محمد زكريا :في سنة 927 هـ / 1521م ، نعى التاريخ وفاة الأمير مرجان بن عبد الله الظافري نائب الدولة الطاهرية في عدن . و لقد أجمع المؤرخون القدامى والمحدثون والباحثون بأن الأمير مرجان الظافري يعد من أعظم الشخصيات وإنّ لم يكن أعظمها على الإطلاق التي ظهرت على مسرح عدن السياسي في ظروف معقدة ومتشابكة وخطيرة ، وعلى الرغم من الرياح والأنواء العاتية التي هبت على المدينة والأمواج الهائجة التي ضربت شواطئها المتمثلة بالغزو البرتغالي الذي حاول السيطرة على المدينة بهدف إغلاق مدخل الطرف الجنوبي من البحر الأحمر أمام السفن التجارية من جهة ومن جهة أخرى نزول المماليك المصريين أو العسكر المصري - على حسب قول ابن الديبع - إلى سواحل تهامة اليمن ومن بينها عدن للسيطرة عليها بغرض الوقوف ضد البرتغاليين الذين هددوا سواحل البحر الأحمر ومنها الموانئ المصرية التي عانت الكثير من حصارهم ومما زاد من تفاقم الأوضاع السياسية المتدهورة أصلاً في الدولة الطاهرية هو قيام أعدائها بثورات ضد سلطتها بهدف خلخلة أركان بنيانها . وكانت القشة التي كسرت ظهر الدولة الطاهرية هي الصراع الذي انفجر في البيت الطاهري نفسه بعد مصرع أعظم سلاطينها وملوكها عامر بن عبد الوهاب الطاهري . [c1] الأمير مرجان ورؤيته السياسية :[/c] ولقد رأى الأمير مرجان الظافري أمير عدن برؤيته السياسية ، ونظرته الثاقبة أنه في الوقت الذي يحدق الخطر بالدولة الطاهرية في كل مكان ويهدد بقائها إذا بالبيت الطاهري يتقاتل على الرئاسة والزعامة - كما أسلفنا - وأنّ شمس الدولة الطاهرية ستجنح إلى المغيب لا محالة وذلك بعد مصرع السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب ألطاهري الذي أمتد ظل حكمه في اليمن 29عاماً والذي سقط صريعاً سنة 923هـ / 1517م على يد المماليك بالقرب من صنعاء . فما كان من الأمير مرجان الظاهري أمير عدن أنّ فكر وقرر بأنّ يحميها من الفيضانات السياسية المتدفقة التي اجتاحت المنطقة بقوة وبالفعل نجح الأمير مرجان أن يخرج عدن من دوامة الاضطرابات والصراعات والقلاقل والفتن التي أطلت برأسها في أواخر الدولة الطاهرية حتى وفاته . [c1] من هو الأمير مرجان ؟[/c] والحقيقة أنّ المراجع الطاهرية تصمت عن ذكر نسب الأمير مرجان الظافري ولكن اسمه يوحي بأن أصوله تعود إلى شرق أفريقيا . فقد كان بنو طاهر يجلبون الكثير من الرقيق من شرق أفريقيا وكان يطلق عليهم المماليك ، وكانوا يخدمون في الجيش الطاهري ، وكانوا يمثلون القوة الضاربة في الجيش , وقد كان لهم صولات وجولات في المعارك الذي خاضها بني طاهر ضد خصومهم السياسيين . ومن المحتمل أنّ يكون والد مرجان الظافري أحد هؤلاء المماليك الذين قدموا من شرق أفريقيا الذين خدموا في الجيش الطاهري ، فعاش ابنه وتربى في ظل حكم الدولة الطاهرية وعندما شب عن الطوق ألتحق بالجيش الطاهري ، ويبدو أنّ مرجان كسب ثقة بني طاهر بسبب رباطة جأشه ، ومهارة في الفروسية ، ومقدرته الإدارية في شئون الحرب . أمّا اسم الظافري فيبدو أنه لقب أطلق عليه عندما تولى إمارة عدن نائباً عن الطاهريين فيها . أو من المحتمل لقب بذلك اللقب بعد انفراده بحكم عدن .[c1]السلطان عامر وطموحاته :[/c] وعندما أعتلى السلطان عامر بن عبد الوهاب سدة حكم الدولة الطاهرية ، كان في أوج شبابه وكان الطموح يداعب أحلامه السياسية الكبيرة بأن تكون دولته مسيطرة على غالبية اليمن وإن لم يكن كلها ، فقد لفت نظره أنّ رقعت الدولة في انكماش بسبب سياسة التقوقع والانطواء التي اتبعها والده السلطان الملك المنصور عبد الوهاب بن داود بن طاهر . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ والحقيقة أنّ السلطان عامر ، كان حاكماً قوياً طموحاً ، ويعتبر من أبرز شخصيات الأسرة الطاهرية ، فقد أظهر نشاطاً كبيراً منذ توليته الحكم في جمادى الأول سنة 894هـ ( أبريل 1489م ) ، وعمل على توسيع رقعة أملاكه على عكس والده الذي قنع بالعيش في سلام مع باقي السيادات التي عاصرته . . . “ . ويضيف ، قائلاً : “ وقد ورث السلطان عامر بن عبد الوهاب حوالي ثلثي اليمن فقط عند توليته الحكم . . . “ . [c1]الأمير مرجان وإمارة عدن :[/c] وعلى أية حال ، لقد بزغ نجم مرجان في ظل حكم السلطان الشاب عامر بن عبد الوهاب ألطاهري الطموح الذي رأى أنه من الضرورة بمكان من أجل تحقق مشروعاته السياسية الطموحة أنّ يتكئ ويعتمد على رجال أكفاء يثق بهم ويختارهم بنفسه . ويبدو أنّ شهرة مرجان الظاهري في إدارة شئون الدولة ، وشجاعته الصلبة ، ومهارة فروسيته ، وعمق حكمته ترامت إلى مسامع السلطان ( عامر ). فقرر أنّ يستخلصه لنفسه - كما أسلفنا - لمشروعاته السياسية الضخمة وهي توسيع رقعة الدولة ، والقضاء على خصومه المناوئين لسياسته . وفي حكم السلطان ( عامر ) ازدهرت الحياة التجارية في عدن ازدهاراً واسعاً . فقد كان السلطان ( عامر ) يشرف بنفسه على حركة ميناء عدن في أثناء موسم الرياح الجنوبية الغربية . وعلى أية حال ، اثبت مرجان الظاهري بأنه رجل دولة ، من الطراز الأول . ولقد رأى السلطان عامر بن عبد الوهاب أنه من الأهمية بمكان أنّ يتولى مرجان الظاهري مدينة عدن لكونها أهم المدن اليمنية التي كانت تمثل الخزانة العظيمة لتمويل الدولة بالذهب والفضة والأموال الطائلة . والحقيقة لا نعلم علم اليقين السنة أو التاريخ الذي تولى فيها مرجان الظاهري مقاليد الأمور في عدن ولكن المعروف أنه تولى في حكم السلطان عامر . [c1] رجل السلطان عامر الأول :[/c]والحقيقة أنّ مرجان الظافري اكتسب ثقة السلطان ( عامر ) لدرجة أنّه صار الرجال الأول لدى السلطان وسبقتُ الإشارة إلى أنّ صفات مرجان أهلته أنّ يتولى أهم المدن اليمنية وإن لم يكن أهمها على الإطلاق وهي إمارة عدن , وبات مرجان الظاهري صاحب الأمر والنهي في المدينة لا يستطيع أنّ يزاحمه أحد . وهذا ما أكده الأستاذ عبد الله محيرز ، قائلاً : “ لقد كان الأمير مرجان في حلال حياة السلطان عامر بن عبد الوهاب من ذوي الشأن والحل والعقد . وكان بيده الأمر على الرغم من وجود أمير عينه عامر على المدينة اسمه عبد السلام الحمادي . وقد كان أميراً بالاسم . فقد ضايقه مرجان حتى اضطره إلى الهروب من عدن . . . ولما علم مرجان بهربه تابعه وطلب من القبائل المحيطة بعدن الترصد له وإعادته إليه معتقلاً. ونستدل من ذلك أنّ مرجان الظاهري ، قد اشتد عوده وبات هامته السياسية عالية وبات صاحب القدح المعلى في حكم إمارة عدن في ظل السلطان القوي عامر بن عبد الوهاب وأنّ الأخير لم يحرك ساكناً إزاء ما فعله ضد الأمير عبد السلام الذي عينه على المدينة ومن المحتمل أنّ السلطان عامر قد غض الطرف عن ذلك الأمر إمّا بسبب أنه نال مرجان الحظوة الكبيرة لدى السلطان وإما السلطان رأى أنه من الحكمة تجنب التصادم ضد مرجان الشخصية القوية حتى لا يحدث مشاكل في تلك الإمارة عدن ، طالما يؤدى السياسة التي رسمها له السلطان عامر . [c1] الأمير مرجان والسلطة المركزية :[/c] شهدت اليمن عند مطلع القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي أحداث جسام غيرت من خريطتها السياسية تغييراً كبيراً بسبب الغزو البرتغالي على السواحل العربية الجنوبية لجزيرة العرب الذي حاصر الطرف الجنوبي لمدخل البحر الأحمر وتحديداً ضرب حصاره على السواحل اليمنية مما أدى إلى عواقب وخيمة على الدولة الطاهرية التي حُرمت من إيرادات الموانئ التي كانت تدر أموالاً طائلة عليها ، فكانت تلك ضربة قاصمة على اقتصاد الدولة الطاهرية والذي كان له آثار خطيرة على حياتها السياسية . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ . . . فقد أدى الحصار البحري الذي فرضه البرتغاليون على السواحل العربية بالجنوبية إلى ضعف إيرادات السلطان عامر الضخمة التي كانت ترد إليه من الموانئ اليمنية المختلفة ، أو بالأحرى لقد حرم الحصار البحري السلطان عامر من الخزانة العظيمة من المال ومن الذهب والفضة التي كانت تحمل إلى خزانة السلطان من (( عدن )) حتى قبيل مجيء البرتغاليين إلى الهند “ . والحقيقة لقد شجعت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في الدولة الطاهرية بسبب الحصار البحري الذي فرضه البرتغاليون على السواحل اليمنية خصومها السياسيين أنّ يطلوا برأسهم في الكثير من المناطق اليمنية مما كان يدفع بالسلطان عامر إلى القيام بحملات عسكرية للقضاء على تلك الثورات والتمردات التي كانت تندلع بين الحين والآخر. وكان من الطبيعي أنّ تلك العوامل الاقتصادية المتدهورة والأوضاع السياسية المضطربة تؤثر في كيان الدولة الطاهرية تأثيراً خطيراً - كما أسلفنا - . وكان من أثرها السلبي هو أنّ السلطان عامر لم يعد يولي الاهتمام الكبير إلى مدينة عدن بسبب تلك القلاقل والفتن التي ذكرناها قبل قليل . وكان من نتيجة ذلك أنّ اعتمد الأمير مرجان على نفسه في إدارة شئون إمارة عدن . ويبدو أنّ عدم انشغال السلطة المركزية الطاهرية في المقرانة عن عدن ، وتفرغها إلى إخماد الكثير من القلاقل والاضطرابات التي اشتعلت في كثير من مناطق اليمن ــ كما سبق وأنّ اشرنا في السابق - . قد شجع مرجان الظافري إلى سلخ إمارة عدن من جسد الدولة الطاهرية . [c1]الجسور المقطوعة :[/c] وهذا مثلما حدث في حكم الدولة الأيوبية في اليمن عندما أعلن الأمير عثمان الزنجيلي أو ألزنجبيلي المتوفي سنة ( 583 هـ / 1187م ) نائبها في عدن انفصالها عن الدولة الأيوبية المركزية في مصر , وكان سبب ذلك يعود إلى انشغال الأيوبيين في مصر بالحروب الصليبية التي اندلعت في بلاد الشام وفلسطين من جهة ومن جهة أخرى الدسائس والمؤامرات التي الذي كان يحيكها خصومها السياسيين في الداخل كل تلك العوامل دفعت نواب الأيوبيين في اليمن إلى الاستقلال في المدينة التي تحت حكمه بسبب الجسور المقطوعة بين السلطة الأيوبية المركزية في مصر ونوابها في اليمن . ويحلل الدكتور محمد كريم الشمري عن الأسباب الحقيقية وراء شق نواب الأيوبيين عصا الطاعة في وجه الدولة الأيوبيين في اليمن وإعلان الاستقلال ، قائلاً “ وفاة السلطان توران شاه ـــ الأخ الأكبر للسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي والمسئول عن اليمن - فشعروا ( أي نواب الأيوبيين - وكأن ارتباطهم بالدولة الأيوبية ، قد انتهى ، ذلك لأنه هو الذي عينهم نواباً من قبله ، وتأصلت تلك الفكرة بسبب عدم إرسال الأيوبيين من يتفقد أحوال اليمن بعد مغادرة توران شاه لها ثم وفاته إضافة إلى غرور هؤلاء النواب وطمعهم في بالاستحواذ على المناطق الخاضعة لسيطرتهم وجباية الاموال الطائلة منها لتحقيق مآربهم الخاصة . . . طمعوا في الاستقلال والانفصال كل في جهته “ . ومثلما حدث مع الدولة الأيوبية حدث أيضاً مع الدولة الصليحية التي تمرد نوابها بني زريع عن دفع الأموال المقررة لهم إلى السلطة الصليحية مقابل حكم عدن ، ولكن عندما ضعفت شوكتها قطع بني زريع الأموال عن الدولة الصليحية المركزية في جبلة في عهد حكم الملكة السيدة بنت أحمد الصليحي المتوفاة سنة ( 532هـ / 1138م ) وأعلنوا انسلاخ عدن وتوابعها عن الصليحيين وامتد حكمهم فيها مدة 54عاماً . [c1]ثقوب في الثوب الطاهري :[/c] سبقتُ الإشارة ، بأن من أهم العوامل الرئيسية التي دفعت مرجان الظافري أمير عدن إلى إمارة خاصة به تتمثل في ضعف السلطة المركزية الطاهرية في المقرانة بسبب الحصار الاقتصادي الخانق الذي فرضه البرتغاليون على موانئ اليمن ، واندلاع الثورات والتمردات من قبل خصوم الدولة . حقيقة أنه لم يعلن صراحة انفصالها عن الدولة الطاهرية بعد مصرع السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب ألطاهري ولكن كل أفعاله تدل على أنه كان متجهاً صوب الانسلاخ عن بني طاهر . ولكن الطامة الكبرى التي عجلت في غروب شمس الدولة الطاهرية عن سماء اليمن السياسي هو الصراع الدموي في داخل البيت الطاهري نفسه . ويلفت نظرنا القسوة والبشاعة الذي دار بين أبناء البيت ألطاهري الواحد بغرض الوصول إلى سدة الحكم هو أنّ عدد من السلاطين والملوك الطاهرين اختفوا عن مسرح الحياة عن طريق قتلهم بالسم . وكان الصراع الحاد الذي أنشب أظافره في جسد الطاهريين من أهم العوامل وإن لم يكن أهمها على الإطلاق التي دفعت بالأمير مرجان ألطاهري أنّ ينزع يده عن بني طاهر أو بالأحرى أنّ تكون عدن منفصلة عنهم تماماً وبات السيد والحاكم المطلق وصاحب اليد العليا فيها . ويسهب الدكتور محمد صالح بلعفير في الحديث عن الصراع الداخلي في البيت ألطاهري ، فيقول : “ ولعل الغريب في الأمر ، أنّ تستمر الخلافات داخل البيت الطاهري للاستحواذ على الحكم في ظل هذا الجو المشحون بالمخاطر الذي يتهددهم ، ويستدعي توحيد كلمتهم ورص صفوفهم وتجميع قواهم للحفاظ على ما بقي لهم مُلك وتوطيده . . . “ لسنا نبالغ إذا قلنا أن ذلك الصراع الدموي في داخل البيت الطاهري أشبه ما يكون بثقوب واسعة في ثوب مهلهل . [c1]المسمار الأخير :[/c] والحقيقة كان مرجان الظافري يراقب مراقبة دقيقة عما كان يحدث من صراع في داخل البيت الطاهري بغرض الوصول إلى الجاه والصولجان والسلطان ، وكان يرى في نفسه أنه أفضل وأقوى منهم , فقد استطاع أنّ يحافظ على استقلال عدن وينقذها من مخالب البرتغاليين في سنة 919هـ / 1513م . وأنّ ينقذها مرة ثانية من يد المماليك الذين حاولوا أنّ يأخذوها عنوة . والحقيقة أنّ غياب الأمير مرجان الظافري الرجل القوي السياسي المحنك عن مسرح الحياة في عدن السياسي بوفاته سنة 921هـ / 1521م . وتولية السلطان عبد الملك بن محمد الطاهري مقاليد الحكم . كان بمثابة غروب شمس عدن عن سماء الدولة الطاهرية أو بالأحرى كان غياب الأمير مرجان الظافري عن مسرح عدن السياسي المسمار الأخير في نعش الدولة الطاهرية . [c1] مرجان واستحكاماته الحربية :[/c] والحقيقة أنّ المصادر الطاهرية لا تعطينا معلومات وافية وشافية عن سياسة الأمير مرجان الظافري في إمارة عدن . ولكن بعض المراجع التاريخية تذكر أنّ مرجان اعتنى اعتناءاً كبيراُ بحمايتها من البرتغاليين الذين سيطروا بأسطولهم في البحر العربي والمحيط الهندي الضخم الذي كان يمتلك مدافع فتاكة سببت الخراب والدمار لكثير من موانئ السواحل الجنوبية العربية لجزيرة العرب ، فأقام الاستحكامات العسكرية العديدة في المدينة “ . . . تمثلت في دروب ، ومسالك وحصون إضافية تمنع التسلل إليها واحتلالها “ . والحقيقة لقد كان لمرجان الظافري بعد نظر ، عندما قام بإنشاء الاستحكامات الحربية القوية ــ كما أسلفنا ـــ في مدينة عدن ، متوقعاً أنّ البوكيرك قائد الأسطول البرتغالي حتماً سيعمل على السيطرة على المدينة بأية شكل من الأشكال نظراً أنّ مينائها يمثل المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر التي يمكن غلقه ضد السفن التجارية المتجهة إلى موانئ مصر من جهة ومن جهة أخرى “ وأنّ عدن هي أكبر مستودع تجاري هناك ، وأنه يجب السيطرة عليها لتأمين طريق البرتغال الجديد حول رأس الرجاء الصالح “ . ويبدو أنّ الأمير مرجان كانت لديه مصادره الخاصة أو عيونه التي كانت تراقب وترصد تحركات الاسطول البرتغالي في مياه البحر العربي , والمحيط الهندي وعلى السواحل اليمنية وهذا إنّ دل على شيء فإنما يدل أننا أمام قائد عسكري محنك من الطراز الأول . [c1] مرجان والغزو البرتغالي :[/c] على أية حال ، في فبراير سنة 1513م ، تحرك اسطول ضخم بقيادة البوكيرك مؤلفاً “ من عشرين سفينة ومن ألف وسبعمائة جندي برتغالي وذلك بالإضافة إلى حوالي ثمانمائة من الهنود من ساحل ملبار . وقد بدأ الهجوم على عدن في 16 محرم سنة 919هـ “ . ولقد أرسل مرجان الظافري بتلك الحملة البرتغالية إلى السلطان عامر بن عبد الوهاب ألطاهري الذي كان في حروبه الداخلية . ولكن مرجان أدرك أنّ السلطان عامر لن يستطيع أنّ يمد له يد العون والمساعدة بسبب انشغاله في حروبه ضد خصومه السياسيين . فكان لا بد أنّ يعتمد على نفسه وعلى أهالي المدينة في الصمود والتصدي للغزو البرتغالي . ويرسم لنا الدكتور سيد مصطفى سالم صورة واضحة عن الخطة التي وضعها مرجان الظافري في الدفاع عن مدينة عدن ، قائلاً : “ وكانت خطة أهالي عدن في الدفاع عن مدينتهم هي الاعتماد على حصانتها الطبيعية ، وعدم منازلة البرتغاليين في معركة بحرية نظراً لقوة الأساطيل البرتغالية . وقد شجع هذا الهدوء البوكيرك ، فأنزل جنوده إلى البر حيث دارت معركة كبيرة حول أسوار عدن استبسل فيها الأهالي في الدفاع عن أنفسهم ، فاضطر البرتغاليون إلى الانسحاب إلى السفن بعد أنّ فقدوا بعض القتلى “ . ويسترسل ، قائلاً : “ وقد بقى البوكيرك في الميناء أياماً يقوم بأعماله التخريبية التي اشتهر بها ، فأحرق حوالي أربعين سفينة ، كانت راسية هناك “ . ولقد أجمعت المراجع التاريخية أنّ هزيمة البرتغاليين في عدن ، كانت بداية النهاية للبرتغاليين في البحر العربي والمحيط الهندي حيث استدل الستار على قوتها في النصف الأول من القرن السابع عشر حيث قامت إنجلترا , وهولندا بمزاحمتها في الهند والشرق الأقصى . [c1]مرجان والمماليك :[/c] ولم يمض وقت طويل حتى شهدت عدن المماليك الذين حاولوا السيطرة عليها بذريعة حماية السواحل اليمنية من الأسطول البرتغالي الذي يجول البحر الأحمر والمحيط الهندي . والحقيقة أنّ المماليك عندما يسيطروا على مدينة من المدينة اليمنية فإنهم يعملوا فيها السلب والنهب والقتل مثلما حدث مع صنعاء في أواخر حكم السلطان عامر بن عبد الوهاب ألطاهري أو في زبيد ، وتعز وغيرها من المدن. ولقد ترامت أفعالهم المشينة تلك إلى مسامع أهل عدن . وكان من الأهمية بمكان التصدي لهم بقوة وعزم وعدم السماح لهم بدخول المدينة تحت أي ظرف من الظروف . والحقيقة أنّ أهالي عدن التفوا حول أميرهم مرجان الظافري الذين لمسوا فيها الشجاعة ، والحنكة الكبيرة في إدارة أمور الحرب ضد البرتغاليين الذين انهزموا هزيمة منكرة أمام أسوار عدن . على أية حال ، مثلما فعل مرجان من استحكامات حربية في المدينة قبل الغزو البرتغالي ، فعل نفس الشيء مع المماليك الذين ظنوا أنّ عدن مدينة لقمة سائغة في الإمكان السيطرة عليها . وكان مرجان دائماً يحث ويحرض العسكر على ضرورة الصمود والمقاومة في وجه المماليك إدراكاً منه أنهم إذا دخلوا المدينة جعلوا أهلها أذلة وأعملوا السيف فيها ، وعاثوا فيها الفساد . [c1]هزيمة المماليك في عدن :[/c] ويروي ابن الديبع في حوادث سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وقائع الحرب التي دارت رحاها على أرض بين أهلها من جهة والمماليك المصرية من جهة أخرى . وكيف قصف المماليك المدينة بمدافعهم وفي نهاية المطاف تمكن أهل عدن من هزيمة المماليك شر هزيمة وبذلك حموا مدينتهم منهم . ويصف ابن الديبع كيف فر المماليك من المدينة إلى سفنهم يتحصنوا فيها ، فيقول : “ فطلع العسكر السلطاني ( ويقصد عسكر مرجان الظافري ) حصين صيرة ، وبقي عسكر المصريين في أسفله ، يرمون بالمدافع على صيرة حتى أخربوا دربها . فاجتمع العسكر السلطاني الذين في عدن ، وخرجوا إليهم من الباب الذي عند جبل النوبة . وكان البحر إذ ذاك عارياً ، ( في حالة جزر ) . فحمل العسكر السلطاني على العسكر المصري ، وهم حينئذ تحت درب حصن صيرة ، فهزموهم هزيمة عظيمة ، وقتلوا منهم جمعاً كثيراً ، وجرحوا آخرين ، ورماهم من بحصن صيرة من العسكر السلطاني بالحجارة ، فقتلوا أكثرهم ، وانهزم باقيهم ، وطلعوا المراكب ، وتحصنوا فيها “ . ويوضح ابن الديبع أنّ سفن المماليك ، قد انسحبت من صيرة إلى قرية الرباك - وهي بالقرب من مصب الوادي الكبير بلحج . وكانت مورد ماء للسفن المتجهة من عدن إلى باب المندب - . وهناك “ قد اعد لهم الأمير مرجان كمينا . . . فثار عليهم الكمين وقتل منهم فوق الأربعين نفراً وجرحوا الآخرين “ . [c1] مرجان والصعود إلى القمة :[/c] والحقيقة أنّ نتائج انتصار مرجان الظافري أمير عدن ، كان له تداعياته السياسية الخطيرة و الوخيمة على الدولة الطاهرية وخصوصاً بعد مصرع أعظم سلاطينها عامر بن عبد الوهاب الذي امتد ظل حكمه على اليمن تسعة وعشرين عاماً . فقد حركت في نفس مرجان شهوة السلطة والجاه وعمد على الانسلاخ عن جسد الدولة الطاهرية ولكن لم يعلن ذلك الانفصال عنه بصورة صريحة وواضحة بل كان يظهر ولائه للطاهريين ولكن الأفعال كلها تشهد أنه صار الحاكم الفعلي والحقيقي في عدن ، ودليل ذلك عندما أراد أحد السلاطين الطاهريين أنّ يدخل عدن ، لم يستطيع دخولها إلاّ بأمر من مرجان الظاهري . وهذا ما أكده الدكتور محمد بلعفير ، قائلاً : “ وفي عدن التي كان مرجان الظافري يحكم قبضته عليها ، ولا يرغب في أنّ ينازعه أحد على إدارتها ، لجأ إلى استخدام سياسة التضليل والخداع مع السلطان الجديد ( محمد بن أحمد ) ، فعلاوة على قيامه بذكر اسمه في خطب الجمعة ؛ عمل على إيهامه بطاعته وتنفيذ أوامره وإقناعه بأن شئون السلطنة لصالحه ، وانكشفت مراميه عندما عزم السلطان محمد بن أحمد على زيارة عدن ، وتفقد أحوالها ، والاطمئنان إلى تأييد أعيانها واهلها له “ . ويسترسل بلعفير ، قائلاً : “ فأظهر مرجان ما كان يبطنه ، فلم يجب السلطان إلى طلبه ولم يسمح له بدخول المدينة ، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك عندما اتهمه بقتل أولاد سيده (السلطان عامر ) بالسم وهو اتهام وجد فيه مبرر ليقوم بخلع محمد بن أحمد ويلي سلطاناً آخر هو عبد الملك بن عبد الملك ، ويخطب له بمدينة عدن ، كما وعده بدخول عدن ، ولكن بعد القيام بمحاربة غريمه المخلوع محمد بن أحمد “ . ونستدل من ذلك أيضاً أنّ مرجان الظافري أصبح من القوة والنفوذ والصولجان بمكانة تسمح له بعزل هذا السلطان ، وتولية ذاك السلطان ألطاهري أية صار سلاطين بني طاهر ألعوبة بيد مرجان أمير عدن . [c1]الإنفراد بالحكم :[/c] وفي نفس السياق ، يقول الأستاذ عبد الله محيرز عن مرجان الظاهري : “ وعلى الرغم أنّ مرجان الظافري أحد موالي بني طاهر ، ورجل السلطان عامر بن عبد الوهاب ، ونائبه على عدن ، واعتمد عليه في الجسيم من الأمور ، وترك إليه حماية الثغر ( عدن ) . فإنه لم ير - بعد مواقفه البطولية ضد البرتغاليين ، والمماليك في الدفاع عن عدن - أنّ يتنازل عنها لأحد من ورثته بعد موته “ . وفي الوقت الذي فيه أمراء وسلاطين بني طاهر يتصارعون على سدة الحكم ، والمخاطر تحاصر دولتهم من كل مكان . كان مرجان الظافري يبذل قصار جهده في إدارة شئون ثغر عدن وحمايته من الغزو البرتغالي وسيطرة المماليك ، فوجد في نفسه هو الأقوى والأفضل في حكم عدن من هؤلاء السلاطين الضعفاء المتصارعين على كرسي الحكم ، فكان من البديهي أنّ ينفرد بحكم عدن . [c1] ما معنى السيطرة على عدن ؟[/c] والحقيقة أنّ الدولة الطاهرية بعد مصرع السلطان عامر بن عبد الوهاب في سنة 923هـ / 1517م ، انكمشت رقعتها شيئاً فشيئاً ، فلم يبق لسلاطين بني طاهر سوى عدن تلك المدينة الذي تشكل وزن سياسي كبير في اليمن أو بالأحرى تمثل لبني طاهر القوة والمنعة . فقد كانت ترى القبائل بأن من يتولى أمور الحكم في عدن ، فإنه مازال سلطاناً قوياً يستطيع مقارعة أعدائه . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور بلعفير : “ أن السيطرة على عدن ، كانت في حد ذاتها الفيصل لإثبات المقدرة على استحقاق السلطنة ، بحيث أصبحت القبائل لا تنقاد لأحد من بني طاهر إلاّ إذا كان مسيطراً على تلك المدينة متصرفاً في أمورها ، يدخلها متى شاء دون أنّ يعترضه واليها “ . ويضيف ، قائلاً : “ وهذه حقيقة استوعبها كلاً من عبد الملك بن محمد ومن قبله السلطان محمد بن أحمد ، وأنه لن يكون لأي منهما شأن إلاّ إذا احكم قبضته على عدن “ . [c1]وكانت النهاية :[/c] وكيفما كان الأمر ، فقد تمكن أن السلطان عبد الملك بن محمد أنّ يمكث ويستقر في عدن بعد ألتفت حوله القبائل بالرغم من محاولة الأمير مرجان الظافري العمل على إخراجه من الثغر بشتى الحيل الوسائل ولكنه لم يفلح . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور محمد صالح بلعفير : “ وعلى الرغم من تظاهر مرجان الظافري بالترحيب بسيده عبد الملك بن محمد ، والاحتفال بمقدمه إلاّ أنه عمل على تقييد حركته ، وتضييق الخناق عليه . ومع ذلك فقد تمكن عبد الملك بن محمد من الاتصال برؤساء قبيلة يافع بعدن ، وكسب تأييدهم له ، غير أنّ مرجان لما علم بخبر هذه الاتصالات بعد عشرة أيام من إقامة عبد الملك ، سعى إلى إخراجه بالحيلة من المدينة من خلال إقناعه بضرورة القضاء على منافسه المخلوع محمد بن أحمد لكنه لم يفلح في مسعاه ، وكان ذلك سبباً في مرض موته ثم مات في شهر ربيع الآخر من سنة 926هـ / 1520م “ . وفي رواية أخرى تقول انه توفى في سنة 927هـ / 1521م . وبذلك انتهت بوفاته قصة الأمير مرجان بن عبد الله الظافري أمير عدن الذي أجمع عليه المؤرخين القدامى والمحدثين بأنه أعظم شخصية ظهرت على مسرح عدن في ظروف سياسية غاية في التعقيد والخطورة في عهد حكم الدولة الطاهرية . ولكن من تداعيات وفاته أن عدن ، كانت في طريقها إلى الخروج من يد بني طاهر ، وأنها كانت مقبلة على صفحة جديدة من صفحات تاريخ اليمن الحديث .[c1]* الهوامش : [/c]الدكتور محمد صالح بلعفير ؛ العملة والتداول النقدي بعدن في عصر الدولة الطاهرية ، المباحث المقدمة إلى الندوة الدائرة حول عدن وأوضاعها السياسية والاجتماعية ، والاقتصادية منذ عام 856هـ وحتى عام 1254هـ ـــ مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن للفترة من 27 حتى 28 ديسمبر 2005م .عبد الله أحمد محيرز ؛ صيرة ، عدن في مايو 1991م ، طبع في مطبعة جامعة عدن .الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 - 1635 ، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة - . الطبعة الخامسة - نوفمبر 1999م. ابن الديبع ؛ الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد ، تحقيق : الدكتور يوسف شلحد . مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء -. حسن صالح شهاب ؛ عدن فرضة اليمن ؛ الطبعة الأولى 1410هـ / 1990م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني - صنعاء -
|
تاريخ
عدن والأمير مرجان الظافري
أخبار متعلقة