مع الاحداث
مشهد تسرب مئات الألوف من غزة إلى مصر بعد هدم الحدود، حمل عدة تفسيرات متناقضة، فهناك من حمل المسألة لحماس وأن الفلسطينيين نفد صبرهم من سياسة حماس القائمة على الحرب دون حساب توازن القوة، وأن حماس كل مرة تعطي إسرائيل ذريعة لتبرر تدمير غزة.ثمة من حمل المسألة لإسرائيل التي تريد توريط مصر، فدفعت بالفلسطينيين في اتجاه الحدود المصرية لأنهم لا يستطيعون الذهاب في اتجاه الجدار العنصري وهدمه لمعرفة أن الجيش الإسرائيلي قذر ولن يتوانى في قتل الجميع كحل نهائي للقضية الفلسطينية.هناك من حمل مصر والحكومات العربية، وأنهم خانعون أمام طغيان وظلم إسرائيل وأمريكا، هذا على مستوى المحللين السياسيين، على مستوى التقارير التي بثتها القنوات الفضائية مع الخارجين من غزة لمصر، هناك من قال: “أريد أن أتنفس”، بمعنى أنه يرى غزة سجنا كبيرا دون أن يحدد من حولها لسجن، آخر أكد أنه يبحث عن الخبز، ثالث يبحث عن الوقود، ومن بقي في غزة قال أحدهم : “ليس لدي مال لأشتري ؛ لهذا لم أخرج» .[c1]أي هذه التحليلات على صواب؟[/c]أعني أرى أن كل هذه الأمور تحتمل الصواب، وأن القضية ليست طغيانا قذرا من إسرائيل فقط ، بل وعدم قراءة الواقع من قبل حماس، وسلبية عربية لقضية بدأت تخبو بعد أن أصبحت إسرائيل العدو الثاني بالنسبة لفتح وحماس.ثمة أمر آخر يفضحه مشهد تدفق 700 ألف فلسطيني عبر الحدود، وإن لم يكن واضحا، فهو يطرح سؤالا ملحا على العرب مفاده: ما هي الأولويات لدى الفلسطينيين؟هل الأولويات تحتم عليهم المحافظة على من في فلسطين الذين أصبحوا يهربون من ضيق الحياة في غزة بغض النظر من المسئول، أم المطالبة بحق عودة اللاجئين؟عندما قال أسوأ رئيس مر على أمريكا بوش: “دفع تعويضات للفلسطينيين المهجرين” ، انتفض ثوار العالم العربي، مع أنني على يقين أنه لو تم الاتفاق على عودة المهجرين، لن يعودوا بالأخص من يسكن في الغرب أو في الخليج، لأن فلسطين أو ما بقي من فلسطين أصبحت مدينة طاردة وليست جاذبة للإنسان، فالصحة والأمن وفرص العمل غير متوفرة فكيف يعود اللاجئ، أو ما الذي يجعله يعود؟من هذا المنظور تصبح مسألة المحافظة على من بقي في فلسطين هي أولى أولويات زعماء فلسطين، ولكي تحافظ عليهم، يجب أن توفر لهم المتطلبات التي يبحث عنها أي إنسان والمتمثلة بـ “الأمن ـ الصحة ـ التعليم ـ فرص العمل”، وبدون هذه الأمور سيهرب المواطن الفلسطيني وسيصبح خياره أن يكون لاجئا أفضل من حياة في مدينة لا توجد بها مقومات الحياة، ولن يفكر أحد في العودة وسيظل الوطن بالنسبة للمهجر أشبه بحنين يؤرقه، لكنه لن يعود.أعرف أن هناك من سيصرخ بالكرامة أو فكرة “الشهادة أو النصر” ، وأنا مع هذا الأمر ، ولكن الواقع يقول: إن لم يكن لديك القوة والسلاح لتجابه ، فأنت تعلن انتحارك.وهذا ما يحدث، أو هذا ما يدفعنا إليه العدو، لأن التاريخ يؤكد أن القضية العادلة تهزم ولا تموت أبدا ما لم ينتحر صاحبها، وأن علينا أن نعلن هزيمتنا ونؤجل حروبنا إلى أن يصبح الداخل قويا.التاريخ يخبرنا أيضا أنه وبعد الحرب العالمية الثانية، أحضر الحلفاء الجنرال الألماني “كاينزل” ليوقع وثيقة الاستسلام، ولم يسمح له بقراءة الوثيقة أو فتحها، ومنع من الجلوس، ووقع وثيقة الاستسلام غير المشروط وهو واقف، وبعد التوقيع طلب منه أن يخرج، في نفس الحرب وقعت اليابان وثيقة أخرى ومذلة بعد هزيمتها، وكانت الفقرة التاسعة في الوثيقة تقول: “تتعهد اليابان بألا تتسلح مطلقا في المستقبل”، أي أنه لا أمل لليابان في أن تفكر يوما ما بالانتقام.اليوم ألمانيا واليابان دخلتا نادي الثمانية، وأصبحتا شركاء مع باقي الدول الست في تسيير العالم، فيما نحن ومنذ ستين عاما، نخرج من هزيمة لندخل هزيمة أخرى، وكل فئة تخون الفئة الأخرى، ولا أحد يملك الشجاعة ليقول: لقد هُزمنا وعلينا أن نوقع وثيقة الاستسلام وإن كانت مذلة، علينا ألا نضلل أنفسنا من جديد، فنحيل الصراع إلى صراع عقدي ستتدخل السماء لحسمه لمصلحتنا.فالصراع بيننا وبين إسرائيل المغتصبة للأرض، صراع معرفي وثقافي وتقني واقتصادي، وما لم نره من هذه الزاوية لن ننتصر، وما لم نعلن هزيمتنا ونكف عن الحروب المعروفة نتائجها قبل أن تبدأ ، لن يتغير شيء.أعرف أن العدو سيحاول حجب المعرفة حتى لا نتطور، وعلينا أن نوجد حلا لهذا الأمر، لا أن ننتحر فتنتحر القضية.[c1] * عن / صحيفة “الشمس” السعودية[/c]