق أهل ، فتقول : " أما مشاهدات ابن بطوطة الاجتماعية تمثلت بوصف أهل عدن فنعتهم بمكارم الأخلاق وأنهم أهل دين وتواضع وصلاح ، بل وفيهم صفة الرحمة والإحسان ، كقوله : " يحسنون إلى الغريب ويؤثرون الفقير ". وتمضي في حديثها ، فتقول : " وأهم ما قاله ابن بطوطة وكأنه يريد إن يبين أن سكان عدن لا يهتمون بالتمييز بين غني ، وفقير ... ". المؤرخون والحياة الاجتماعيةوفي الواقع ، أن المراجع التاريخية اليمنية القديمة أو المصادر التراثية ــ كما قلنا سابقا ــ لم تذكر حياة الناس اليومية ، وعاداتها وتقاليدها ، وإنما ذكرت الأحداث الجسيمة والأمور العظيمة من ناحية والحكام والأمراء من ناحية أخرى . العيد والطرق الصوفيةوأما بخصوص المناسبات الدينية كشهر رمضان أو عيد الفطر أو عيد الأضحى وغيرها من المناسبات الدينية فلم يذكرها المؤرخين اليمنيين القدامى من قريب أو من بعيد . ولكن الروايات الشعبية ذكرت الكثير من تلك المناسبات على سبيل المثال الأعياد. فتقول بمعناه : في صباح أول أيام العيد تحتفل الطرق الصوفية المختلفة مثل الشاذلية ، الرفاعية ، القادرية ، الأحمدية وغيرها وذلك بخروجها إلى الأسواق حاملة معها ( البنادر) الرايات البيضاء ، والخضراء وأتباعها ومريديها يلفتون حولها, وكانت كل راية ترمز إلى فئة صوفية معينة , وفي أثناء ذلك ينشد المنشدين بالأناشيد الدينية والذي فيها عبر ومواعظ للإنسان . وكانت تقام في بعض الأماكن المشهورة في عدن مآدب حيث تقدم فيها الأطعمة الدسمة واللذيذة المليئة بالثريد ( أي من لحوم الأضحية ) وكان يؤمها الفقراء والمساكين والعامة من الناس والذي كان يتكلف بتلك المآدب تجار أغنياء والكثير منهم كانوا من أصحاب الطرق الصوفية . عدن والصليحيونوالحقيقة أن عدن ــ كما مر بنا سابقا ــ كانت ملتقى التجارة العالمية , وكان من البديهي أن تجلب على متن السفينة المحملة بالبضائع والسلع المختلفة القادمة من مختلف البلدان ثقافة شعوب الأقطار المتنوعة المتمثلة بالعادات والتقاليد ، والفكر ، فكان من ثمرة ذلك أن انعكس على عادات وتقاليد أهل عدن في الأطعمة والملابس وغيرها من التقاليد المرتبطة بالمناسبات الدينية وكما هو معروف أن عدن تعاقبت على حكمها عدد من الدول اليمنية المركزية , وكانت الدولة الصليحية ( 439 ـ 532هـ/ 1047 ــ 1137 م ) واحدة منها ، ولكنها تميزت عن تلك الدول بأنها ارتبطت بالدولة الفاطمية ارتباطا مذهبيا وعقائديا عميقا ، ودارت في فلكها . ولقد تتبعت الدولة الصليحية مراسيم الفاطميين في مصر ونقلوها بحذافيرها إلى اليمن . وفي هذا الصدد ، يقول المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع :" إذ أنها ( يقصد الدولة الصليحية ) كانت من أقدم دول اليمن أخذا بمراسيم الملك وتقاليده ، وعاداته وأنظمته ، ذلك لأن دعاتها ترسموا عادات وتقاليد الحكام الفاطميين ( العبيديين ) بحذافيرها بسبب التبعية والولاء لهم في المذهب والعقيدة ". ويضيف قائلا : " فلا جرم إذا صاروا تبعا لهم يدرون في فلكهم، ويلتزمون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم ، ويقلدونهم في شؤونهم كلها ، وما ذاك إلا أنهم لأنهم امتدادا لنفوذهم في اليمن ". المطبخ اليمنيويذكر مؤرخ مجهول ، أن الفاطميين في مصر ذاعت شهرتهم في مختلف بقاع البلدان العربية والإسلامية بالحلوى اللذيذة الذين تفننوا في صناعتهم والتي كانت نابعة من بلادهم الأصلية المغرب. وكان من البديهي أن تنتقل الحلوى إلى اليمن وخصوصا في عهد الصليحيين الذين كانوا أتباعا للفاطميين في اليمن ــ كما قلنا سابقا ــ . ويذكر ذلك المؤرخ المجهول أن المطبخ اليمني دخلت عليه أطعمة جديدة لم يكن يألفها أو بمعنى أدق لم تكن موجودة بشكل ملحوظ فيه وهي الحلوى ، وأول ما دخلت في مطبخ الأمراء والحكام الصليحيين ، ثم انتقلت إلى مطابخ وجوه الأعيان , والتجار الأغنياء في اليمن وعلى وجه الخصوص في عدن . العدنيون والمصريونوالحقيقة أن عدن ثغر اليمن عرف الكثير من عادات وتقاليد الشعوب ومنها الأطعمة في العيد نظرا لاختلاط أهل عدن بمختلف الأجناس التي عاشت واستقرت في مدينتهم ــ كما مر بنا سابقاــ. ومن أكثر الأجناس التي تأثر بها ( العدنيين ) هم المصريين ، ودليل ذلك أن الطريقة الصوفية الرفاعية والأحمدية جاءتا من مصر وكانتا من أشهر الطرق الصوفية في عدن وإن لم يكن أشهرها على الإطلاق , وكان لها أتباع ومريدين كثيرين. وهذا ما أكده المؤرخين القدامى بأن المصريين كانوا من أكثر الجنسيات الموجودة في ــ ثغر عدن المحروس ــ على حسب تعبيرهم ـــ وكان لهم دورا ملحوظا في النشاط التجاري ، بل أن عددا من المصريين انصهروا في المجتمع العدني من خلال المصاهرة للعائلات العدنية . وهذا ما أكده الدكتور محمد كريم حول ثمرة تلك العلاقة اليمنية المصرية ( الصليحية الفاطمية ) على عدن وسكانها ، فكتب يقول : " ازدادت أهمية بلاد اليمن وتوثقت العلاقات التجارية بين مصر واليمن ، وذلك بعد قيام الصليحيين وتأسيس دولتهم وارتباطها بدعوة الفاطميين ، فأصبح اليمن جزءا من دولة الفاطميين بمصر، وأصبح التجار يرحلون من مصر إلى اليمن ، فاستقر كثير من تجار مصر في مدن اليمن واتخذوها وطنا ثانيا لهم ، كبني الخطباء وهم من تجار من أهل مصر , وكان ثغر عدن أهم موانئ التجارة اليمنية المصرية ". الملكة سيدة بنت أحمد الصليحيوقيل إن كثيراً من تجار مصر ، قد حملوا معهم المطبخ المصري إلى عدن وخاصة فيما يتعلق بأطعمة العيد وهى الحلوى اللذيذة المختلفة الأسماء والأشكال مثل ( القطائف ) , ( الكنافة ) ، ( ولقمة القاضي ) وغيرها من أصناف الحلوى المصرية . وقيل ــ أيضا ــ أن دكاكين متخصصة بالحلوى المصرية والحلوى الهندية فتحت في عدن . ولقد ذاع صيتها مختلف مدن اليمن ومنها مدينة جبلة مقر حكم الدولة الصليحية . ويقال أن الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي المتوفاة ( 532 هـ / 1138 م ) كانت تجلب إليها في العيد الحلوى المصرية من عدن لشهرتها الواسعة والعريضة الكبيرين في صناعتها .الصيادون والعيدومن مظاهر العيد في عدن الاحتفاء والاحتفال تتمثل بخروج فئة من الناس في صباح أول أيام العيد تقرع على الطبول ، وعلى دقاتها يرقص الرجال أو متقابلين أو على شكل دوائر ويظهر ذلك جليا من فرحة وابتهاج البحارة والصيادين باستقبال العيد والتي هي جزء من عاداتهم وتقاليدهم في العيد سواء كان ذلك في عيد الفطر أو في عيد الأضحى . ويصف الأديب والكاتب الكبير حسين سالم باصديق في كتابه القيم (( في التراث الشعبي اليمني )) أن الرقصات التي يؤديها أهل عدن وغالبيتهم كانوا من الصيادين تعبر عن طبيعة عملهم المحفوف دائما بالأخطار والمغامرات أو بمعنى أخر المليئة بالأفراح والأحزان ، والشجاعة والقوة , ويصف أحدى الرقصات الذي يقوم بها الصيادين والبدو بقوله : " فهي ما زالت تعبيرا قويا عن حب العمل وعن القوة والشجاعة وعن الاعتزاز القبلي والافتخار الرجولي عند الإنسان وهو يؤدي الرقصة . فيدك الأرض بقدميه أو يصك الأذان بتصفيقة ( بتصفيق ) يديه القويتين كما يفعلون في الشبوانة أو الزفين أو الدربوكا والكامبورا ". وتظهر الأغاني الشعبية في العيد ولا يفهم من ذلك أن تلك الأغاني تدور حول فرحة الإنسان بالعيد فحسب بل أن المغني أو المغنيين يغنون أغاني تعبر عن مشاعرهم وأحاسيسهم فمنها ما يدور حول العمل ونشاطه , والآخر حول العاطفة الجياشة التي يختزنها القلب العيد والأغنية الشعبيةوفي هذا الصدد ، يقول حسين سالم : " تعتبر كل أغنية أداة تعبير تختلف عن غيرها حسب نوع العمل يجيش في النفس ينفثها الإنسان العامل خلال عمله ، فإن نوع العمل هو الذي يحدد نوع الترنيمة وطريقة أدائها ". وعندما تشرق شمس العيد ، فإنها تكون مناسبة للصيادين وغيرهم من أصحاب الحرف والمهن الشعبية الأخرى في عدن القديمة أن يعبروا عن فرحتهم بالعيد فيتجمعون فيما بينهم فيرقصون ، ويغنون كمحاولة منهم بإزالة غبار العمل المضني الذي يقومون به على مدار العام, فيكون العيد هو وقت للتسلية والمتعة الكبيرين بالنسبة لهم . حلقة مجهولةولقد ذكرنا سابقا ، أن العيد في عدن ثغر اليمن لم نعرف مظاهره إلا من خلال الروايات الشعبية التي كانت سجلا أمينا ودقيقا لتاريخ عدن الاجتماعي أو نبض العامة من الناس . وأما المراجع التقليدية أو المصادر التراثية فلم تسجل في صفحات دفاترها سوى الأحداث السياسية العظيمة ، والظواهر الطبيعة الخارقة عن العادة على سبيل المثال حدوث الزلازل في مكان منطقة معينة من اليمن ، أو ظهور شهاب ضخم ، أو أمطار غزيرة تحولت إلى فيضانات جرفت أمامها كل شيء . وكيفما كان الأمر، فإن العيد ومظاهره , والمناسبات الدينية الأخرى فإنه يعد جزءا من تاريخ عدن الاجتماعي الذي لم يدونه المؤرخين القدامى . ونأمل ونرجو من المؤسسات والهيئات الثقافية والعلمية في بلادنا العناية والاهتمام الكبيرين بتاريخنا الاجتماعي الذي مازال ــ مع الأسف العميق ــ حلقة مجهولة من تاريخنا اليمني العام .الهــــــــــــوامــــــــــش :- دكتور قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفلكلور ، الطبعة الثانية 2001 م، الناشر : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، جمهورية مصر العربية . - عبد الله أحمد محيرز ؛ صيرة ، الطبعة الأولى ، صدر في سبتمبر 1992م ، دار الهمداني للطباعة والنشر ـ عدن ـ الجمهورية اليمنية. _عيسى بن لطف الله ؛ روح الروح ، تحقيق : إبراهيم بن أحمد المقحفي ، الطبعة الأولى 1424 هــ الموافق 2003 م ، مركز عبادي للدراسات والنشر ــ صنعاء ــ الجمهورية اليمنية . - د . محمد كريم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ، الطبعة الأولى مركز دراسات الخليج العربي ــ جامعة البصرة ، 1985 ، الطبعة الثانية 2004 ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ، ــ عدن ــ الجمهورية اليمنية . _الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن ،سنة الطبعة 1969 م ، معهد البحوث والدراسات العربية ــ جامعة الدول العربيةــ _القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي ، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ــ لبنان ــ .- د . حسين محمد فهيم ؛ أدب الرحلات ، عالم المعرفة ـ الكويت ــ 1409هـ / 1989م . _إيمان بيضاني ؛ عدن في ابن المجاور وابن بطوطة ، مركز البحوث والدراسات اليمنية ــ صنعاء ــ ندوة عقدت في 8 / 12 / 2004 م بعنوان (( عدن في ظل حكم الزريعيين ، والايوبيين ، والرسوليين )) - حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414 هــ / 1993 م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ــ صنعاء ــ .