مع الأحداث
الفتوى الدينية التي تتدخل في مسألة سياسية خلافية ومتغيرة تستفز الأعصاب.غالب إن لم يكن كل الفتاوى الدينية المعاصرة التي تدخلت في السياسة عكست قصر نظر من أصدرها, وجهله بالسياسة أولاً وربما بالدين ثانياً. انقسمت الفتوى الدينية بحسب الانقسام السياسي الذي حل بالعرب: بشكل أو بآخر أفتى رجال الدين بحسب الموقف السياسي للبلد الذي يعيشون فيه وللحكومة التي تقود ذلك البلد. في الشأن الفلسطيني تهب فتاوى دينية تتدخل في السياسة عند كل انعطافة سياسية. في سنة 1996 وعندما نُظمت أول انتخابات فلسطينية للمجلس التشريعي أصدرت جهات عدة في فلسطين والأردن مقربة من الإسلاميين وحركة “حماس” (ومنها رابطة علماء فلسطين) فتاوى تحرم المشاركة في تلك الانتخابات. يومها لم تترك تلك الفتاوى سبباً إلا وأوردته في تبرير وتعزيز ذلك التحريم. بعد ذلك بعشر سنوات كانت “حماس” تخوض نفس تلك الانتخابات وهذه المرة مدعومة بفتاوى جديدة تجيز هذا العمل السياسي الانتخابي وتحض عليه.سنة 1995 أصدرت “حماس” بياناً شهيراً وتصريحات مرافقة طالبت فيها بأن يُتاح للفلسطينيين أن يعبِّروا عن رأيهم بشأن مستقبلهم عبر استفتاء حر ونزيه. وقالت إنها سوف تحترم رغبة الشعب الفلسطيني مهما كانت نتيجة الاستفتاء. قبل ذلك بعدة سنوات كان الشيخ أحمد ياسين يكرر ذلك وبصيغة أكثر وضوحاً وتحدياً, قائلاً في مقابلة صحفية مشهورة إنه وحركته سوف يحترمان رغبة وإرادة الشعب الفلسطيني حتى لو انتخب الحزب الشيوعي ليقود فلسطين. واليوم تأتي فتوى رابطة علماء فلسطين لـ”تحرِّم” الاستفتاء. هذا الإقحام الفج والقسري للفتوى الدينية في شأن سياسي بحت يثير الاستغراب والأعصاب, لكن الأسباب المرافقة للتحريم تضاعف من ذلك كله. فقد جاء في فتوى الرابطة بحسب النص الموجود على موقعها الإلكتروني “إن الاستفتاء في أصله مبدأ لا يخالف أحكام التشريع الإسلامي فيما يجوز فيه الاستفتاء... (لكن) الاستفتاء إذا تعلق بحكم شرعي ثابت كما هو الحال في فلسطين في حق العودة وتقرير المصير, أو التنازل عن جزء من أرض فلسطين أو عن مقدس من المقدسات الإسلامية, أو التنسيق مع العدو لضرب المقاومة لا يجوز... (و)إن عرض هذه الحقوق وأمثالها على الاستفتاء يمثل خيانة لله وللرسول وللمؤمنين وللوطن». تثير هذه الفتوى المتسرِّعة والمقلقة عدة قضايا في آن واحد. الأولى عن مدى صدق الإسلاميين عموماً إزاء مسألة الديمقراطية التي لا تختلف في جوهرها عن الاستفتاء. ففي الحالتين يُناط بالشعب, ممثليه في حالة البرلمان, وأفراده في حالة الاستفتاء, اتخاذ القرار الذي يرونه مناسباً وفق مبدأ التصويت والأغلبية. وإذا تقدم حزب ديني باستثناء مجموعة من القضايا خاصة السياسية وخلع عليها قدسية دينية وطالب بحظر إخضاعها للعملية الديمقراطية فإن في ذلك تفريغا لكل الخيار الديمقراطي من معناه. فذلك يتيح أمرين كليهما تدميري لأصل الاجتماع الديمقراطي. الأول هو منح حق “الوصاية” على الشعب والتكلم باسمه رغماً عنه لطرف من الأطراف السياسية حتى لو كان هذا الطرف حزباً دينياً ويزعم تمثيل الإسلام. والأمر الثاني يوفر هذا الحق بطبيعة الحال للطرف المعني تصنيف القضايا بحسب هواه وضم ما يشاء منها لتصنيف “المقدس”, وفي التجربة التاريخية الإنسانية يمثل هذا الأمر كارثة اجتماعية وسياسية حيث يتغوَّل “المقدس” بسرعة فائقة على الفضاء العام وينتهي الاجتماع السياسي إلى ثيوقراطية دينية ليس إلا. فتوى رابطة علماء فلسطين المذكورة هي نموذج بارع (ومخيف) لهذا التدهور. فالفتوى اعتبرت عدداً من القضايا السياسية “ثوابت شرعية دينية” لا يمكن الحديث عنها, ومن هذه القضايا “حق العودة” و”تقرير المصير” و”التنازل عن جزء من الأرض”... الخ. لأيٍّ كان أن يصف هذه القضايا بأنها ثوابت وطنية أو سياسية أو حقوق لا يمكن التنازل عنها, لكن أن يصفها بأنها “ثوابت شرعية” فهذا فيه استسهال, حتى لا نقول استسخاف, بالدين والسياسة معاً. هل هناك نص قرآني أو حديث نبوي في “حق العودة”؟ وإن كان الأمر كذلك فما هو حكم الفلسطيني اللاجئ, مثلاً, الذي لا يريد العودة: هل هو إقامة الحد, أم الجلد, أم الرجم؟ إذا كان “حق العودة” مقدساً دينياً فإن ممارسته بتحقيق العودة حتى على المستوى الفردي هي مقدس ديني بالضرورة والبداهة, لأن ممارسة ذلك الحق بـ”عدم العودة” تناقض عقلاً جوهر الفتوى ومرادها. وكذلك الأمر بالنسبة لـ”تقرير المصير” الذي هو على حد علم الجميع ليس فيه نص مقدس. لكن الأدهى من ذلك أن الاستفتاء من ناحية سياسية وإجرائية هو أفضل طريقة للوصول إلى جوهر “تقرير المصير”. فهذا المفهوم الذي ربما لم يفهمه “المشرِّع” على حقيقته يعني منح الناس “حق تقرير مصيرهم بأنفسهم” وليس عبر “الأوصياء” عليهم. بل يمكن القول إن الأمر على عكس ما أوردته الفتوى بالضبط ذلك أن حرمان الناس من “الاستفتاء” هو بالضبط ضد تقرير المصير.ثم من ناحية أخرى, براغماتية ومصلحية بحتة هذه المرة, ألم تتعلم “رابطة علماء فلسطين” من دروس فتاوى الانتخابات التشريعية سنة 1996 وسنة 2006؟ ماذا لو تقرر, جدلاً, تنظيم استفتاء بعد سنة أو خمس أو عشر سنوات وشاركت فيه “حماس” بقوة وتصميم كما فعلت في الانتخابات الأخيرة, عندها ماذا سيكون موقف “الرابطة وعلمائها”؟ عندها إما أن “حماس” ستكون متورطة في ممارسة “محرمة شرعاً” ومعها كل أنصارها وكل الشعب الفلسطيني بطبيعة الحال, وإما أن تكون “الرابطة” وفتاواها ليس لها معنى وفاقدة للصدقية. إذا عدنا إلى الوراء بعض الشيء أيضاً سنتذكر فتاوى دينية سياسية تثير الضحك والسخرية وتنتهي بفقدان الصدقية التامة. ففي سنوات الانتفاضة الأولى المتأخرة أصدر الألباني فتوى تشجع الفلسطينيين على مغادرة وطنهم حفاظاً على حياتهم من “بطش اليهود” ولأنهم ما عادوا يأمنون هناك على أنفسهم ودينهم. وقبل ذلك كان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات قد زار القدس عام 1977 ووقع على معاهدة كامب ديفيد بعد ذلك تحفّه فتاوى الأزهر من جهة, وتكفره فتاوى الإسلاميين من جهة أخرى. وكلا الطرفين فقد صدقيته. ومن ناحية مصلحية ثانية فإن الفتوى السياسية لا تقيّد إلا من أصدرها وتعمل على الحد من حركته السياسية ومناورته, لأن هذا الطرف هو الوحيد الذي يلتزم بها. ولنا, مرة أخرى, في مثال الانتخابات الفلسطينية سنة 1996 شاهد غني, حين لم يلتفت أحد لتلك الفتوى إلا “حماس” بطبيعة الحال التي كانت قريبة منها. ومعنى ذلك أن الفتوى الدينية في أمر سياسي متغير هي كمن يصفع نفسه ليس إلا: يضع قيوداً على نفسه في مسألة متغيرة تحرجه عندما يريد تغيير موقفه, وتفقد فكرة “الفتوى” من أي صدقية معينة, وتنزع الاحترام عن رجال الدين الذين يصدرونها. وعليه فخلاصة الأمر هنا نداء إلى السادة العلماء ورجال الدين وروابطهم وجمعياتهم: كفوا فتاواكم الدينية عن السياسة احتراماً للدين والناس العاديين وإنصافاً للسياسة والسياسيين.* عن/ صحيفة “الإتحاد” الإماراتية