أجمعت كتب التاريخ بأن اليمنيين كان لهم حضورًا قوي ومتميز في بلاد الرافدين ( العراق ) في التاريخ القديم أقام اليمنيون إمارة الحيرة على تخوم العراق في سنة ( 240م ) وكانوا يعرفون بالمناذرة أو اللخميون . وفي التاريخ الإسلامي تبوأ اليمنيون مكانة عالية على مسرح الأحداث وتحديدًا في زمن الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى . فقد كانت القبائل اليمنية وبطونها وأفخاذها كالأزدية وقضاعة ، وِكندة وغيرها من القبائل اليمنية كانوا السباقين في تخليص العراق من مخالب الإمبراطورية الفارسية ومنذ ذلك التاريخ كتبت القصة الخالدة بين اليمنيين والعراقيين بحروف من نور .[c1]من نسيج المجتمع العراقي [/c]و لقد ذكرت كتب التاريخ أن اليمنيين والعراقيين انصهروا منذ الفتوحات الإسلامية في بوتقة واحدة حيث استقر اليمنيون في عدد كبير من مناطق بلاد الرافدين وصاروا جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع العراقي بعاداته وتقاليده وتراثه الأصيل فقد امتزجت دماء القبائل اليمنية بدماء القبائل والعشائر العراقية وذلك من خلال المصاهرة بينهم , وفوق ذلك كله جمعتهم روابط لا يمكن أن تنفصم عراها وهو الدين الإسلامي الحنيف , ولغة القرآن الكريم , وجمعتهم أيضاً الأحداث العظام والأمور الجسام التي مرت بها بلاد الرافدين عبر تاريخها الإسلامي . [c1]كِندة في الكوفة [/c]وتروي كتب التاريخ أن أول من نزل من قبائل الجزيرة العربية إلى الكوفة بالعراق هي قبيلة كِندة في بداية الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى . والجدير بالذكر أن مدينة الكوفة أختطها الصحابي الجليل بطل القادسية سعد بن أبي وقاص في سنة 15هـ / 636م أو سنة 17هـ / 638م ـ على حسب قول الدكتور حسين مؤنس في كتابه المساجد ـ . [c1]بعد معركة القادسية [/c]وكيفما كان الأمر ، فقد كان لقبيلة كِندة وبطونها وأفخاذها القادمة من حضرموت دورً فعال وهامً في موقعة القادسية ( 15هـ / 636هـ ) الشهيرة التي غيرت مجرى التاريخ الإسلامي بصورة خاصة والعالم بصورة عامة . وذلك بعد الانتصار الساحق الذي أحرزه المسلمين في القادسية على جيوش الإمبراطورية الفارسية وسيطرتهم على جميع مدنهم .فسكنت واستقرت عدد من بطون وأفخاذ كِندة في الكوفة ( جنوب العراق ) . وهناك اختطوا لأنفسهم أحياء خاصة بهم . وجاءت في روايات تاريخية أن الكوفة سكنها عددغير قليل من الوجوه والشخصيات البارزة في قبيلة كِندة على سبيل المثال لا الحصر الأشعث أبن قيس الكِندي ، أمرؤ القيس بن عابس من بني عمرو بن معاوية ، وقيس بن سمي الكِندي ، وحجر بن عدي الكِندي الصحابي الجليل . وممن سكنها أيضاً بعض عشائر كِندة " بنو المجر ، وبنو الأرقم بن النعمان " .[c1]التحالف والولاء [/c]والجدير بالإشارة أن المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف يذكر أن النسابة يؤكدونأن عددًا غير قليل من القبائل والعشائر العراقية التي كانت تسكن تخوم العراق والتي تعود أصولها إلى اليمن نزحوا من زمن بعيد من اليمن إليها . وهذا ما أكده كذلك الدكتور شوقي ضيف ، إذ يقول : " فهم ( أي القبائل العراقية ) من عرب الجنوب الذين نزحوا إلى الشمال مع قبائل أخرى كثيرة وأهمها جُذام ، وعاملة ، وكلّب ، وقضاعة"، وكونت لنفسها إمارة الحيرة وانضموا تحت لواء القبائل اليمنية القادمة من اليمن في إبان الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى وتحديدًا بعد موقعة القادسية . ويذهب محمد عبد القادر بامطرف بأن عددًا غير قليل من القبائل والبطون والأفخاذ العراقية انطوت تحت لواء عدد من القبائل اليمنية المشهورة بقوتها وضخامة وكثرة بطونها وأفخاذها وفروعها مثل قبيلة الأزدية . وهذا ما يعرف بالولاء والتحالف ـ على حد تعبيره ـ فصارت على حسب الأعراف القبلية ، القبيلة التي تنطوي تحت كنف قبيلة أخرى قوية تصير جزءاً لا يتجزأ منها أو من نسيجها القبلي . فهناك العديد من العشائر العراقية امتزجت بالولاء والتحالف بالقبائل اليمنية الشديدة البأس والقوة والمنعة . فأدخلها النسابة العرب في نسب القبائل اليمنية . [c1]القبائل اليمنية العراقية [/c] ومثلما دخلت عدد من العشائر العراقية تحت لواء القبائل اليمنية القوية دخلت كذلك بعض القبائل اليمنية في تحالف مع العشائر والقبائل العراقية وخصوصًا في وسط وجنوب العراق . ولقد صنف النسابة العرب القبائل اليمنية التي انطوت تحت نفوذ القبائل العراقية بأنها عراقية . وهذا دليل واضح وقاطع على التداخل والتشابك والوشائج القوية بين القبائل اليمنية والعراقية منذ الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى .[c1]أحفاد الأحفاد [/c]والحقيقة أن عملية البحث والتقصي عن الأعلام المشهورين الذين تمتد أصول أنسابهم إلى القبائل اليمنية والذين سطعت شمسهم في الحياة الدينية والحركة العلمية في الكثير من مدن العراق كالكوفة ، البصرة ، وبغداد وصارت لكل من تلك المدن علماؤها , وأدباؤها ، وشعراؤها , ومدارسها الفكرية المتميزة بها التي كانت تتنافس فيما بينهم . وكان من جراء ذلك أن صارت المدن العراقية مركز أشعاع حضاري رائع وصلت أضواؤه مختلف بقاع العالم في عهد الخلافة العباسية ( 132ـ 657هـ / 750 ـ 1258م ) هؤلاء الأعلام الذين ترجع جذور وأصول نسبهم إلى اليمن ـ كما سبق وأن أشرنا ـ ولدوا وتربوا وعاشوا تحت سماء بلاد الرافدين ودفنوا تحت ثراها الطيب . فقد صبغتهم بيئتها بصبغة عراقية بحته . ولكن هذا لا ينفي الحقيقة الواضحة الماثلة أمامنا وهي أنهم أي أحفاد الأحفاد ثمرة الوراثة التي قد أجرت في عروقهم دماء أصوله . [c1]آمنة بنت عنان العذري [/c]ومثلما كان لأحفاد الأحفاد من الرجال التي ترجع أصول نسبهم إلى القبائل اليمانية حضورً واضحً في الحياة الدينية والحركة العلمية كان أيضاً للنساء اللواتي تنتمي نسبهم إلى أصول يمنية قمن بدورًا متميزاً في العلوم الدينية كالحديث النبوي الشريف , وتلك آمنة بنت عنان المتوفاة سنة 656هـ / 1258م ، بغدادية المولد والمنشأ تعرف ببغداد بـ " الفاضلة " أو أم محمد نشأت في بيت كله ورع وتقوى ، ودين . تشربت منذ صغرها على والدها الشيخ عنان العذري ـ الذي كان شيخاً من شيوخ المذهب الحنبلي في بغداد ـ الدروس الدينية . وتصفها المراجع العراقية أنها كانت جذوة من الذكاء , وكانت صاحبة شخصية قوية , ولفت نظر والدها قدرتها الفائقة في حفظ ورواية الأحاديث والنبوية الشريفة وشرحها ، فعمل على تشجعيها في ذلك الميدان الهام من العلوم الإسلامية وخصوصًا أن شيوخ المذهب الحنبلي كانوا يهتمون بالأحاديث النبوية اهتماما بالغاً . وعندما شبت عن الطوق , وخطت خطوات واسعة في رواية الأحاديث النبوية الشريفة ، صارت تغربل الأحاديث الضعيفة والموضوعة من الأحاديث الصحيحة. وأصبحت متناً كبيرًا في شرح الحديث الشريف . ولقد حدثت في عدد من المدن العراقية الكبرى والهامة كبغداد , والموصول وغيرهما ، وذاع صيتها في العراق وخارجه .[c1]شعرها الفلسفي [/c]وجاء في رواية أنها صنفت مؤلفاً في قواعد ، وأصول الحديث وكان له صدى طيب بين علماء وشيوخ المذهب الحنبلي ـ ولكن مع الأسف العميق لم يصل إلينا ذلك الكتاب . وجاء في رواية أخرى أن آمنة العذرية اليمانية كانت تقرض الشعر الجيد , وكان شعرها بمثابة دروس وعبر في الحياة وتقلبها وبعبارة أخرى كان شعرها من النوع الفلسفي الممزوج بتعاليم الإسلام ولكن ذلك الشعر أو بعض منه لم نعثر عليه في طبقات الشعراء أو في معجم الأدباء لياقوت الحموي حتى نتعرف على أشكاله الفنية وبلاغته الشعرية . [c1]الرحيل [/c]وتذكر الرواية التاريخية أنه عندما لاح في أفق بغداد الظلام الحالك البشع بسبب قرب التتار المغول وأنهم قاب قوسين أو أدنى من بغداد حاضرة العالم الإسلامي وعاصمة الخلافة العباسية التي حكمت العالم العربي والإسلامي شرقه وغربه أكثر من خمسمائة عام وأنهم سيقتحمونها لا محالة ، فاضطرب حبل الأمن والأمان فيها . فقررت آمنة بنت عنان العُذري الرحيل إلى البلد الآمن إلى مكة المكرمة ، ولم يمض وقت قصير حتى رحلت عن الدنيا في سنة ( 656هـ / 1258م ) بعد أن تركت تراثاً ضخمًا من الأحاديث النبوية الشريفة ـ كما أشرنا من قبل ـ . ويقال أنها توفت في سن مرتفع . [c1]فصيحة " الكوفة " [/c]وهاهي رواية أخرى عن امرأة يمنية يعود نسبها إلى القبائل اليمانية تصفها بالشجاعة ، والمروءة ، والوفاء وصبرها الشديد على تحملها المصائب والشدائد . أنها آمنة بنت الشريد الصدفي , وقبيلة الصدفي مساكنها في وادي دوعن بحضرموت , كوفية المولد والمنشأ . كانت شغوفة بالشعر وخصوصًا شعر الحماسة ، والفخر ،وتتلمذت على والدها الصدفي الحضرمي في الآداب وفروعها المختلفة , واللغة العربية ، وتفوقت في الخطابة , ونعتها أهل الكوفة بـ " فصيحة " الكوفة بسبب طلاقة لسانها , وسحر بيانها ، وقوة حجتها . [c1]خطابها السياسي [/c]وكانت في صباها بارعة الحسن ، ورائعة الحسن ، فتقاطر عليها الكثير من وجهاء عشائر القبائل ، وأثرياء مدينة الكوفة ولكنها صدتهم جميعاً . فقد كانت في مخيلة آمنة بنت الصدفي فارس لا يشق له غبار في ميدان الطعن والنزال ، فارس صفاته الشجاعة ، والفروسية ، والشهامة ، والإقدام . وعندما تقدم لخطبتها عمرو بن الحمق ـ والحمق تنتمي إلى قبيلة خزاعة وهي بطن عظيم من قبيلة الأزد اليمانية ـ .و كان عمرو بن الحمق هذا ، علي ( الهوى ) شهد مع الإمام علي ـ كرم الله وجه ـ كل المشاهد ضد معاوية بن أبي سفيان المتوفى سنة ( 60هـ / 680م ) . وجاء في الرواية أن جند معاوية قتلوه في الموصل بالغدر والخيانة . وعندما ترامت إلى مسامع آمنة خبر مصرع زوجها . أطلقت العنان للسانها تهاجم وتنتقد بشدة معاوية وسياسته في حكم الرعية المليئة بالترهيب والظلم والجور . وتقول الرواية و الروايات أن الكثير من أهل الكوفة تعاطفوا معها والتفوا حولها . ويقال أنها ألقيت في غياهب السجن لمدة عامين من جراء نقدها لسياسة الخليفة معاوية . وقيل كذلك أن معاوية هددها بقطع لسانها إذا عادت لخطابها السياسي تحرض أهل الكوفة عليه وعلى أركان حكمه .[c1]في حمص [/c] وبعد أن عانت آمنة بنت الشريد الصدفي من الآلام والأسى الكبيرين وإصابتها بالشيخوخة التي التهمت صحتها توفت سنة في حمص بالطاعون سنة ( 50هـ / 671م ) . ويبدو أنها نفيت بأمر من معاوية من الكوفة إلى حمص بسبب هجومها الحاد والشديد على أسلوب حكمه ـ كما قلنا سابقاً ـ . ومع الأسف أن التاريخ لم يحفظ لنا بعض من خطبها السياسي لنتعرف على ما كان يدور فيه من نقد سياسي لأوضاع الناس في ظل الخلافة الأموية ( 40 ـ 132هـ / 661ـ 750م)التي حكمت العالم العربي والإسلامي أكثر من تسعين عامًا . [c1]الخليفة المعتصم والأتراك [/c]في سنة 218هـ / 833 م ، جلس المعتصم على كرسي الخلافة العباسية وكان يميل إلى العنصر التركي ويظن بهم الإخلاص والولاء فتولوا الكثير من المناصب الهامة والحساسة في مفاصل الدولة . والحقيقة أن الخليفة المعتصم كان يهدف من تقوية الأتراك في عهده بضرب العنصر الفارسي الذين استبدوا بالحكم في عهد الخليفة عبد الله المأمون المتوفى سنة ( 218هـ / 833 م ) الذين كانوا عضدته وقوته ضد العنصر العربي . فوجد المعتصم أنه أفضل وسيلة من القضاء على العنصر الفارسي وكذلك العنصر العربي هو استبدالهم بالعنصر التركي والإكثار منهم . وهذا ما أكده أحمد أمين بقوله : " ذلك أن المعتصم الذي تولى الخلافة سنة 218هـ استقدم سنة 220هـ قومًا من بخارى ، وسمرقند ، وفرغانة ، وغيرها من البلاد التي نسميها (( تركستان )) , وما وراء النهر ، اشتراهم وبذل فيهم الأموال ، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب ، وأمعن في شرائهم حتى بلغت عِدتهم ثمانية آلاف مملوك ، وقيل ثمانية عشر ألفاً " . واللافت للنظر أن المعتصم عمل على إغداق الأتراك بالأموال والهدايا حتى يكسبهم إلى جانبه ويكونوا خواصه وعضدته وقوته في عهد حكم خلافته ضد العنصر الفارسي والعربي ـ كما ذكرنا في السابق ـ . [c1]إزاحة العنصر العربي [/c]وكيفما كان الأمر ، فقد أتبع المعتصم سياسة إزاحة العنصر العربي من مسرح الخلافة العباسي السياسي وهم قبائل مضر ، واليمن , وربيعة وغيرهم فضعفت شوكتهم ، وذهب ريحهم . والحقيقة أن العنصر العربي قوضت نفوذه في عهد حكم الخليفة عبد الله المأمون الذي أكثر من العنصر الفارسي ـ كما قلنا سابقاً ـ وزرعهم في المناصب الهامة والخطيرة في الدولة . ثم جاء الخليفة المعتصم للإجهاز على البقية الباقية من قوة العنصر العربي وذلك من خلال اعتماده على العنصر التركي ـ الذي ظهر على مسرح الحياة السياسية في عهده ـ كما قلنا في السابق ـ . وفي هذا الصدد ، يقول أحمد أمين : " من ذلك التاريخ دخل في نزاع العصبية عنصر قوي جديد ، فقد كان النزاع قبلُ بين الفرس والعرب فأصبح بين العرب والفرس والترك ؛ وكان العرب قد ضعف أمرهم في نزاعهم مع الفرس ، فجاءت قوة الترك ضغثاً على إبّالة " . ـ أي زادت من الطين بلة على العنصر العربي .[c1]هارون الرشيد والفرس [/c] ومن الأسباب الأخرى التي دعت المعتصم إلى استدعاء الترك والاعتماد عليهم في تسيير أمور دولته هو أن والدته " أصلها من هذه الأصقاع التركية ، فقد كانت من السُّغد ، واسمها ماردة ، وكان في طباعه كثير من طباع هؤلاء الأتراك ، من القوة والشجاعة والاعتداد بقوة الجسم " . تلك العوامل والأسباب الأخرى أثرت تأثيرًا سلبيًا على العنصر العربي أو القبائل العربية ومن بينهم ـ كما ذكرنا ـ القبائل اليمانية التي سحبت من تحتها البساط السياسي في الدولة العباسية . حقيقة أن العنصر الفارسي كان نفوذه قويًا في عهد الخليفة هارون الرشيد المتوفى سنة ( 193هـ / 809 م ) ودليل ذلك دولة البرامكة أو بعبارة أخرى وزراء البرامكة الذين كانوا من العنصر الفارسي الذين ارتفع شأنهم , وصارت لهم الكلمة العُليا في الخلافة العباسية ولكن هارون الرشيد أطاح برؤسائهم ونكب بهم وأذهب ريحهم ، والتي عرفت في تاريخ أحداث الخلافة العباسية بـ ( نكبة البرامكة ) وتعد من الأحداث الهامة في تاريخ الخلافة . وعلى أية حال , جاء في رواية أن المعتصم " قد كتب إلى عماله في الأطراف بإسقاط من في دواوينهم من العرب وقطع العطاء عنهم ، ففعلوا وانحط شان العرب من ذلك الحين ، وما أصاب القبائل العربية في الحجاز أصاب أيضًا القبائل اليمانية أو اليمنية في العراق " . [c1]قبيلة جذام اليمانية والثورة [/c]لقد تحدثنا سابقًا بأن سياسة أضعاف العنصر العربي في عهد الخليفة العباسي عبد الله المأمون الذي غرس الفرس في المناصب الخطيرة في الدولة وجعلهم القوة الضاربة في جيشه . والعمل على إقصاء العنصر العربي من الساحة السياسية في دولته . كانت من نتائجها أنها ألبت عليه القبائل اليمانية , ولقد تزعمت الثورة ضد ذلك الإجحاف السياسي قبيلة جذام اليمانية ولكن تلك الثورة سرعان ما انطفأت جذوتها بسبب سياسة البطش الشديدة التي أتبعها المأمون في إخمادها . ثم جاء المعتصم فقضى على البقية الباقية من نفوذ وقوة العرب في الدولة العباسية ـ كما أشرنا في السابق ـ . وكانت من نتائج ذلك عواقب سياسية وخيمة على الخلفاء والخلافة العباسية حيث تحكم ـ كما قلنا سابقاً ـ القادة الترك بالخلفاء العباسيين الضعفاء , وأخذت شمس الخلافة تجنح إلى المغيب بعد أن سادت فيها الفوضى والاضطراب السياسي من ناحية واهتز حبل الأمن والأمان من ناحية أخرى في حاضرة العالم الإسلامي وعاصمة الخلافة بغداد [c1]القاضي عمرو اللخمي [/c]ولقد أسلفنا أن القبائل اليمانية مثلها مثل القبائل العربية ، مضر , وربيعة وغيرهما تعرضت للاضطهاد السياسي بسبب إقصا ئهامن المسرح السياسي في الدولة العباسية من قبل المأمون الذي قرب إليه العنصر الفارسي ، فتمخض عن ذلك أن قويت شوكة الفرس وصارت لهم الكلمة النافذة والمسموعة في الدولة . وكان من يقف في طريقهم يعملون على معاقبته بأشد العقوبات وإخراجه من الحياة ، وخصوصًا من العنصر اليماني . ولكن كان هناك من تصدى لهم بقوة وجسارة ولم يخف في الله لومة لائم الذي وضع العدل نصب عينيه وهو القاضي عمرو بن حبيب ابن محمد ألعدوي الذي يعود أصول نسبه إلى قبيلة لخم اليمانية الذي ذاع صيته بعدله ونزاهته وقوته في الحق في العراق والذي تولى القضاء في خلافة عبد الله المأمون . [c1]شوكة قوية [/c]ولقد ذكرنا أن العنصر الفارسي في خلافة عبد الله المأمون صارت لهم دولة وسلطان وصولجان وكان من يقف أمام أهوائهم يسحقونه فيلقونه في غياهب السجون المظلمة البشعة وتلك أخف العقوبات أو يلقونه إلى مخالب الموت . وظهرت قوة القاضي عمرو بن حبيب اللخمي عندما أحتك به أصحاب النفوذ من الفرس في الدولة والذين ظنوا أنهم بقوتهم وسلطانهم سيرهبونه وسيخضع ويستسلم لهم أو سيكون لقمة سائغة ولكنه ظهر لهم عكس ذلك فقد كان شوكة قوية بسبب إيمانه العميق بالحق والعدل. [c1]المأمون والقاضي اللخمي [/c]على أية حال ، جاء في الرواية أن القاضي عمرو بن حبيب اللخمي حكم لصالح أحد الرعية البسطاء ضد أحد القادة الفرس ، فثارت ثائرة القادة وأصحاب المناصب العليا في الدولة على القاضي عمرو الذي تجرأ وأصدر حكمه على أحد قادتهم الكبار . ولقد رأى القادة وأصحاب النفوذ من الفرس في الدولة أن ذلك الحُكم سيضعف هيبتهم ، ويهز صورتهم أمام الرعية . وتقول الرواية أن القادة الفرس اتخذوا مع القاضي عمرو اللخمي شتى الوسائل تارة بالترغيب وتارة أخرى بالترهيب . والغريب في الأمر أن الخليفة المأمون كان يرى ويسمع ما يحدث بين القاضي العادل والقادة الفرس ولم يتدخل ليمنع تهديدهم له أو بعبارة أخرى لم يكترث عما يدور , كأن الأمر لا يعنيه وهو المفروض عليه بحكم أنه الخليفة أن يقف مع القاضي الذي يحكم بالعدل والحق بين الرعية على تباين مشاربهم الاجتماعية وأجناسهم المختلفة . [c1]المؤامرة البشعة [/c] ولكن القاضي العادل النزيه عمرو بن حبيب اللخمي رفض الانصياع لهم ولم يغير الحكم الذي أصدره على أحد قادتهم الكبار. وكان يدرك هذا القاضي الشجاع أنه لا محالة مقتول على يد هؤلاء القادة الفرس الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد , وتحكموا في رقاب العباد ورغم هذا لم يتراجع القاضي العادل القوي بالحق قيد أنملة عن حكمه ، وظل يحكم بالعدل والحق بين الرعية . وأعيت القادة وأصحاب النفوذ من الفرس الحيلة ضد القاضي العادل حبيب اللخمي , وفكروا وقرروا التخلص منه وذلك بقتله . وجاء في الرواية أن بعض كبار القادة من الفرس في الدولة دبروا له مؤامرة وهو دس السم في الطعام وفي رواية ثانية أنه قتل بخنجر مسمومًا في ظهره , ورواية أخرى تقول أن القاضي عمرو بن حبيب اللخمي في يوم من الأيام لم يظهر له أثر . [c1]ولعنهم التاريخ والناس [/c] على أية حال ، كل تلك الروايات المختلفة والمتناقضة تدل على أن النفوذ الفارسي في دولة الخلافة العباسية قد تخلص من القاضي عمرو اللخمي الذي تجرأ ووقف ضد رغباتهم وأهوائهم . وعلى الرغم من اختفاء القاضي العادل ابن حبيب اللخمي. فقد ظل الناس في بغداد ينظرون إليه بأنه رمز للعدل والعدالة بكل المعنى الواسع لهذه الكلمة , وصار اسمه ومناقبه المضيئة يتردد ويصدح بين أهل بغداد. حقيقة لقد اختفى القاضي عمرو حبيب اللخمي من الحياة ولكنه ظل في قلوب المظلومين حيًا ، أما هؤلاء القادة وأصحاب النفوذ من الفرس الذين دبروا لهم مكيدة القتل . فقد لعنهم التاريخ والناس . [c1]الشعوبية والزندقة [/c]لقد أسلفنا : أن الفرس في عهد الخليفة المأمون ثم الترك في خلافة المعتصم قد بسطوا نفوذهم في كل مكان من الدولة العباسية . وكان له أثره الخطير على مجريات الأحداث على الخريطة السياسية في الدولة بل وعلى خريطة الحياة العلمية الذي سادت فيها ملامح الثقافة الفارسية الذين كان لهم تراث ضخمً في ذلك المجال. ولكن تلك الثقافة الفارسية صارت في يوم من الأيام شؤمًا ووبالاً على الحياة السياسة في الخلافة العباسية حيث نشرت الشعوبية وغرستها في خراسان وما وراء النهر ( فرغانة ، سمرقند ، بخارى ، خوارزم ) بل وصل الأمر أن انتشرت تلك الأفكار الشعوبية القاتمة و القائمة على العصبية العمياء التي ترفع من شأن جنس على جنس آخر في عاصمة الخلافة بغداد نفسها . وهذا ما أكده الدكتور شوقي ضيف ، بقوله : " وكان هذا التحول الخطير في مقاليد الحكم وما أصبح للفرس من مكانة رفيعة في المجتمع العباسي الجديد نسبيًا في بروز نزعة الشعوبية نسبة إلى الشعوب الأعجمية ، وهي نزعة تقوم على مفاخرة تلك الشعوب ـ وفي مقدمتها الشعب الفارسي ـ للعرب مفاخرة تستمد من حضارتهم وما كان العرب فيه من بداوة وحياة خشنة غليظة " . وأطلت أيضاً الزندقة بوجهها القبيح على المجتمع العباسي مما أحدث فوضى عارمة في الأخلاق والقيم فيه . وفي العصر العباسي الثاني تكون الزندقة أكثر بشاعة وحدة من العصر العباسي الأول الذي كان يوجد فيه خلفاء عباسيون أقوياء أمثال المهد ي والهادي ، وهارون الرشيد . وهذا ما أكده الدكتور شوقي ضيف بأن موجة الزندقة كانت في العصر العباسي الثاني أكثر حدة من العصر العباسي الأول " إذ ظل الناس يُمعنون في شرب الخمر واحتساء كئوسها ، مدمنين عليها لا يرعون ولا يزدجرون ". [c1]قتل هيبة الخلافة [/c]أما فيما يتعلق بالترك فقد كانت الثقافة بالنسبة لهم لا تمثل شيء بسبب بيئتهم التي كانت أقرب من البداوة منها إلى المدنية والحضارة . وكان همهم هو السيطرة على مقاليد الأمور على الخلافة والخلفاء بشتى الوسائل والطرق وكانت أسهلها هو سفك دماء الخلفاء العباسيين . ولقد قتلوا الخليفة العباسي المتوكل وكان قتله يجسد قتل مكانة وهيبة الخلافة العباسية من ناحية ونذير شؤم للخلفاء القادمين من ناحية أخرى . وفي هذا الصدد ، يقول أحمد أمين : كان " قتل المتوكل أول حادثة اعتداءا على الخلفاء العباسيين ... ولم يكن قتل المتوكل اعتداء على المتوكل وحده بل هو قتل لسلطان كل خليفة بعده ... وكان في قتله ( أي المتوكل ) حياة الأتراك وسلطانهم ، وإنذار عام للبيت المالك ، أن من أراد أن يلي الخلافة فليذعن إذعاناً تامًا للأتراك ومن حدثته نفسه ـ من الخليفة فمن دونه ـ أن يناوئهم فليوطن نفسه على القتل " . وقتل المتوكل سنة ( 247هـ / 862 م ) على حسب رواية ابن الطقطقي في كتابه ( الفخري ) . [c1]الهوامش : [/c]محمد عبد القادر بامطرف ؛ الجامع ، الطبعة الأول 1424هـ / 2003 م ، الهيئة العامة للكتاب ـ صنعاء ـ الجمهورية اليمنية ـ . إبراهيم أحمد المقحفي ؛ معجم البلدان والقبائل اليمنية ـ الجزء الأول ـ سنة الطبعة 1422هـ / 2002م ، دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع ـ صنعاء ـ الجمهورية اليمنية . الدكتور حسين مؤنس ؛ المساجد ، 1401هـ / 1981م ، عالم المعرفة ـ الكويت ـصالح الحامد ؛ تاريخ حضرموت ، الجزء الأول ، الطبعة الثانية 1423هـ / 2002م ، مكتبة الإرشاد ـ صنعاء ـ توزيع مكتبة تريم الحديثة ـ تريم ـ حضرموت . أحمد أمين ؛ ظهر الإسلام ، الجزء الأول والثاني ، الطبعة الثالثة ، دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ لبنان ـ . الدكتور شوقي ضيف ؛ العصر الجاهلي ؛ الطبعة الثامنة ، دار المعارف . الدكتور شوقي ضيف ؛ العصر العباسي الأول ، الطبعة الثامنة ، دار المعارف .الدكتور شوقي ضيف ؛ العصر العباسي الثاني ، الطبعة الثامنة ، دار المعارف. ابن الطقطقي ؛ الفخري ، دار صادر ـ بيروت ـ . · الأزد : بفتح أوله وإسكان ثانيه وبالدال المهملة ، من أشهر قبائل اليمن ، وهم ولد الأزد بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد كهلان بن سبأ بن شجب بن يعرب بن قحطان . وبطون الأزد كثيرة منها الأوس والخزرج أنصار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنها خزاعة ، ومازن ، وبارق ، وألمع ، والَحجر ، والعتيك ، وراسب ، وغامد ، وزهران , وعك ، وغِسّان ، ودوس، رهط أبي هُريرة الدوسي رضي الله عنه وغيرهم " . المرجع : العلامة المؤرخ القاضي محمد بن أحمد الحجري اليماني ؛ مجموع بلدان اليمن وقبائلها ، المجلد الأول ، تحقيق وتصحيح ومراجعة : القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، الطبعة الأولى 1404هـ / 1984م ، منشورات وزارة الإعلام والثقافة ـ الجمهورية العربية اليمنية ـ
مسجد السمراء في العراق