قصة قصيرة
مختار مقطريأبي أسماني (أيوب)، ليس - فقط - لأنه أنجبني بعد خمس بنات، ولكن إكراماً أيضاً لصديقه اليهودي (أيوب)، صاحب العمارة الصفراء، وكلكم تعرفون العمارة الصفراء، ليس لأنها - فقط - أضخم وأطول عمارة في المدينة، ولكن لأن (أيوب) حول دورها الأرضي إلى ملهى ليلي، رقصت فيه وثنيات وبوذيات وزرادشيات ومانويات ويهوديات ومسيحيات ومسلمات.أبي مات، والبنات تزوجن، وأنا مازلت أسكن في العمارة الصفراء، في شقتنا القديمة رقم (4) بالدور الأول، مع أمي (شريفة) وزوجتي (رخصانة)، وابنتي ذكرى 9 سنوات، و (أمل) 3 سنوات.كنت قد قررت أن أسمي ابني الذكر (صبر)، عندما بشرتني (رخصانة) بأنها حبلى، طبعاً لو تحقق حلمي، وأنجبت لي (رخصانة) ولدي الذكر الذي اتمناه، ليصير أسمه (صبر أيوب)، فحبل (رخصانة) هذا هو الحبل الأخير بعد ولادتين قيصريتين.بعد شهرين من بشارة (رخصانة)، بدأت ألاحظ، وأنا ذاهب وعائد في (التاكسي) من العمل، ترميمات تجرى على مبنى مكون من ثلاثة عنابر طويلة، كمربع ناقص ضلع، تحيط بحديقة ماتت ورودها وتعرت أشجارها، داخل سور نصفه الأسفل حجر، ونصفه الأعلى قضبان حديد، المبنى ظل مهجوراً لعدة سنوات، ومن قبل، كان مؤسسة حكومية لا تهدأ فيها الحركة، وها هو قد دبت فيه الحركة من جديد، رجال ونساء وسيارات تدخل وتخرج، في (التاكسي) سألت الشاب الجالس إلى جانبي، فابتسم ابتسامة حينها لم أفهم معناها وهو يقول :مستشفى للولادة.سرني ذلك، فهو أقرب إلى العمارة الصفراء، من المستشفى الكبير والوحيد في المدينة.في الساعة السابعة مساء، اتصلت بصديقي (سرحان)، الشاعر الذي يشكو من ان قصائده التي ينشرها في بعض الصحف لا يقرؤها أحد، كان الوجع قد زاد على (رخصانة)، وتهيات أمي (شريفة) لترافقنا، وكان لابد أن نأخذ معنا (ذكرى) و (أمل).في الساعة السابعة وسبع دقائق، كانت سيارة سرحان العجوز البيضاء، قد وصلت بنا إلى المستشفى الجديد للولادة، أنا دللت (سرحان) للوصول إليه، البوابة الحديدية كانت مفتوحة، فدخلت بنا سيارة (سرحان) إلى الحديقة، لكن الصمت الموحش كان يملأ المكان، والإضاءة خافتة، وفجأة، وفي ضوء مصباحي سيارة (سرحان)، رأينا رجلا يتقدم نحونا، كان وسيماً وقسمات وجهه جذابة ومتناسقة، وله شارب كثيف مشذب بعناية فائقة، قامته طويلة ورشيقة وكتفاه عريضان، ويرتدي بذلة أنيقة سوداء، وقميصاً أبيض، و (كرافتة) سوداء مقلمة بخطوط بيض، حسبته مدير المستشفى، فشعرت بالسعادة.أحنى رأسه، وأوشك أن يدخله من نافذة (سرحان)، وبصوت مشحوب بالرجولة رحب بنا بعبارة جميلة، لكن (رخصانة) أطلقت صرخة متوجعة، وأضاء (سرحان) مصباحاً صغيراً مشنوقاً بسلك قصير يتدلى في منتصف السقف الداخلي للسيارة، فراح الرجل يتفحص وجوهنا، أنا وصديقي (سرحان) وأمي (شريفة) وزوجتي (رخصانة)، وابنتي (ذكرى) و (أمل) فصحت بحنق: - الحالة متعسرة، فدلنا إلى أين نتوجه.لمعت أسنانه الكبيرة البيضاء، حين أطلق ضحكة مصطنعة لكنها مستهترة، وقال بسخرية خليعة :- النساء هنا يحبلن لا يلدن.انطلقت بنا سيارة (سرحان) العجوز إلى المستشفى الكبير والوحيد في المدينة، كنا صامتين، لكني تذكرت ابتسامة ذلك الشاب الذي كان يجلس إلى جانبي في (التاكسي) وفهمت معناها، فلم ينته قهري ووجع تأنيبي لنفسي، إلا بعد ما ولدت (رخصانة) وأنجبت لي ابني الذكر (صبر أيوب)، بعملية قيصرية كادت تودي بحياتها، وقبل يوم (السابع) نشرت صحيفة قصيدة لصديقي (سرحان)، نجحت نجاحاً كبيراً، وحققت له الشهرة.