شهدت استانبول، العاصمة الثقافية والتجارية لتركيا في المدة من 2 إلى 5 أبريل انعقاد المؤتمر الرابع للحركة العالمية للديمقراطية. وتضم هذه الحركة حوالي ألف من دعاة ونشطاء الديمقراطية في العالم. وقد بدأت الحركة أول مؤتمراتها في مدينة نيودلهي، العاصمة الهندية، عام 1998. وكان مؤتمرها الثاني في مدينة دربان بجنوب أفريقيا، والثالث في سان باولو بالبرازيل. وانعقاد المؤتمر في كل من هذه البلاد هو اعتراف وتنويه بالمكانة التي حققتها على طريق الديمقراطية. ولذلك جاء انعقاد المؤتمر الرابع في تركيا بمثابة اعتراف عالمي شعبي بالإنجاز التركي الديمقراطي. وأهمية ومغزى هذا الاعتراف هو أنه الأول من نوعه لبلد ذات أغلبية مسلمة، ويحكمه حزب ذو خلفية وتوجه "إسلامي" في بلد كان الأول الذي تبنى "العلمانية" في العالم الإسلامي، حينما شبّت الثورة التركية، التي قادها مصطفى كمال أتاتورك، عام 1922، والتي ألغت "الخلافة" العثمانية والإسلامية وأعلنت الجمهورية. وناصبت هذه الجمهورية الناشئة رجال الدين العداء، وقلّصت من دورهم في المجتمع التركي، بما في ذلك إلغاء مواد التربية الدينية من مناهج التعليم العربية في المدارس التركية، والإقلاع عن استخدام الحروف العربية (لغة القرآن) في كتابة اللغة التركية. أي أن الثورة التركية العلمانية حاولت أن تقطع صلة تركيا بجذورها في الحضارة العربية ـ الإسلامية، وتغيّر وجهتها تماماً من الشرق إلى الغرب. ومن ذلك إحلال الحروف اللاتينية مكان الحروف العربية، و"تطهير" اللغة التركية من الكلمات العربية التي دخلتها خلال القرون الخمسة السابقة، أي منذ دخل الأتراك الإسلام، وبنوا إمبراطوريتهم التي شملت معظم البلاد العربية ـ من الجزائر إلى العراق. ومثل كل المشاريع الثورية الجامحة في طموحها، لم ينجح المشروع الثوري الأتاتوركي إلا جزئياً. فقد اختزن المجتمع التركي، وخاصة في أريافه بمنطقة الأناضول (أي الجزء الأكبر من تركيا الأسيوية) موروثاته الدينية، وإن لم يفصح عنها في سنوات الجموح الأتاتوركي، أثناء حياة مصطفى كمال (إلى نهاية الثلاثينات) وخلفائه إلى نهاية الخمسينات. وظل الجيش التركي هو حامي تراث العلمانية الأتاتوركية إلى الوقت الراهن. ولكن الذي حدث منذ الستينات، أي خلال الأربعين سنة الأخيرة فهو العودة التدريجية الصامتة للمجتمع التركي إلى بعض جذوره الإسلامية، وتولد نوع من التهجين بين هذه الجذور وعلمانية جمهورية مصطفى كمال. وشهدت السنوات العشرين الأخيرة ترجمة لهذا التهجين في ظهور أحزاب تركية ـ إسلامية، ارتبطت في البداية باسم المهندس نجم الدين أربكان، وحزب الفضيلة، الذي ظل يرفع من نسبة تمثيله في البرلمان التركي، إلى أن أصبحت له أكثرية ( وليس أغلبية) مكنته من تكوين حكومة ائتلافية في منتصف تسعينات القرن الماضي. وهنا كشّرت القوات المسلحة التركية عن أنيابها ونجحت في خلق ضغوط سياسية وقيود قانونية أدت بنجم الدين أربكان إلى الاستقالة ثم الانزواء من الحياة السياسية التركية. ولكن التيار السياسي ـ الإسلامي في تركيا لم ينزو أو يختف من المسرح. بل العكس تماماً. فالكوادر الشابة التي اكتسبت وعيها السياسي في أحضان حزب الفضيلة وأخواتها، صمدوا ثم ظهروا بعد ذلك في حزب جديد تحت اسم "العدالة والتنمية"، وبدأ الحزب مسيرته هادئاً بخوض الانتخابات البلدية في المدن الصغيرة، ثم المتوسطة، ثم الكبيرة. ومع نجاح مرشحيه في إدارة هذه المدن، واجتثاث الفساد من المحليات (وهو مرض عالمي)، تضاعفت شعبية حزب العدالة والتنمية، حتى أنه حينما خاض الانتخابات البرلمانية في خريف 2002، حاز على الأكثرية (43)، التي مكنته من تأليف الحكومة برئاسة رجب طيب أردخان. افتتح رجب أردخان المؤتمر الرابع للحركة العالمية للديمقراطية. وتخللت الحفل الموسيقي الكلاسيكية الغربية والتركية، وكذلك فواصل من الفنون الأدائية. وكأن أردخان وزملاءه من حزب العدالة والتنمية أرادوا أن ينقلوا من خلال المشاركين من كل أنحاء العالم رسالة واضحة، وهي أنه رغم خلفياتهم الإسلامية إلا أنهم بقدر ما هم ديمقراطيون، فهم أيضاً محبون للفنون والموسيقى، ومنفتحون على العالم. وهذا تحديداً ما جاء في كلمة رئيس الوزراء. فقد أسهب في الإشادة بدور "المجتمع المدني" في تنمية وتطوير الاقتصاد والديمقراطية في تركيا، وكم هو وزملاءه يعتزون بأنهم كانوا نشطاء في ذلك المجتمع المدني. ورغم أنهم الآن في كراسي الحكم والسلطة إلا أنهم سيعودون إن آجلاً أو عاجلاً إلى صفوف المجتمع المدني. أما الأمر الثاني الذي أسهب وأفاض فيه الرئيس رجب طيب أردخان فهو ضرورة الانفتاح على العالم والتفاعل النشط معه، حتى لا يكون المسلمون عالة عليه أو ضحية له. وضرب المثال بتركيا خلال السنوات الخمس الأخيرة (2000-2005) حيث استفادت من "العولمة"، فضاعفت إنتاجها القومي الإجمالي وارتفع متوسط الدخل الفردي الحقيقي (أي بلا تضخم) من 2500 دولار سنوياً إلى 4000 دولار. وقد اندهش عدد كبير من المشاركين في المؤتمر من هذه الإشادة بظاهرة العولمة. فقد تعود من أتوا منهم من العالم الثالث على نقد أو حتى مهاجمة "العولمة" ولكن كان واضحاً من ملاحظات رجب أردخان أنه ينطلق من أرضية عملية (برجماتية) وليس من أرضية أيديولوجية. فهو قد رأى ووثّق المدى الذي استفادت تركيا به من العولمة خلال سنواته في السلطة. كان ضمن من شاركوا في المؤتمرات نساء من أفغانستان، أحداهن هي فوزية كوفي، عضوة منتخبة حديثاً في البرلمان الجديد لأفغانستان. تحدثت عضوة البرلمان عن سنوات حكم طالبان، وهي الحركة التي هيمنت على سلطة الدولة وشئون المجتمع باسم "الإسلام". وقارنت هذه السيدة بين "إسلام طالبان" و "إسلام أردخان"، وشتان ما بينهما من فروق، أشبه بالفرق ما بين الأرض والسماء. حيث لا يوجد بينهما من أي مشترك إلا ادعاء الحكم باسم الإسلام. وبعد أن أسهبت في عرض ما أصاب المجتمع عموماً والنساء خصوصاً من قهر وهوان وإذلال لعل أسوأها هو حرمان المرأة من التعليم والعمل، وحبسها إجبارياً خلف "البردة"، وهي نوع من النقاب الثقيل، وتحريم حركتها خارج المنزل إلا بصحبة أحد الذكور من أقارب الدرجة الأولى (الأب أو الأخ أو الابن أو الزوج)، حتى إذا كانت بالغة وحاصلة على أعلى الدرجات العلمية. لقد كانت أفغانستان بلداً فقيراً متخلفاً قبل استيلاء طالبان على السلطة. ولكنهم ضاعفوا فقرها وتخلفها خلال السنوات العشر التي هيمنوا فيها على مقاليد الأمور. أسوأ من ذلك أن طالبان فتحت أبوابها لتنظيم متطرف يقوده السعودي أسامة بن لادن، ونائبه المصري أيمن الظواهري، وهو المعروف باسم " تنظيم القاعدة" ، والذي أعترف بمسئوليته عن تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001، وراح ضحيته حوالي ثلاثة آلاف شخص من أكثر من ستين دولة، وهز أمريكا والعالم، ثم جلب على أفغانستان الدمار وعلى طالبان نفسها الهلاك. كما أن هذا السلوك الإرهابي البربري شوّه سمعة الإسلام والمسلمين الذين أُخذوا بجريرة هذا الجنون الطالباني. ولعل تجمّع حوالي ألف مشارك في المؤتمر الرابع للحركة العالمية للديمقراطية في استانبول كان ينطوي على شيء من العزاء. فقد رأى المشاركون الذين أتوا من كل قارات الأرض صورة حضارية متقدمة لبلد مسلم يحكمه مسلمون ديمقراطيون. لقد جسّم رجب طيب أردخان نموذجاً مبهراً للمسلم العصري الذي يعتز بجذوره الإسلامية في ريف الأناضول، ولكنه يتطلع إلى أن يكون شريكاً في أوروبا الموحدة، ونداً في عولمة القرن الحادي والعشرين. لقد شعرنا بالفخر لأننا كمصريين وعرب ومسلمين نشترك مع هذا الرجل ومع بلده تركيا في شيء ما، حتى لو كان واهياً. وأخال أن الزميل جورج إسحق، منسق حركة كفاية، والذي شارك هو ومصريون آخرون في نفس المؤتمر قد راودته نفس المشاعر. والله أعلم. مفكر مصري
من طالبان إلى أربكان إلى أردخان
أخبار متعلقة