محمود كرم في مثل هذه الأيام من شهر محرم من كل عام تحيي الطائفة الشيعية ذكرى عاشوراء عبر جملة من الشعائر والطقوس الكرنفالية الموغلة في إظهار الحزن والبكاء على الحسين نجل الإمام علي رابع الخلفاء بعد الرسول ( ص ) وتتمثل تلك الشعائر في إقامة مجالس العزاء ولبس السواد ولطم الصدور وفي بعض البلدان يتم ضرب الرؤوس بالسيوف واسالة الدم الغزير من مقدمة الرأس انتصاراً له من قاتليه بينما هم قاتلوه الحاليون..!!. بدايةً لا أنطلق في هذا الموضوع من خلفية طائفية مقيتة حتى لا يفرح الطائفيون من الطرف المناهض للطائفة الشيعية والذين قد يجدون في هذا الموضوع زاداً لهم في الصراع الطائفي المحتدم منذ مئات السنين بينهم وبين ( أخوتهم ) في الدين من الشيعة وكذلك لا أريد من الشيعة أن يفرحوا أو يحزنوا لأنهم ربما يضعونني في خانة ( النواصب) الجدد بسبب موضوعي هذا وأقول لهم أنني شخص ينتمي إلى عائلة شيعية معروفة بولائها الشديد لآل البيت ولذكرى عاشوراء الحسين. أكتب هذا الموضوع انطلاقاً من إيماني العميق بأن الحسين ليس ملكاً للشيعة أو لأي طائفة دينية أخرى وكنتُ وما زلتُ أجد في الحسين رمزاً إنسانياً لمقاومة الاستبداد ومناصراً للقيم الإنسانية والعدالة والكرامة وكل ما له علاقة بالحرية ورفض الظلم ولكني في مقابل ذلك لا علاقة لي بالطريقة السطحية والاستعراضية التي يتم فيها التداول مع قضية الإمام الحسين عند الكثيرين من الطائفة الشيعية. اختزال الحسين الرمز في مجرد هلوسات من اللطم والبكاء والسواد وضرب الرؤوس والتركيز على هذه الجوانب العاطفية تفريغٌ للجوانب المضيئة والمضامين الإنسانية في قضية الإمام الحسين .. البعض من الشيعة يعتقد في عقله الباطني وربما في ثقافته المذهبية أن تعاطفه مع الحسين لأنه نجل الإمام علي الذي اغتصبت منه الخلافة في العهود الأولى بعد وفاة النبي ( ص ) وليس تعاطفه مع قضية الحسين بسبب أنه يمثل رمزاً إنسانياً ضد كل أشكال الظلم والقهر والاستبداد حينما رفض مبايعة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية ، وقد تشكلت هذه الثقافة التي حشرت الحسين قسراً في زاوية ضيقة ورؤية قاصرة من خلال بعض الخطب التي يتم تداولها بسطحية وقشرية من على المنابر الحسينية في شهر محرم .. وكذلك تشكلت ثقافة في المعتقد الشيعي تجد أن الحسين ذهبَ إلى حتفه بأمر من الله عندما يرددون مقولته التي ينسبونها له ( شاء الله أن يراني قتيلاً ) ولا نعرف ما الحكمة من أن يرسل الله إنساناً ما إلى حتفه لمجرد أن يراه قتيلاً ومنزوعاً من إرادته الحرة في تنفيذ ما يراه صواباً..!! وهذا الأمر يجرنا إلى الحديث الذي يعتقد به البعض من الشيعة من حيث أن الأمور جرت في واقعة كربلاء كما أراد لها الله وبالتالي تجريد الحسين من إرادته وحريته في رفض مبايعة يزيد وكأن ما قامَ به الحسين لا يدخل ضمن المقاييس البشرية التي يجب أن تكون مثالاً يحتذى وفي هذا الصدد يقول المفكر الإيراني ( صالح نجف آبادي ) : »علينا ان نقيّم ما يقوم به الإمام وفق الأسس والمعايير الطبيعية والاعتيادية حتى يكون قدوة لنا نقتدي به، ولكن عندما نقيم هذه الأعمال على أسس ومعايير غير طبيعية فإنها لن تكون لنا قدوة، بل يكون الأمر إعجازاً يخرج عن دائرة الرغبات الاجتماعية والأحداث الطبيعية فلا يمكن لنا تحقيق ذلك ولا يمكن أن يكون هذا العمل نموذجا نقتدي به«. لذلك أقول أن اسباغ الأمر الإلهي على تصرف الحسين ينزع عنه بشريته التي تستند على ارادته الحرة واختياره السليم في الحياة ويضعه في المقاييس الغيبية التي لا دخل له فيها ومعها يستحيل أن يغدو قدوة في عمله البطولي الرافض لسلطة الحاكم الجائر .. وعودة إلى مظاهر السطحية في تناول قضية الحسين التي نجدها تستعر بمسلكيات بعيدة عن المنطق والعقلانية عبر جملة من الشعائر الحسينية الموغلة في تعذيب الجسد وتغذية المشاعر العاطفية والتعويل عليها في تجديد ذكرى عاشوراء .. ولا أدري ما علاقة أن نحيي ذكرى الحسين من خلال ضرب السلاسل والسيوف ولطم الصدور والمبالغة والغلو في إظهار هذه الطقوس. والغريب إننا نسمع من الجموع التي تحتشد في مناسبة عاشوراء الصيحات التي تنطلق بقوة وتهتف بالفداء للحسين ولا أدري أي حسين بالضبط يقصدون ، هل هو حسين المباديء الرفيعة الذي آمن بالحريات والكرامة وتحرير الذات من الخزعبلات والأوهام وبناء الإنسان الحر. أم حسين اللطم والبكاء والسواد والتطبير ، ووجدت بعض الجماعات من الشيعة فرصة مناسبة للترويج لبضاعتهم من الشعارات التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بجسد الحسين المدمى وبرأسه الشريف الذي رفعه الظلمة فوق الحراب وطافوا به في أكثر من مدينة ولا علاقة لها بالقيم التي نادى بها الحسين فوق تراب كربلاء ، وبعضهم أخذ يستغل الحسين للترويج لأجندته السياسية وتوظيفه عمداً في معاركه السياسية مع قوى الصهيونية والامبريالية وأتذكر في هذا الصدد الدعوة التي وجهها قائد حزب الله اللبناني ( حسن نصر الله) للشيعة العراقيين في مناسبة عاشوراء قبل عامين لمواجهة القوات الأمريكية هناك في استغلال سياسي لذكرى الحسين الذي يأتي من أعمق نقطة في الوجع الإنساني وقد نما إلى سمعي أن بعض الخطباء في الكويت هذا العام فتحوا ( المزاد ) على الحسين بالقضية الدنمركية التي تزامن حدوثها مع دخول شهر محرم. وذهبت بعض المفاهيم الثقافية التي يتم تكرارها كل عام من شهر محرم من على المنابر ويتزعمها مجموعة من الخطباء البعيدين عن جوهر قضية الحسين والتفكير فقط في التكسب المادي من واقعته المأساوية من خلال التركيز فقط على البكائيات واذكاء نار العاطفة التي تأخذ من وقت المحاضرة الكثير إلى تجذير مفهوم ( المذهبية ) الضيقة في فكر الشيعة حينما يتم اضفاء الصبغة المذهبية قسراً على الحسين وجعله محصوراً في هذه الزاوية الضيقة. وإلى اليوم تطرح حادثة كربلاء في معظم الحسينيات والمنتديات وفق نظرة ( مذهبية ) وغارقة في الجوانب العاطفية الجياشة بعيدة عن القيم الإنسانية العظيمة التي ناضل الحسين في الدفاع عنها ويتم الحديث عنها ( اسطورياً ) ووفق المقاييس الغيبية البعيدة عن منطق العقل والتي يجب أن تكون بعيدة في مفهومهم عن إرادة الإنسان وقراره الحر ..!!. ولا ندري لماذا لا يتم استخلاص قيم التسامح من الحسين في معركته ضد أعدائه والذين هم في الأساس أعداء الحرية والحياة اليوم حينما تكالبوا على قتله وتمزيق جسده الشريف حينما هتف في أرض كربلاء في وجه المتربصين بقتله فقال لهم : أنني أأسف على حالكم لأنكم ستدخلون النار بسببي ، فلم يلجأ الحسين للتشفي من أعدائه ولم يدعُ عليهم بالنار والهلاك بل كان يتمنى لهم الخير ويحزن على حالهم وهو تحت حرابهم وسيوفهم ، بينما تصورهُ بعض الأدبيات الحسينية المنبرية على أنه قد أخذ بثأر جده وأبيه عبر السيف والقتال .. الحسين ذاكرة محمومة بتفاصيل انتصار الإنسانية على الاستبداد وقمع السلطات وهي بذلك قد تجاوزت الماضي وسكنت الحاضر لتستوطن المستقبل ومن المؤسف جداً أن يتم حصره في الخرافات والغيبيات والأسطرة والمزايدات السياسية والسواد واللطم وضرب الرؤوس بالسيوف . كاتب كويتي
الحسين في المزاد العاطفي والأسطوري
أخبار متعلقة