عدن في شعر د. محمد عبده غانم
د. شهاب غانمفي عام 2005م أصدر الأستاذ الدكتور أحمد علي الهمداني كتاباً بعنوان " عدن في عيون الشعراء " عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر حشد فيه عدداً كبيراً من القصائد من الشعر العربي القديم والحديث ذكر فيها ناظمو تلك القصائد وهم بالعشرات مدينة عدن أو تغنوا وتغزلوا بها أو تحدثوا عن أمجادها ومحنها. وقدم د.الهمداني للكتاب بمقدمة طويلة. ولا غرو أن يهتم هذا الباحث الشاعر بمدينة العريقة التي تغنى بها كثيرون من أبنائها ومن غير أبنائها.وأختار د. الهمداني للكتاب ثلاث قصائد من شعر والدي د. محمد عبده غانم رحمه الله هي " ليل الإياب " و " ليل باريس " ومن وحي صيرة. وهي في الواقع غيض من فيض فغانم تغنى بعدن في كثير من قصائده في دواوينه السبعة كما كانت مسرحياته الشعرية الخمس تتكئ على التاريخ اليمني ويرد ذكر عدن في أماكن عديدة من صفحاتها. وفي هذه المقالة سنتحدث عن عدن في ديوانه الأول " على الشاطئ المسحور " على أن نعود بإذن الله في مقالات لاحقة للحديث عن عدن في دواوينه الأخرى.ولد محمد عبده غانم في عدن عام 1912م وتوفي في صنعاء عام 1994م ودفن هناك في مقبرة خزيمة. وقد تخرج في الجامعة الأميركية ببيروت في الآداب مرتبة الشرف الأولى عام 1936م وكان الأول على دفعته كما كان أول خريج جامعي يمني بل يعتقد أنه كان أول خريج من جامعة حديثة في الجزيرة العربية. كما حصل على شهادة في التعليم من الجامعة نفسها عام 1937م ثم حصل على دبلوم المعلمين من لندن عام 1948م والدكتوراه في فلسفة الآداب من جامعة لندن عام 1963م عن أطروحته عن شعر الغناء الصنعاني. وعمل في التربية والتعليم بشكل أساسي وتدرج في سلم التعليم حتى صار مديراً للمعارف في عدن وكان المدير هو الرجل الأول في مجال التربية قبل إنشاء الوزارات كما عمل بروفسيراً في جامعة الخرطوم وجامعة صنعاء التي أنهى خدماته فيها عميداً للدراسات العليا ومستشاراً لرئيس الجامعة.وفي عام 1946م نشر ديوانه الأول " على الشاطئ المسحور " وكان قد سبقه إلى نشر أول ديوان في عدن تلميذه خالي رحمه الله علي محمد لقمان الذي نشر ديوانه "الوتر المغمور" عام 1944م والذي يسر له أمر الطبع أن والده المحامي محمد علي لقمان رحمه الله كان صاحب مطبعة فتاة الجزيرة التي نشرت أيضاً ديوان والدي الأول والديوان الأول لأستاذي لطفي جعفر أمان(رحمه الله ") بقايا نغم " عام 1948م. وكان والدي وعلي لقمان قد نشرا كثيراً من قصائدهما التي في ديوانهما على صفحات " فتاة الجزيرة " منذ عام 1940م سنة تأسيس الصحيفة.ونلاحظ افتتان غانم بعدن منذ عنوان الديوان فهو مسحور بشواطئ عدن ويرى أن شاطئ عدن ساحر أو مسحور. وكان عشقه الأكبر لشاطئ صيرة وشاطئ جولدمور الذي كان يحب أن يأخذنا إليهما في طفولتنا للعب على الرمال في صيرة والسباحة في جولدمور. وكان أحياناًَ تحت إلحاحنا يأخذنا إلى حقات فقد كنا مبهورين ببوابته الحجرية أما هو فكان يحب النظر إلى جبل صيرة الذي رسمه بالألوان المائية إذ كان يمارس الرسم وينتمي إلى ناد للرسم كان من أعضائه أستاذي حسين دلمار وعدد من البريطانيين. بل أن شقيقي الدكتور قيس وأنا نفسي رسمنا جبل صيرة بالألوان المائية عندما كنا في المدرسة المتوسطة وكان لنا عشق للرسم قبل أن يصرفنا عنه الاهتمام بالشعر والسفر للدراسة الجامعية ببريطانيا.يقول في قصيدة بعنوان " السر المباح " :آه لو طرت معي فوق عرانين الجبالورأيت الشاطئ المسحور في ضوء الهلالوسمعت الحور ينشدن أناشيد الجماللا تقولي شاعر قد هام في وادي الخيالذاك قلبي سطرت فيه أحاديث الليالي.. وهذا كلام رومانسي فلا عجب أن يقول أستاذنا د. عبد العزيز المقالح إن غانماً كان أول من أدخل الرومانسية في الشعر اليمني. والحقيقة أن غانماً تأثر بالشعر الرومانسي خصوصاً في أجواء الجامعة الأمريكية ببيروت حيث كان سكرتيراً لجمعية العروة الوثقى وحيث نال الجائزة الأولى في المسابقة الشعرية عام 1936م في منافسة مع شعراء عرب أمثال عبد المنعم الرفاعي الذي صار رئيساً للوزراء في الأردن فيما بعد وسعيد العيسى الذي أشرف على الأدب والثقافة في القسم العربي في الإذاعة البريطانية لعقود فيما بعد، وغيرهما. كما حصل غانم على خمس جوائز شعرية أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية من الإذاعة البريطانية في مسابقات سنوية وفاز على كثير من الشعراء العرب ومن اليمنيين على محمد محمود الزبيري واحمد حامد الجوهري رحمهما الله.وصورة الشاطئ المسحور في ضوء الهلال نعود فنرى لها صوراً مقاربة في قصائد أخرى. يقول في قصيدة " الجبل الناطق " :جبل شيد على بحر خضموتعالى يشرف القاع الرحيبايتلقى الموج بالصخر الأصمصامداً لا يرهب الضرب الرهيباجاثم تحت رشاش من لجينصبه البدر عليه من سمائهأي طود لاح في النور لعينيلامعاً مثل الدراري في بهائهجبل في صخره صوت الزمانصارخ يدوي كما تدوي الرعودهز قلبي وشعوري وكيانيوجميع الناس من حولي رقودولا أظن ذلك الجبل إلا جبل " صيرة " التي عشقها غانم فاختار لنفسه اسماً مستعاراً ظل يمهر به قصائده لسنوات وهو " صدى صيرة " فهو يقول عن ذلك الجبل :ناطق في صمته ينطق عني فلصوتي في حناياه رنينوفي الديوان قصيدة بعنوان " أنشودة البدر " تلي القصيدة السابقة مباشرة. ويبدو ان كيمياء جمال صيرة يكتمل تحت سنى الذي يخاطبه الشاعر قائلاً :أنت أضفيت على العالم سحراً من سنائكصار فردوساً وصار الناس فيها كالملائكوكأن الصخرة الجرداء في النور سبائكوالحصى در وهذا الماء ديباج الأرائكأين هاروت ليلقي أرضه تحت سمائك؟!..وهذه القصيدة اختارها الأديب الشاعر البحريني الكبير إبراهيم العريض رحمه الله فكتب عنها في مجلة صوت البحرين ثم وضعها في مختاراته الشعرية الراقية لأفضل القصائد العربية التي كتبت في النصف الأول من القرن العشرين. كما اختارها شقيقي الطبيب الفنان د. نزار غانم فوضع لها لحناً وغناها.ولاشك أن الصخرة الجرداء هي " صيرة " فهي صخرة واحدة كبيرة جرداء ليست مكسوة بالأشجار أو الأعشاب.وأذكر أثناء سنوات دراستي للهندسة في جامعة ابردين باسكوتلندا في مطلع الستينيات أن أحد أهم الألحان الإسكوتلندية وأكثرها انتشاراً على الأقل في تلك الحقبة لحن يعزف على القرب الإسكوتلندية بعنوان " صخور عدن الجرداء ".ويعود غانم إلى هذه الصورة الأثيرة لديه في قصيدته " على الشاطئ المسحور " وهنا يصرح باسم معشوقته " جبل صيرة " تحت البدر :البدر في القبة الزرقاء يأتلقلاغرو يا ليل أن ينتابني الأرقإني كلوف بنور البدر يرسلهعلى البسيطة والنوام قد غرقوافالكوخ كالقصر يبدو للعيون إذا غشاه ذاك السناء الأبيض وهذه " صيرة " في الأفق ماثلة وحولها البحر بالأمواج يصطفقهنا على الشاطئ المسحور قد عملالأذواء من حمير للمجد واستبقواكانوا ملوكاً تهاب الناس دولتهمفلم يجوروا في الحكم بل رفقواويستعرض أمجاد أولئك الملوك ومنها الصهاريج في الطويلة والسدود :قف بي لنشهد أسداداً مرجبةتبنيك عن معشر للفن قد حذقواقد رتبت أي ترتيب فأولهاعال وآخرها بالقاع ملتصقفكلما جاد شمسان الحيا انحدرتمنه السيول إلى الأسداد تندفقتنصب في الأول العالي فتملأهوما يزيد إلى تاليه ينبثقبناء قوم لهم قد كان في سبأفوج عظيم من الأسداد منسقوجنتان أحاطت كل واحدةبجانب فاح فيه نورها العبقهو الذين بنوا غمدان مرتفعاكأنه مارد للسمع يسترقتلك الرجال إذا فاخرت لا نفرمن الصعاليك لابزوا ولا سبقواوهذا البيت الأخير أثار عليه سلاطين الجنوب وحكامه فقاطعوا الديوان لأنهم اعتبروا أن فيه تعريضاً بهم كما أثار غضب الإمام.أما في قصيدة قصة الأمواج فيستعرض الشاعر صفحات من تاريخ اليمن القديم وخصوصاً تاريخ بلقيس وذي نواس وسيف ذي يزن ولكنه مرة أخرى يبدأ تلك المطولة الشعرية من " جبل صيرة " وحوله الموج وجبل شمسان أعلى جبال عدن والذي له أيضاً نصيب وافر في شعر غانم كما سنرى :هذا الهدير يرن في الآذانصوت الدهور وصرخة الأزمانيروي حديث الغابرين مرتلاًمتناسق النبرات والألحانيتنافس الشطان في ترديدهوالمجد رهن تنافس ورهانالله أكبر! حول "صيرة" يلتقيبحران محترمان ملتطمان جاشا بما اضطربت به دنياهمامن قصة موارة الألحانخطرت عليها الحادثات مواكباتمشى الهوينا في ذرا "شمسان"والقصيدة في تصوير المعارك مثال على مقدرة الشاعر الفائقة على السرد والتصوير الديناميكي الذي نراه في كثير من قصائد مثل قصيدة " ابنة الراقصة " التي حصلت على جائزة الشعر ببيروت (وهي بعد نموذج رائع على شعر غانم الإنساني ) ومثل "قصة الجبل" التي يصور فيها فتح الأندلس وهي من قصائد ديوانه الثاني " فوج وصخر" وفي القصيدة يتجلى إيمان غانم بالوحدة اليمنية ويكفي أن نسمعه يخاطب سيف ذي يزن قائلاً :فاجلس على عرش الجدود فإنهعرش القلوب الثابت الأركانبل إن والدي أخبرني في صباي أنه قصد بعبارته " عرش القلوب الثابت الأركان " أن يعبر عن إيمانه بوحدة اليمن وأن الاستعمار البريطاني لابد زائل. ولكن يجب أن نتذكر أن غانماً كان إلى جانب إيمانه والتزامه بدينه كما يتجلى في كثير من قصائده ومنها قصيدة " السر المصون " في هذا الديوان، كان شديد الإيمان بعروبته بل نال جائزة على قصيدته " الوحدة العربية " التي يقول فيها متغنياً بأمل الوحدة :إيه معشوقة الملايين كم تهفو لذكراك في الصدور والقلوبإن يوماُ يعود فيه إلى العرب اتحاد الجدود يوم عجيبيوم يمشي ابن الرافدين ببيروت وصنعاء فلا يقال غريب وإذا كنا قد أنجزنا الوحدة اليمنية فمازلنا نحلم بالوحدة العربية.ونختم هذا المقال بالحديث عن قصيدة دخلت مناهج المدارس في اليمن وكانت قصيدة يحبها الشاعر المبدع الأستاذ لطفي أمان فاختارها ضمن أربع قصائد سجلها بإلقائه المتميز لإذاعة عدن في آخر الخمسينيات من القرن الماضي وهي قصيدة " ليل الإياب" التي يحدث فيها الشاعر الباخرة التي كانت تقله عائداً إلى وطنه، فقد كان السفر في ذلك الزمن في الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات بالباخرة قبل انتشار السفر بالطائرة. وبعد أن يعاتب الشاعر المركب على بطيئه وكأنه بلقيس أو تبع في التبختر البطيء يقول :لك الله يا مركبا في الحضموما زلت تجرى ولا تظلعفها هي تبدو بلاد الحبيبوها هي أنواره تطلعإذا لاح " شمسان " فوق الجبالفيا ويح قلبي ما يصنعفدته الشواهق من شاهقتراه العيون ولا تشبعفلا النيل يمحوه من خاطريولا الهرم الشامخ الأفرعوهل يمحي من صميم الفؤادما يرسم الحب أو يطبعوهذه الصورة سنراها تتكرر في دواوين غانم الأخرى والحقيقة أنني عندما عدت من بريطانيا بعد أن أكملت دراستي عام 1966م كان ذلك على باخرة، وأدركت يومها ماذا كان والدي (رحمه الله) يعني حين قال :إذا لاح " شمسان " فوق الجبالفيا ويح قلبي ما يصنع