محمد الدوسري:تداولت الصحافة خبر أن النظام القضائي سوف يكتسي ثوباً جديداً من جراء عملية تحديث الأنظمة التي تقوم بها الجهات المسؤولة عن تطوير ودراسة تحديث الأنظمة, وتعرض الخبر لمسألة مهمة عن سبب تباين وتمايز الأحكام القضائية ونُسب ذلك التمايز والتباين إلى اختلاف اجتهاد القضاة وأن ذلك التمايز لا يشكل ظاهرةً. وعند قراءة ذلك الخبر لأول وهلة يتبادر إلى ذهن الإنسان غير ذي التخصص أن الخبر منقوص ولا يشكل بنيةً معرفية تجيد التعامل مع العقل الإنساني وآليات الإقناع المتأسس على رقابة الرأي العام. بيد أن المتخصصين في المجال القانوني وفلسفته وتاريخه يجدون أن تسطيحاً واختزالا لشأن خطير قد تم التغاضي عنه لعقود طويلة لا يصب في مصلحة الوطن ولا يحقق الرغبة الصادقة لقيادة الوطن المرتكزة على إصلاح حقيقي شامل يتأسس على المصداقية والشفافية في التعامل .فإن تباين واختلاف أحكام الجهات القضائية بمختلف اختصاصاتها يُشكل مشكلةً حقيقيةً ومعضلةً تبعثُ على الاعتقاد أن الجهات القضائية بمختلف اختصاصاتها سواء القضاء المدني أو القضاء الإداري أو تلك اللجان الإدارية التي أُنيط بها العمل القضائي المتخصص في الفصل في نزاعات تجارية أو مصرفية أو مالية لا تدرك حجم المعضلة التي تظهر على السطح جلياً في حاضرنا المعاصر المنفتح إعلامياً , ولا تعي أن زمن الانكفاء على الذات وتهميش الغير من أفراد المجتمع وأصحاب التخصص الذين يدركون معنى تباين وتمايز الأحكام القضائية وما يُحدث من أثرٍ في اهتزاز مرجعية القضاء لدى أفراد المجتمع وما يخلق من يأس في تحقيق العدل والإنصاف وتحقيق إرساء الارتباط بالقانون والنظام الذي سوف يُحققه القطاع القضائي من تجسيدٍ لمعنى دولة المؤسسات التي تُرسخُ في الذهن الجمعي للمجتمع المعاني والأسس الإنسانية لحق المواطنة. إن تعارض الأحكام مصطلح قانوني يبحث في وجود تباين وتمايز في الأحكام بين واقعتين اتحدتا في صورتيهما وظرفيهما بيد أن الحكم يختلف اختلافا لا يمكن أن يقبله العقل والتصور لدى عامة الناس فضلاً عمن هو متخصص في هذا الشأن, وتنطبع صورة تناقض الأحكام لدى العامة قبل انطباعها لدى المتخصصين. إن نظرةً وإطلالةً سريعة على ما يجري لدى الدول المتطورة قضائياً يعكس انطباعا بأننا لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون بل إننا نعيد ما ابتدأ به الآخرون للوقوع في معترك الأخطاء والتناقضات التي جرت في الماضي في خضم ظروف لم تتمتع بميزة عصرنا ووقتنا , وهي ميزة الثورة المعلوماتية وسهولة الحصول عليها لحدوث التطوير والارتقاء بالأداء القضائي إلى أحسن مستوياته وليكون هو الملاذ الحقيقي للمجتمع من التعسف في استعمال السلطة وإساءة استخدامها وكبح جماح الفساد الذي يُرهق مقدرات الوطن وتسهيل الحصول على الحقوق الضائعة.فالنظام القضائي في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً, يتمتع بانسيابية وتناسق في إرساء الأحكام القضائية التي تتجسد في تقرير السوابق القضائية لحمايتها من التناقض والتباين والتمايز سواء على المستوى الفدرالي أو على مستوى الولايات المتعددة, وعند حدوث صدور حكمٍ يُشعرُ أنه يتباين ويتمايز مع حكمٍ آخر فإن طبيعة التعددية الفكرية الثقافية التي يتمتع بها رجال القضاء والقانون في تلك المجتمعات المتطورة تُظهر ذلك التباين والتمايز إلى العلن ويدور نقاش وحوار قانوني ثقافي يصب في مصلحة الارتقاء بالأداء القضائي لتعزيز الحريات المترسخة في دستور وقوانين الدولة , بل إن القضاء الأمريكي كانت له مواقف غيرت تاريخ العلاقة الجدلية في صراع امتلاك النفوذ بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وذلك بتأسيس رقابته الدستورية على أعمال وتشريعات تينك السلطتين, وقد بسط تلك الرقابة على ما يصدر منهما حمايةً للحقوق والحريات العامة التي ارتكز عليها ذلك المجتمع , وتم ذلك بعوامل عديدة منها تسهيل الحصول على تلك الأحكام القضائية وعدم وجود خوف ورهبة من نشر تلك الأحكام أو نقدها وبيان وجه الخطأ والقصور فيها . بينما في المقابل , نجد أن القضاء لدينا يُعاني من مشكلة عدم الرغبة في نشر الأحكام القضائية و الرهبة من الانتقاد العلمي الرصين ولو كان أكاديمياً لتوضيح وبيان وجه القصور والتناقض في الأحكام الصادرة وذلك بتسطيح المشكلة واختزالها بإعطاء إجاباتٍ مقتضبة لا تُجسد حقيقة المعضلة .ويرتبط اختلاف وتباين أحكام القضاء بعدم وجود آلية فعالة لنشر أحكام القضاء وتيسير الحصول عليها مع صدور عدة قراراتٍ من القيادة العليا في الوطن الساعية في طريق الإصلاح بنشر تلك الأحكام , وهذا يُلقي بظلاله على معضلةٍ أعمق في كليات القانون والشريعة حيث إن التعليم فيهما لا يرتبط بالواقع وكيفية تنزيل ما يتلقاه المنتسبون إليها من أحكام وقواعد ومبادئ مجردة على صور واقعية قد مارس القضاء فيها دوره بتطبيق ما تعلمه أولئك المنتسبون لتلك القواعد والمبادئ المجردة, وسوف ينتظر سنين عديدة حتى يمارس قراءة حكمٍ و فهم تسبيبه وربط ما تعلمه بما سوف يواجه من واقع مليء بالأحداث والتصرفات التي تحتاج إلى حكم دقيق يجسد ماتلقاه من مبادئ وأحكام. إن التعليم القانوني في الدول المتطورة يختلف اختلافا جذرياً في تعاطيه مع الأحكام القضائية , ففي الولايات المتحدة الأمريكية يرتبط تعليم القانون ارتباطا وثيقاً بما يُصدره القضاء من أحكام قضائية, فهو تعليم يوظف المبادئ والقواعد والتوجهات التي يُرسيها القضاء في قاعات التعليم ويكون محور العملية التعليمية أحكام القضاء, وذلك لوجود المؤسسات المتخصصة مثل (Westlaw ) و (LexisNexis ) وغيرها, القائمة على نشر و تصنيف الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم بمختلف مستوياتها بطريقة علمية تُسهل على الباحث والدارس الأكاديمي والمستشارين القانونيين معرفة توجهات المحاكم والمبادئ التي أرستها في جميع المجالات , مما يُساعد في فهم أحكام وتوجهات القضاء في أمور الجنايات والأمور المتعلقة بأحكام الأسرة والمعاملات وتكييفها ومعرفة طريقة تأسيس القضاء للمستجدات التي تتوالى في عصرنا الحاضر , وأيضاً فإنها تُساعد في تطور القضاء من جهةٍ وذلك بدراسة أحكامه وعرضها على المختصين والباحثين, ويجعل أفراد المجتمع في حالة استقرار واطمئنان تجاه أحكام القضاء.بينما لدينا فإن الحصول على تلك الأحكام القضائية يعُجز المختصين مما يُفرز مشكلة ومعضلة معرفة توجهات المحاكم لدينا في مسائل كثيرة جداً بسبب صعوبة إن لم يكن استحالة الحصول على الأحكام القضائية, ولا توجد طريقة للحصول على تلك الأحكام إلا بطرقٍ لا تستطيع غالبية الدارسين والباحثين الأكاديميين والمستشارين القانونيين القدرة عليها, وهذا من خلال الواقع العملي أصبح عائقاً في طريق كثير من المشروعات الضخمة التي نراها اليوم في مجتمعنا, حيث إن المستثمر الأجنبي إذا أراد أن يستثمر فإنه لابد أن يتعرف على طبيعة المشاكل والعوائق القانونية التي سوف يواجهها في المستقبل وكيفية الخروج من تلك المشكلات والمعضلات القانونية, ولا يمكن حل تلك المشكلات والعوائق وتأسيس رؤية صحيحة لتوجهات القضاء من قبل المختصين إذا لم تتوافر لديهم التوجهات القضائية من خلال سهولةِ حصولهم على الأحكام القضائية الصادرة من محاكمنا. وأظن أن تحديث وتطوير الأنظمة لا يمكن أن يُمارس ويتم بمهنية عالية إلا بالاطلاع على ما جسده القضاء من أحكام وقرارات عند النظر في الأنظمة واللوائح للفصل في منازعات نشأت في ظل تلك الأنظمة واللوائح , فهل سوف نرى تفعيل آليات منظمة لتسهيل الحصول على تلك الأحكام لتعم الفائدة وتتحقق المصلحة العامة بدراستها والاطلاع عليها؟ وهل ستتم مناقشة ما كان متبايناً منها على طاولة حوار علمي هادئ دون تشنج فكري يتسم بالإقصاء الفكري وعدم قبول الآخر أم أن حرب توزيع الاتهامات والطعن في النيات سوف تبدأ؟* نقلا عن صحيفة "الوطن" السعودية
التباين والتمايز في الأحكام القضائية...مشكلة أم حل؟
أخبار متعلقة