مادام الحديث بلسان السلاح، ومنطق القوة، فإن الإشكالية - رغم تعقدها - تبقى في دائرة هذا السلاح. هذا السلاح الذي يعيد الإشكالية التاريخية التي ترافق امتلاك القوة، القوة التي تفوق قوة الدولة التي تحتضنها. وهذا ما رأيناه تاريخيا ؛ عندما جنّد المعتصم الأتراك بكثافة، إلى درجة أصبحوا فيها أقوى - بكثير - من قوى (الخلافة !) كلها. ومن ثم، وخضوعا لمنطق القوة، بدأ هؤلاء الجند - كما الحزب الإيراني - يفرضون قراراتهم على الدولة، ويتحكّمون في كبائر الأمور وصغائرها. وحين لا يستجيب (الخليفة) لهم، أو يتردد قليلا، كانوا يقتلونه أو يطفئوا نور عينيه بأسياخ الحديد المحماة، ويوُلّون من أرادوا مكانه. وهذا ما رأيناه في الجيش العثماني: (الانكشارية) وفي (جيش البخاري) في المغرب، وفي كل تنظيم عسكري، يحس بأنه الأقوى في مجاله الحيوي. ليس هذا المنطق خاصا بالحزب الإيراني - حتى وإن كان انتماؤه الإيديولوجي لما هو خارج لبنان، يمنحه منطقا خاصا - وإنما هو لسان السلاح ومنطق القوة. ولو أن أشد الميليشيات تسامحاً امتلكت القوة التي تفوق قوة مؤسسات المجتمع الذي يحتضنها، فإنها - حتما - ستتحدث بإيحاء هذه القوة، شعرت بذلك أم لم تشعر. إن للقوة منطقها الذي لا تستطيع أن تحيد عنه ؛ مهما كانت الإيديولوجيا التي تنتظمها وتحركها متسامحة، فكيف إذا كانت عنصرية أو طائفية. فتسامح الإيديولوجيا لا يعني تسامح القوة، حتى وإن كان يُكيّف سلوكها، وهي في طريقها للوصول إلى ما يفرضه عليها منطقها الخاص. في أي مجتمع تتباين الرؤى، وتتضارب المصالح، بين أبناء المجتمع الواحد. وحتى في حال النزاهة المطلقة التي لا وجود لها، يعتقد كل أحد أنه القادر على إنقاذ المجتمع من أزماته، والقادر على إنمائه. وطبيعي أن من يؤمن بصوابية رؤيته ؛ لا بد أن يسعى لموضعتها ؛ مهما كان رفض الآخرين لها. وكل صاحب فكرة أو رؤية، لا يعتنقها إلا لأنه يراها الأنجع، و- في حال نزاهته - يراها الأقدر على تعميم الخيرية لأبناء الوطن جميعا. ولهذا فهو يسعى لفرضها على الجميع . وحين يكون القانون - بقوة الدولة - هو السائد، والمؤسسات هي الأقوى، فإن تفعيل الفكرة يكون من خلال هذه المؤسسات، وبقدر ما تسمح به حقوق الآخرين. والجميع - مهما كانت قناعتهم بأفكارهم - يقفون خاضعين لهذا السقف القانوني، الذي يحمي الأفراد والرؤى والتحيزات من الصدام المباشر، ويحيلها إلى نوع من الجدلية التي تحفظ توازن المجتمع. عندما لا يكون هذا السقف موجوداً، أو يكون أضعف من إحدى القوى ذات الرؤى التي تطرحها كمشروع الجميع، فإن القوي - بقوة الدفع الذاتي لمنطق القوة - سيفرض رؤيته على الجميع. وهذا ما حدث في لبنان ؛ حينما لم تصبح الدولة كنظام مؤسساتي، هي المجال الذي يعمل الجميع من خلاله، ويمنع طغيان فريق على آخر، وإنما أصبحت عاجزة عن حماية نفسها، لا لضعفها الذاتي، وإنما لأن مليشيات الحزب الإيراني، مدعومة بكل قوة من إيران . الديمقراطيات الحديثة، يتم تحييدها، ويكون محظورا عليها الانتماء السياسي ؛ لأن دخولها في النزاع السياسي، ولو عبر آلية ديمقراطية، سيلغي الدولة من أساسها، فضلا عن إلغاء طبيعتها الديمقراطية التي لا وجود لها بوجود المؤسسة العسكرية ؛ كفاعل في المجال المدني . انتهاء الأزمة اللبنانية الحالية باتفاق الدولة، لا يعني أنه تم نزع الفتيل، وإنما يعني أن عود الثقاب أبعد عن هذا الفتيل لفترة ما. أزمة لبنان، لم تكن في صراع الأيام الأخيرة، واحتلال الحزب الإيراني لبيروت، وإنما كانت - لسنوات - في الحزب الإيراني، من حيث وجوده، كحزب مسلح، وكحزب يعلن أن انتماءه التنظيمي إلى ما هو خارج لبنان، إلى إيران، حيث: ولاية الفقيه، ذلك الفقيه الذي يعتقد الحزب أنه هو الوالي الشرعي، الذي يفرض عليه سلوكه الميداني في لبنان . لا حل في لبنان، إلا بأن يكون لبنان أقوى من جميع طوائفه، وأن يكون السلاح الشرعي هو سلاح الدولة اللبنانية. وهذا ما صرّح به سماحة السيد: علي الأمين - وهو الرمز الشيعي المخلص، الذي لقي من الحزب الإيراني ما لقي من اضطهاد ؛ جراء معارضته الصريحة لهيمنة سلاح غير سلاح الدولة -، في مقابلة معه على قناة: الجزيرة، حيث أصر على أن الجميع - دون استثناء - يجب أن يكونوا تحت قانون الدولة، وأن الدولة هي مرجعية الجميع. ما أكد عليه السيد علي الأمين، هو أن كل سلاح بيد غير الدولة اللبنانية ، فهو سلاح غير شرعي ؛ مهما كانت مبررات هذا السلاح، هذا أمر واضح جدا، ومن بدهيات منطق الدولة القطرية الحديثة، وقابل للتفعيل، باستثناء الحزب الإيراني الذي يصر على أنه لا بد أن يستثنى من بين الجميع، ويبقى دولة داخل الدولة اللبنانية، بل ويريد أن يبقى أقوى من كل لبنان. أزمة لبنان مع الحزب الإيراني - الذي هو سبب كل هذا الصداع الذي امتد لعقد ونصف - تكمن في أمرين: الأول: سلاح الحزب. وهو مصدر الأزمات كلها. فبدون هذا السلاح، لا أزمات تذكر، أو أن الأزمات ستبقى في حدودها الدنيا، التي لا تهدد سلامة الدولة المدنية. لولا هذا السلاح لم يحدث ما حدث من احتلال بيروت، ولكان خلاف الحزب الإيراني مع غيره، كخلاف جميع الفرقاء في لبنان مع بعضهم. بل ولو وصل الأمر للصراع، فإنه سيبقى صراعا سياسيا، لا عسكريا ؛ يتم من خلال المؤسسات التنظيمية للعمل السياسي. ولهذا، فإن كل حل يتجاهل أهمية نزع هذا السلاح بالكامل، يبقى حل هدنة مؤقتة، أو تأجيلاً - قصير الأمد - لحتمية الصراع . الثاني: علاقة الانتماء الكامل لإيران. فخضوع الحزب لولاية الفقيه الإيرانية، ليس مجرد انتماء عاطفي، أو توافق طائفي، يحدث في كثير من التيارات الأصولية الراهنة، وإنما هي ولاية بيعة على السمع والطاعة، أي ولاية تنظيمية، تعني بكل وضوح أن طاعة الحزب ليست للسلطة المدنية في لبنان، وإنما هي للولي الفقيه القابع في طهران. وهذا أمر أكبر من تنازع الولاءات، فلا تنازع هنا في الولاء، بل الولاء كله - بفعل ما تفرضه طاعة الولي الفقيه - لإيران . ولعله من الواضح أن هذين الأمرين متلازمان. فسلاح الحزب الإيراني لم يكن ليوجد ؛ لولا البيعة للفقيه، الذي سمح بكل هذا الدعم المادي والعسكري. ومن جهة أخرى، لا معنى لبيعة الفقيه من قبل الحزب، لو لم يكن مسلحا، قادرا على فرض القرار الإيراني في لبنان . وهنا تأتي إشكالية التمدد الإيراني الأخطبوطي، الذي يريد أن يهيمن على المنطقة، لا بقوة الفكر، ولا بنشر الإيديولوجيا - فهذا لا بأس به في سياقه - وإنما بإنشاء التنظيمات المسلحة، التي تتجاوز الارتباط الفكري بإيران، إلى الارتباط التنظيمي، الذي يخترق ولاءات الأوطان لصالح إيران، خاصة وأن إيران ليست البلد الذي يصدر التسامح، وينشر ثقافة الاعتدال، وإنما - وبحكم ما كشفت عنه السنوات القليلة الماضية - ينشر ثقافة الهيمنة من جانب واحد ؛ كسعي عنصري لممارسة نوع من الاحتلال . عندما قامت الثورة الإيرانية نهاية السبعينيات، كانت في ظاهرها ثورة على الاستبداد، لصالح القوى الشعبية، بمبررات دينية، يمكن أن تتماهى معها معظم الشرائح الاجتماعية الإيرانية. ومع أن مقدمة الثورة كانت راديكالية في رؤيتها لتفعيل الديني في المدني، إلا أن كثيرين راهنوا على ما بعد السنوات الأولى للثورة. لقد توقعوا أن ينتهي الإرهاب الديني بصورة تدريجية، لصالح المؤسسات المدنية، التي ستتكفل بتحقيق النماء الداخلي، بعيدا عن الدخول في أزمات إقليمية، تستنزف طاقات الوطن الواعد. ورغم تأخر الإصلاحات، التي ينتظرها المدني من الديني، إلا أن الرهان كان على التحول البطيء ؛ لأكثر من اعتبار مقبول . لقد كنت إلى ما قبل أربع سنوات، أعتقد أن إيران يمكن أن تكون بلداً يحفظ توازن القوى، بل وتوازن الإيديولوجيات في الشرق الأوسط. خاصة وأن مرحلة خاتمي السابقة على ذلك - بكل ما فيها من نفس أصولي - كانت تعد بتفاهم الثقافات وتعايشها، لا تناحرها. لقد كنت أنظر إلى الصراع في الداخل الإيراني، بين الإصلاحيين والمحافظين، وأراهن على انتصار التيار الإصلاحي، وأنه سيكون معززا بقوة الانفتاح العولمي. لكن، بدا واضحا أن كل هذا الصراع، أو التجاذب الديمقراطي، كان يجري تحت رقابة العمامة، وأنها - رغم كل شيء - هي التي تحدد - في نهاية الأمر - بوصلة الاتجاه. قبل سبع سنوات أو أكثر، التقيت في كندا، بمجموعة من الليبراليين الإيرانيين. لقد كانوا في حالة من الحنق الشديد على الثورة وما بعدها، جراء حالة التزمت الأصولي التي أصبحت هي هوية دولة بأكملها. وبما أنني أقرأ لخاتمي، وأراقب محاولاته الإصلاحية أنذاك، فقد أكدت لهم على أن خاتمي سيحدث تحولا نوعيا في طبيعة الجمهورية الإيرانية، وأن على الليبراليين أن يقفوا معه، حتى يُحدِث ولو قليلا من الانفراج لغيره من قوى الإصلاح. إحدى الإيرانيات، ممن شهد هذا اللقاء، ردت على تأكيدي هذا، بتأكيد آخر مضاد، أكدت فيه - بصورة استعارية لخاتمي ؛ لا أستسيغ ذكرها - أن القرار في إيران، قرار عمائم أصولية، لا تستطيع العمامة شبه الليبرالية لخاتمي - رغم تحفظها الشديد - أن تحدث في جبهتها أي اختراق نوعي يستحق التقدير . للأسف الشديد، لقد صدق حدسها، وخاب حدسي. فتطور الأوضاع الإيرانية أدى إلى بروز روح (نازية)، بل وخرافية، هي أشد عنفا وهياجا من فترات الثورة الأولى. وبقدر ما تعد هذه الروح ب (النصر الإلهي) للمتماهي معها إيديولوجيا، بقدر ما يعي المراقب الآخر، أنها بداية النهاية للحلم الإيراني، وأن إيران - حيث كانت بداياتها تعد بتعملق وطن كبير، في اتجاه النماء - ستصبح وطن شعارات جوفاء، يقبع على هوامش دول العالم الثالث، العالم النائم . إمكانات إيران ؛ فيما لو تم استغلالها، كانت ستمكنها من بناء وطن، ينافس - بحكم موقعه وثروته وتاريخه وجدية إنسانه - دول الشرق، التي حققت معجزات في الإنجاز والبناء. لكن، من الواضح أن ارتهان كل ذلك، لصالح خطاب أصولي متزمت، لا زال يفكر بواسطة أدبيات إيديولوجية خرافية تجاوزها التاريخ، وينتشي بذكرى إمبراطوريات غابرة، يسعى لموضعتها في الراهن، أدى إلى إرساء قيم التخلف في الواقع الإيراني، ومحاولة تصدير الفائض منها للخارج القريب. إن هذا التجنيد الإيديولوجي، وفق منطق الصراع ؛ جعل إيران مصدر صداع في المنطقة بأكملها، تجر جيرانها إلى ميادين الصراع، وبؤر التخلف، بدل أن تكون مركز إشعاع حضاري، يسعى الجميع للتفاعل - حضاريا - معه، وعلى كافة المستويات. كم كنا سنكون سعداء بإيران، لو كان الفضاء الإيراني - بكل مكوناته - مجالاً لفاعلية حضارية، تنافس - على الأقل - دول الشرق الأقصى في مضمار التقدم ؟، ماذا لو أن الخليج لم يصبح فارسيا أو عربيا، وإنما أصبح بحيرة لمنطقة تتنافس في مضمار تحقيق أعلى درجات النماء، وإرساء قيم الإنسان؟. هذه ليست مجرد أماني حالمة. فالتاريخ والجغرافيا والدين والامتزاج الجنسي، كلها تجعل من إيران ومنطقة الشرق العربي في سياق تاريخي واحد، بحيث تجد نفسها أمام حتمية ضرورة التعاون والتواصل الوثيق. لكن، ومهما كانت الآمال، لا يمكن أن يتحقق أي نوع من التواصل الإيجابي ؛ مع طرف يضع نفسه موضع الخطر بالنسبة للطرف الآخر المقابل. وللأسف، فالخطر الإيراني لم يعد دعوى نظرية، يختلف الباحثون على توقّع هويتها ومساراتها، وإنما أصبح واقعا متعينا، تتعامل معه جماهير الشرق العربي على نحو مباشر وحاد، على نحو يؤكد لها أنها فريسة مشروع عنصري متعصب، ورهينة إيديولوجيا لا ترحم الآخرين . إن التدخل الإيراني السافر في العراق، حيث أدى هذا التدخل المفضوح إلى تفاقم الوضع، وتناحر الطوائف، حتى داخل الطائفة الواحدة، وتأخر قيام دولة مركزية في العراق، إضافة إلى المحاولة الأخيرة لاحتلال لبنان على يد الحزب المنتدب، كل هذا جعلني أعيد النظر في رهاني على تحولات الإصلاح في إيران. لقد بدا واضحا أن الأصولية هي الفاعل الحاسم، وأن أصوات: شريعت سنكلجي، وأحمد كسراوي، وعلي أكبر زاده، قد تم وأدها بقوة تعصب الملالي، وأن الانفتاح الجزئي، ليس إلا مساحيق مغشوشة لتجميل صورة النظام . لم يعد ثمة من فرق - من أي نوع - بين نموذج القاعدة الإرهابي، ونموذج الحزب الإيراني في لبنان، أو نموذج الزرقاوي المنتمي للقاعدة في العراق. الفرق، ربما، في القدرة على ضبط النفس بين الحين والآخر، لاعتبارات ومصالح تسلطية فحسب، تملى عليه من على بعد آلاف الأميال. لا تخدع بحجم الإرهاب الظاهري، فلا فرق بين كل هؤلاء إلا في طول النفس، والقدرة على الخداع، واللعب على مساحات المسموح به من التحالف الظرفي. أما بقية المفردات، فهي ذاتها في كلا الحزبين الأصوليين. وكون الحزب الإيراني في لبنان مدعوماً من دولة، لا يعني أنه خارج منطق العصابات، الذي يمثل هوية القاعدة، المدعومة من عصابات، لا دول. في إيران دولة، وتخضع - راغمة - لمنطق الدولة. وهذه طبيعة الدول التي تربطها بالعالم بعض العلاقات المدنية، ولو في حدودها الدنيا. لكن إيران في لبنان، تنقض منطق الدولة هذا، لصالح منطق العصابات، التي ترى أنها أجدى لها من منطق الدول، فتضحي بلبنان الدولة، من أجل إيران الدولة. ولبنان اليوم بين خيارين: خيار الدولة المدنية، أو خيار حكم المليشيات والعصابات. وإيران بعصابتها في لبنان، تفضل حكم العصابة على حكم الدولة، وكأنها لا تستطيع أن تصبح دولة في إيران، إلا بفرض حالة (اللادولة) في لبنان .*عن / جريدة “الرياض” السعودية
اعضاء حزب الله في لبنان