يحظى الأمن الإقليمي للخليج العربي هذه الأيام باهتمامات مكثفة، خاصة من جانب دول مجلس التعاون الخليجي لأسباب كثيرة، من بينها أن هذه الدول باتت تدرك أن هناك خرائط جديدة لتوازن القوى، بعضها عالمي، وبعضها إقليمي، وبعضها خليجي، أخذت تفرض نفسها بقوة على النظام الإقليمي الراهن والمفروض منذ نهاية حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت). من بين هذه الخرائط الجديدة لتوازن القوى، تراجع الثقة العالمية في النظام أحادي القطبية القائم منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو العام 1991، واتجاه قوى عالمية كبرى، خاصة روسيا والصين نحو المطالبة بإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، بما يعني تراجع النفوذ الأميركي العالمي. من بين هذه الخرائط الجديدة ما يحدث في الشرق الأوسط من تنام ملحوظ للدور الإقليمي التركي، ومنها ظهور تيار يزداد قوة داخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للقبول بالحوار مع إيران، بدلا من الصدام معها، بما يعني أمرين: - أولهما، أن إيران ربما تفلت ببرنامجها النووي. - ثانيهما، دمج إيران إقليميا عبر صفقة حوافز مهمة تؤمن شراكة قوية لإيران في إدارة الشؤون الإقليمية، ومنها عدم اليقين في مستقبل الدور الأميركي العسكري في الخليج في ضوء ما يحدث من تطورات سلبية تؤثر بقوة على هذا الدور، خصوصا ما يحدث للأميركيين في العراق، وما يحدث لهم في أفغانستان في ظل العودة القوية لحركة طالبان، ومطالبة قوى أوروبية بالحوار معها حول مستقبل أفغانستان والحرب فيها، ومن هذه التطورات أيضا ما يحدث من مؤثرات في العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، ناهيك عن احتمالات شن إسرائيل حربا ضد إيران. إذا أضفنا إلى ذلك هموم التوترات الداخلية في بعض دول المجلس نتيجة تفاقم مصادر التهديد الداخلية وتأثيرها السلبي على الاستقرار السياسي، لأدركنا مدى عمق الأزمة التي تواجه مجلس التعاون، ولتكشف مدى ضرورة اهتمام هذه الدول بالبحث عن بدائل ومبادرات جديدة لمنظومة الأمن الإقليمي الخليجي. [c1]شراكة مع الناتو [/c]- أولى هذه المبادرات جاءت بتوجه أربع دول خليجية هي الكويت والإمارات وقطر والبحرين نحو حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أجل تأسيس شراكة استراتيجية أمنية، وتم اتخاذ خطوات مهمة في هذا الاتجاه من خلال توقيع الدول الأربع على ما يسمى «مبادرة اسطنبول» العام 2004 التي تعطي للحلف أدواراً مهمة في مجالات التدريب والتسليح والمناورات وغيرها، لكنها أدوار لا تكفي لخلق بديل قوي للدور الأميركي العسكري المباشر في منظومة الأمن الإقليمي الخليجي. هذا التوجه كان له أكثر من معنى، فهو أولاً، يعني التوجه ولو المحدود، نحو ما يسمى «عولمة الأمن» في الخليج، أي جعل مسؤولية الأمن في الخليج مسؤولية عالمية، تشارك فيها أطراف دولية متعددة، بدلا من التركيز على أحادية الدور الأميركي. وهو ثانياً، يحمل إدراكاً لمشاعر عدم الثقة المتزايدة في جدية الالتزامات الأميركية في الدفاع عن الأمن الخليجي. وهو ثالثاً، يعكس انقساما بين دول المجلس بسبب الغياب السعودي والعماني عن هذه الشراكة. - ثاني هذه المبادرات جاء عبر توجه دول مجلس التعاون نحو تركيا كموازن إقليمي موثوق فيه للدور الإيراني في المنطقة، من خلال التوقيع على مذكرة «تفاهم» بين دول المجلس وتركيا، ذات أبعاد اقتصادية وأخرى استراتيجية، لكن ظل السؤال المهم دون إجابة حاسمة وهو: هل تركيا تصلح أن تكون موازناً إقليمياً قادراً على الدفاع عن دول المجلس في مواجهة خطر إيراني تدركه جيداً هذه الدول، ولا ترى أنها، بمفردها، قادرة على مواجهته؟ [c1]قيود الموازن الإقليمي التركي [/c]فعلى الرغم من أهمية ما تتمتع به تركيا من قدرات اقتصادية وعسكرية، وكل ما تحظى به من مكانة لدى الدول العربية والخليجية بصفة خاصة، بعضها تاريخي، والبعض الآخر ديني، باعتبار تركيا دولة سنية لها مكانتها الدينية في العالم الإسلامي، وقادرة على موازنة البعد الطائفي-المذهبي (الشيعي) الإيراني، إلا أنها (تركيا) تواجه قيوداً مهمة يمكن أن تعيق قدرتها على أداء الدور المطلوب منها في الخليج: - أولها أنها، وعلى رغم حرصها الراهن في ظل حكم حزب «العدالة والتنمية» على تطوير وتعميق دورها في الشرق الأوسط (العالم العربي-الإسلامي) إلا أنها مضطرة دائما لأن تعطي الأولوية للاعتبارات الأوروبية، نظراً لأن الأولوية الاستراتيجية التركية، أمس واليوم وغدا، هي الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ولن تكون تركيا مستعدة أبداً للقيام بأدوار قد تتعارض مع متطلبات وشروط الحصول على هذه العضوية. - ثاني هذه القيود أن أولويات تركيا في الشرق الأوسط اقتصادية، وإن كانت تسعى إلى تحقيقها بأدوات سياسية، لكنها سوف تكون حريصة جداً إذا وجدت نفسها مضطرة إلى قبول معادلة «الاقتصاد مقابل الأمن»، نظراً للأعباء الهائلة للقبول بمثل هذه المعادلة، ليس من منظور الدور الأمني فقط، بل من منظور التوازنات السياسية الداخلية في تركيا أيضاً. - ثالث هذه القيود يتعلق بمنظومة التحالفات الإقليمية الجديدة لتركيا. فالمتابع للدور التركي الإقليمي الجديد يجده حريصاً على الارتباط بأربع دوائر هي: الدائرة «الإسرائيلية» من خلال مذكرة تفاهم استراتيجي لها أهميتها واعتبارها لدى القيادة التركية الحالية، والدائرة الإيرانية، والدائرة السورية، ثم الدائرة العراقية. هناك منظومة من التفاهمات الاستراتيجية تربط تركيا مع كل من إيران وسورية، وهناك تداخل بين هذه المنظومة والمصالح المشتركة للدول الثلاث في العراق، وخاصة المسألة الكردية. وربما تعطي مذكرة «الشراكة الاستراتيجية» التي وقعها رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية مع نظيره العراقي نوري المالكي منذ شهرين تقريباً، تأكيدا لهذا الفهم. أما زيارة كل من الرئيس السوري والرئيس الإيراني لتركيا بعد أيام من لقائهما في طهران، والقمة الرباعية بين الرئيس السوري والرئيس الفرنسي والرئيس التركي وأمير قطر في دمشق، فتعطي هي الأخرى توضيحات بأن الدور التركي يعمل إقليمياً ضمن دائرة أوسع والتزامات أوسع ودون انفصال عن التزامات تركيا نحو الاتحاد الأوروبي (حيث تترأس فرنسا الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي). رابع هذه القيود يتعلق في الأساس بالعلاقات التركية-الإيرانية. فما بين تركيا وإيران من مصالح مشتركة لا يسمح لتركيا بأن تكون قوة مناوئة للدور، أو للطموحات الإيرانية في الخليج. هناك مصالح وتشابكات مهمة متعددة بين البلدين، وهناك تقاليد من العلاقات لم تسمح لإيران بأن تستهين بالقوة التركية، على نحو ما تفعل مع دول الخليج، ولم تسمح لتركيا بتجاوز حدود التوازن والثقة مع إيران. هناك معادلة توازن قوى بين البلدين تفرض علاقات تقوم على قاعدة الاحترام المتبادل، وهناك معادلة توازن مصالح تفرض الحرص على استمرار العلاقات. [c1]الحساسية الدينية [/c]وإذا أخذنا في الاعتبار مدى حساسية المسألة الدينية بالنسبة إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، والتي كادت تطيح بالحزب وقيادته، لأدركنا أن تركيا ليس في نيتها الانخراط في حرب طائفية ضد إيران، أو الدخول بقوة في معادلة «الحلف السني» في مواجهة «الهلال الشيعي» كما قد يتصور البعض. كل هذا يؤكد أن تركيا يصعب أن تنخرط في علاقات «عداوة» مع إيران في الخليج، لأن مثل هذه العداوة لن تنحصر في النطاق الضيق للخليج، بل سوف تمتد إلى المدى الأوسع للعلاقات التركية-الإيرانية، وهذا أمر يتعارض كلية مع المصالح الاستراتيجية التركية، وأن أقصى ما يمكن أن تقوم به تركيا في الخليج، من منظور «المسألة الأمنية»، هو أن تكون طرفاً قادراً على دعم خيار التعاون الإقليمي بدلاً من خيار المواجهة الإقليمية. أما ثالث هذه المبادرات وأحدثها، والتي يمكن أن يكون أحد دوافعها إدراك قادة دول المجلس بصعوبة التعويل على الدور التركي وحده لبناء نظام أمن إقليمي جديد، فهي المبادرة التي جاءت على لسان وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الماضي، حيث دعا إلى إقامة «منظمة إقليمية» تضم الدول العربية وتركيا وإيران وإسرائيل. [c1]المبادرة البحرينية والعقبة الإسرائيلية [/c]وفي معرض توضيحه لمضمون فكرة هذه المنظمة قال إن «هذه المنظمة المقترحة يجب أن تتجاوز الأعراف والأديان، فالشرق الأوسط مهد الأديان السماوية كلها تقريبا»، وقال إنه «يتعين على إسرائيل وإيران وتركيا والدول العربية الجلوس معاً في منظمة واحدة. ألسنا جميعاً أعضاء في منظمة اسمها الأمم المتحدة على أساس عالمي؟ فلماذا ليس على أساس إقليمي أيضاً؟». هذه الفكرة ليست جديدة، فهي معروضة منذ سنوات كأحد الخيارات المحتملة للأمن الإقليمي الخليجي، وكانت تطرح من ضمن الدعوة إلى إقامة منتدى أمني للشرق الأوسط، لكن عندما طرحتها بعض مراكز البحوث والدراسات الأميركية، كانت تستبعد إسرائيل، وكانت ترجئ المشاركة الإسرائيلية لحين حل الصراع العربي-الإسرائيلي، وكانت تربط بين هذا المنتدى والأمن الأوروبي عبر مشاركة أوروبية. أما أن تتجاوز هذه المبادرة العقبة الإسرائيلية قبل حل الصراع العربي-الإسرائيلي، فإن ذلك سيجعلها مستحيلة، إن لم يكن لرفض عربي فلحتمية الرفض الإيراني، الذي أكده بالفعل وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي في أول تعليق إيراني عليها: «مع احترامي الكامل لأخي العزيز الشيخ خالد وزير خارجية البحرين، أعتقد أن هذا الاقتراح غير قابل للتنفيذ»، وأضاف: «إن أصدقاءنا البحرينيين يعرفون أين تكمن المشكلة الحقيقية، ولماذا يتعذر مثل هذا الاقتراح»، وأوضح متكي ما يريده بالقول إن بلاده تعتبر إسرائيل «نظاماً غير قانوني وتوسعياً ويمارس الاحتلال، وأن هذا النظام ليس شرعياً ولا جديراً بالثقة». رفض إيراني بديهي، يدركه حتما الوزير البحريني، فلماذا كان الحرص على جعل إسرائيل طرفاً في هذه المنظمة الإقليمية المقترحة؟ هل المطلوب تأسيس المنظمة دون مشاركة إيرانية؟ بوضوح أكثر: هل إيران هي الهدف؟ وهل يمكن أن تكون إسرائيل هي القوة المضافة إلى تركيا لموازنة إيران؟ أسئلة مهمة وضرورية لا يكفي للإجابة عنها ما أوردته وزارة الخارجية البحرينية من نفي لما قيل تعليقاً على مبادرة وزير الخارجية البحريني من أن هدفها هو تطبيع العلاقات مع إسرائيل. الصمت يحمل معنيين: أولهما، إما أن يكون الهدف فعلاً هو إقامة منظمة إقليمية تشارك فيها إيران، باعتبارها قوة خليجية أساسية، مع دول المجلس وتركيا والعراق ودول عربية أخرى لتأسيس أمن إقليمي خليجي حقيقي، وربما بمشاركة أطراف دولية، على نحو ما هو مطروح منذ سنوات. وثانيهما، أن تكون هذه المنظمة هدفها احتواء ومحاصرة إيران وتأسيس نظام أمن إقليمي عماده دول المجلس وتركيا وإسرائيل وأطراف أخرى من بينها بالطبع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فإذا كان المعنى الأول هو الهدف، فإن هذه المبادرة ستكون فتحاً جديداً ومهماً لحل معضلة الأمن الإقليمي الخليجي. أما إذا كان المعنى الثاني هو الهدف، فإنها ستفتح آفاقاً جديدة ليس للصراع فقط، بل وللاستقطاب الإقليمي على قاعدة محوري «الاعتدال» و«الشر» التي تروج لها الولايات المتحدة وتدعمها إسرائيل، الداعية، وعلى لسان وزيرة خارجيتها (المكلفة برئاسة الحكومة) تسيبي ليفني لتأسيس «حلف سني» تشارك فيه لمواجهة «الهلال الشيعي» الذي تقوده إيران. [c1]*عن / صحيفة (أوان) الكويتية [/c]
|
اتجاهات
المبادرة البحرينية.. وخيارات الأمن الإقليمي الخليجي
أخبار متعلقة