المدنيون والبنى التحتية أول ضحايا حروب الاستنزاف
بيروت/ وكالات:في ظل عدم تكافؤ القوى ضمن "المواجهة المفتوحة" بين الجيش النظامي الإسرائيلي وبين حزب الله اللبناني, يعتمد الأخير "حرب العصابات " أحد أشكال حرب الاستنزاف التي تخللت الصراع العربي الاسرائيلي في جبهات عدة. وقال المؤرخ الدكتور مصطفى كبها مؤلف كتاب "حرب الاستنزاف" إن المصطلح يعني مهاجمة طرف معين طرفا آخر لإنهاك قواه وإجباره على قبول شروط معينة لحسم الصراع. ولفت إلى أن التسمية استحدثت إبان الحرب العالمية الأولى, حين أسمى قائد أركان الجيش الألماني فولكنهاين خطته للنيل من الجيش الفرنسي في معركة فردان "بالاستنزاف"، مستعرضا أهدافها ومواصفاتها بوثيقة ليلة عيد الميلاد بعد أن كتبها ليلة العيد عام1915م.وقال كبها إن طرفي حرب الاستنزاف يسعيان إلى استهداف المواقع العسكرية الثابتة وضرب الاقتصاد والموارد البشرية والبنى التحتية كما تفعل إسرائيل في لبنان "كي يصرخ أولا"، في حين يسعى حزب الله إلى إيلام الإسرائيليين بالمساس بالموارد البشرية كمقدمة للمس القدرة على الردع. ونوه بأنه في مثل هذه الحرب يتعرض الطرفان المتنازعان إلى استنزاف متبادل، ويراهن كل منهما على قدرته على التحمل مقابل انكسار الطرف الآخر في لعبة "عض الأصابع".وشهد التاريخ الحديث كثيرا من أشكال حرب الاستنزاف, بعضها بين العرب وإسرائيل بدءا من حرب الفدائيين التي خاضتها مصر ضد القوات الاسرائيلية انطلاقا من قطاع غزة بين عامي 1955 و1956، حين شن الفدائيون بقيادة العقيد مصطفى حافظ عمليات كر وفر في "حرب استنزاف غير معلنة أدرك الزعيم جمال عبد الناصر أهميتها وفاعليتها". أما حرب الاستنزاف المصرية المعلنة فأعقبت حرب يونيو وأسسها عبد الناصر على إستراتيجية "محو آثار العدوان" على امتداد ثلاث سنوات، مستندا إلى حرب غير تقليدية -اصطلح على تسميتها بحرب التحرير الشعبية- بثلاث مراحل: الصمود والردع والتحرير. وفي المرحلة الأولى تمكن قارب صواريخ مصري من إغراق مدمرة "إيلات" الإسرائيلية يوم 27 أكتوبر 1967 وقصفت التحصينات الإسرائيلية في الجانب الشرقي للقناة في سبتمبر 1968, وردت إسرائيل باستنزاف مضاد بغارات على العمق المصري وهدم مدن القناة كبور سعيد والإسماعيلية ودفع أهاليها إلى النزوح صوب القاهرة للضغط على النظام, محولة طائراتها إلى مدفعية محلقة بين يوليو 1969 وأبريل 1970، كما يتكرر حاليا في بيروت.وأشار كبها إلى أن الفصائل الفلسطينية هي الأخرى واصلت حرب الاستنزاف بعد هدوء الجبهة المصرية، حين غارت على منطقة الأغوار واستهدفت مدينة بيسان بعد النجاح الذي حققته في معركة الكرامة في مارس 1968. وقال إنه في ظل التفوق العسكري الإسرائيلي -خاصة بسلاح الجو والتقنيات القتالية المتقدمة- تبقى حرب الاستنزاف أكثر أشكال الحرب فعالية وأقدرها على تقليص هذا التفوق باتباع طرق الكر والفر. وبما أن هذه الحرب تتطلب حاضنة شعبية مؤيدة فإن مردودها غالبا ما يكون كارثيا على المدنيين والبنى التحتية بشكل يجعل المفكرين باستخدامها يحسبون لذلك ألف حساب. وتمثل قدرة مقاتلي حزب الله على التواري عن الأنظار، إحدى أهم ميزاتهم التي تجعلهم بعيدي المنال بالنسبة لإسرائيل، هذا عدا هالة الاحترام المشوب بالهيبة والرهبة التي تجعل سكان المناطق الجنوبية في لبنان يلزمون التكتم الشديد.ويقول تيمور غوكسيل الأستاذ بالجامعة الأميركية في بيروت بعد أن ظل لفترة طويلة المتحدث باسم قوة الطوارئ الدولية في لبنان ومستشارها، إن أسلوب مقاتلي الحزب يقوم على عدم إظهار أنفسهم، وأضاف "ليسوا بحاجة إلى بنى قيادية أو مقر عام، الكل يعرف مهمته وهم يعملون في مجموعات صغيرة، ويمكنهم التواري بشكل سريع".ولا يمكن مشاهدة أي مسلح في الشوارع أو في البساتين، أو العثور على ناطق باسم حزب الله للرد على أسئلة الصحفيين أو قادة محليين يعترفون بانتمائهم إلى الحزب.وحدها أعلام صفراء تحمل شعار الحزب وصور "شهداء" سقطوا في القتال تدل على وجود حزب الله، والذين قرروا البقاء في القرى الجنوبية بالرغم من كثافة القصف يشددون على أن حزب الله "في مكان آخر". وإن كان الهجوم الإسرائيلي دفع حزب الله إلى العمل السري، فإنه يسيطر بتكتم على مئات الآلاف من مناصريه الذين نجح في كسب تأييدهم على مر السنين من خلال ما يقدمه من خدمات مثل العيادات الطبية والمدارس والمساكن الرخيصة.وإن كان حزب الله يجيد التواري، فإنه يعرف كيف يظهر عند الضرورة كما يشهد على ذلك صحفي غربي أمضى عدة أيام يحقق عن الحزب في مدينة صور الساحلية والبلدات المحيطة بها بدون التوصل إلى نتيجة.وحين يسأل علي محمد (56 سنة) بائع البوظة وسط صور عن حزب الله يرفع كتفيه متعجبا، ويقول "إننا لا نراهم حتى في زمن السلم، إنهم جزء من السكان، لا نعرف من ينتمي إلى حزب الله ومن لا ينتمي إليه، ربما يكون أنت أو أنا".[c1] ميزان الخسائر العسكرية [/c]يؤكد اعتراف رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بشراسة مقاتلي حزب الله، وإعلان قائد المنطقة الشمالية العسكرية الجنرال أودي آدم بأن العملية العسكرية الحالية ضد لبنان قد تمتد لأسابيع، تفسير المحللين العسكريين بأن الواقع الميداني على الأرض له معادلاته وأنه حتى الآن يميل لصالح مقاومي حزب الله.فالعمود الفقري لحزب الله هو صواريخ كاتيوشا التي يتراوح مداها بين 25-40 كم. ووفقا لمصادر بالأمم المتحدة فإن حزب الله يمتلك 12 ألف صاروخ، أطلق منها حتى الآن 2200 على مدن شمال إسرائيل، ويعلن حزب الله مرارا وتكرارا أنه حركة مقاومة له تكتيكاته على الأرض، وليس جيشا كلاسيكيا نظاميا.أما الجيش الإسرائيلي فيصنف بأنه أقوى الجيوش في الشرق الأوسط، وصاحب أضخم ترسانة عسكرية متطورة بالمنطقة، وتفخر إسرائيل بأن جيشها يعد الأكثر جهوزية للتعبئة والقتال بمحيطه، إضافة لتزويدها بأحدث ما أنتجته أميركا من قنابل ذكية موجهة. وقد أثبتت المواجهات العسكرية الإسرائيلية مع لبنان على مر تاريخها أن تلك الترسانة الضخمة تستخدم ضد المدنيين بصورة أساسية، فالاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان عام 1978 أدى لمقتل 1186 مدنيا ونزوح 285 ألف لاجئ هجروا 82 قرية إضافة لتسوية ست قرى أخرى بالأرض.وجاء الاجتياح الثاني عام 1982 فحصدت إسرائيل 20 ألف قتيل مدني و32 ألف جريح وخلفت أكثر من نصف مليون لاجئ. وفي الحالتين كانت الخسائر الإسرائيلية لا تذكر مقارنة بالجانب اللبناني.واستمرارا لنفس المعدلات في إطار المواجهات الحالية، فلا وجه للمقارنة بين أعداد القتلى من المدنيين على الجانبين، فحتى الآن -اليوم السادس عشر للعدوان- سقط أكثر من 600 قتيل لبناني وحوالي 1380 جريح، مقابل 18 قتيلا و361 جريحا على الجانب الإسرائيلي.لكن الأرقام على المستوى العسكري لها وقع آخر، فقد أدت المواجهات العسكرية المباشرة بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي حزب الله منذ بدء العدوان لمقتل 24 جنديا إسرائيليا وجرح 50 آخرين سقط معظمهم بمارون الراس وبنت جبيل، إضافة لإغراق بارجة إسرائيلية بعد إصابتها مباشرة بصاروخ سيلكورم موجه بالرادار، كما أعطب حزب الله العديد من الآليات وأحرق أكثر من تسع دبابات وأسقط مروحية عسكرية ادعت إسرائيل أنها ارتطمت بالأسلاك الكهربائية شمال الجليل.. وعلى الجانب الآخر قتل 25 من أفراد المقاومة التابعين لحزب الله كما قتل كذلك 28 جنديا نظاميا تابعا للجيش اللبناني، وجرح حوالي 81 منهم.ورصدت منظمة هيومن رايتس ووتش استخدام إسرائيل للقنابل الانشطارية المحرمة دوليا والتقطت صورا لها وطالبت بوقف استخدامها.وأظهر حزب الله كفاءات غير عادية بالقتال وتدريبات عالية على قتال الشوارع والتمكن من المواجهة بشراسة، ولعل ما نقلته صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن أحد الجنود بوصفه المواجهات التي دارت ببنت جبيل (3 كم من الحدود اللبنانية) بأنها "جحيم على الأرض" لأكبر دليل على ضراوة المعارك وشدة مقاتلي حزب الله فيها.. يأتي هذا الوصف رغم التعزيزات التي تدفع بها إسرائيل لأماكن الاشتباكات، إضافة للقصف الجوي والمدفعي الكثيف الذي يسبق التحركات على الأرض.هذا الأمر دفع بعض الخبراء العسكريين لتشبيه تكتيكات حزب الله بتلك التي استخدمها المقاتلون الشيوعيون "الفيتكونغ" بفيتنام، وقد نشرت مجلة "جينز ديفنس ويكلي" المتخصصة بالشؤون العسكرية تقريرا لمراسلها بإسرائيل ألون بن دافيد جاء فيه إن "حزب الله أقام شبكة أنفاق وخنادق على الحدود مع إسرائيل وفرت مخابئ لعناصره وأسلحتهم".وأمام هذه الحقائق الماثلة على الأرض، إضافة إلى التأييد الشعبي العربي والإسلامي الواسع الذي تحظى به المقاومة اللبنانية، تبدو تحليلات المراقبين بأن كفة المواجهات العسكرية تميل لصالح حزب الله، الأقرب إلى الواقع.