محمد زكرياكانت ومازالت الحضارة العربية الإسلامية تبهر المستشرقين والمؤرخين الغربيين لكونها نشرت شعاع العلوم والمعارف على كثير من أصقاع أوربا التي كانت في يوم من الأيام تتخبط في دياجير الظلام والجهل . لقد أجمع المستشرقون والمؤرخون الغربيون أنّ ظهور الحضارة الإسلامية كان برداً وسلاماً على الفكر الإنساني ، ومن سماتها أنها لم تكن حضارة بطش ، وعنف ، وجور ، وغطرسة كالحضارة الرومانية القديمة الذي أذاقت شعوب العالم العذاب الغليظ . ومن يطلع عن كثب على الأندلس ( إسبانيا ) قبل الفتح وبعد الفتح سيلفت نظره التقدم والازدهار في مختلف الفنون التي بلغته بلاد الأندلس في عصر الحضارة الإسلامية وكيف ساد في عهدها العدالة ، والرحمة ، والمحبة والسلام ، بعد أنّ كان الظلام يلف حياتها وحياة شعوبها . وكيف شعر سكان الأندلس الأصليون بإنسانيتهم . ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ الحضارة الإسلامية كانت تمتلك مؤسسات ثقافية متنوعة ومن أهمها المكتبات التي انتشرت في ربوع البلدان الإسلامية في طولها وعرضها وارتفاعها ، فإذا شرقت أو غربت في مدنها سيشد انتباهك المكتبات الفخمة والضخمة التي احتوت على عصارة الفكر الإنساني الرائع عبر تاريخها المديد .. ومثلما ازدهرت الحضارة الإسلامية في شتى بقاع العالم بصورة عامة ، ازدهرت كذلك الحضارة اليمنية الإسلامية التي كانت جزءاً لا يتجزأ من نسيجها . ففي عصر الدولة الرسولية التي حكمت اليمن نيفاً ومائتي عام شهدت البلاد في ظلالها أزهى الحياة الثقافية وأروعها . وكان من أبرز مظاهرها المكتبات الإسلامية التي كانت كواكب مضيئة أضاءت ساحة العلم والمعرفة في سماء اليمن الثقافي . [c1]الرسوليون والنهضة الثقافية[/c]والحقيقة أنّ الحضارة اليمنية الإسلامية كان لها نصيب وافر في المكتبات التي كانت منتشرة في كثير من مدارسها الإسلامية حينئذاك ونستطيع أنّ نطلق على تلك المكتبات بمكتبات المساجد والجوامع أو بالأحرى المكتبات الملحقة بالمدارس الإسلامية على تباين مذاهبها الإسلامية . وكان إلى جانب ذلك توجد الكثير من المكتبات السلطانية وهي المكتبات التابعة للسلطان والملك . ولقد ظهر ذلك النوع من المكتبات الملكية أو السلطانية في عصر الدولة الرسولية التي تميزت باهتمام سلاطينها وملوكها وأمرائها بالحياة الثقافية في اليمن بصورة تدعو إلى الإعجاب والتقدير الكبيرين . وهذا ما حدا بمؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع إلى أنّ يصفها ، قائلاً : “ وكان أبرز دول اليمن الحضارية ، وأخلدها ذكراً ، وأبعدها صيتاً ، وأغزرها ثراء ، وأوسعها كرماً وإنفاقاً هي الدولة الرسولية . . . والتي يعتبر عصرها غرة شادخة في مفرق جبين اليمن في عصرها الإسلامي ، ذلك لأن عصرها كان أخصب عصور اليمن ازدهارا بالمعارف المتنوعة ، وأكثرها إشراقاً بالفنون المتعددة ، وأغزرها إنتاجاً بثمرات الأفكار اليانعة في شتى ميادين المعرفة . ويعلل مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع سبب ازدهار العلوم والمعارف في عصر الدولة الرسولية ، قائلاً : “ وما ذاك إلاّ لأن سلاطين وملوك الدولة الرسولية كانوا علماء فاهتموا بنشر العلم في ربوع اليمن على نطاق واسع” . [c1]الرسوليون والأيوبيون[/c]ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إنّ الدولة الرسولية أو بالأحرى ملوكها وسلاطينها الأوائل كانوا امتداداً للدولة الأيوبية في اليمن ( 569 - 626هـ / 1173 - 1228م ) التي حكمت اليمن أكثر من 50عاماً . ومن المعروف أنّ الدولة الأيوبية كانت عاصمتها السياسية القاهرة بمصر ، وكانت مصر في تلك الفترة تموج بتراث ثقافي كبير وضخم ورثته عن الدولة الفاطمية الذي كان عصرها أزهى العصور الثقافية في البلدان الإسلامية. وعلى أية حال فقد تشرب ملوك دولة بني رسول بعادات وتقاليد سلاطين بني أيوب ومنها التقاليد الثقافية ، فنشروا العلوم والمعارف في كل مكان من اليمن الخاضعة لها - على حسب قول مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع - . وكان من الطبيعي أنّ يتمخض عن ذلك اهتمام سلاطين وملوك بني رسول بالحياة الثقافية في اليمن المتمثلة في جلب كبار العلماء ، ونوابغ الفقهاء ، وفطاحل اللغة العربية وفروعها المتنوعة إلى البلاد . وكان من البديهي أنّ تنتشر المكتبات الإسلامية في اليمن في عصر الدولة الرسولية انتشاراً واسعاً فالمكتبات ما هي إلا مرآة تعكس ازدهار الحياة الحضارية في دولة من الدول. والنشاط الثقافي لا يطفو على سطح المجتمع إلاّ عندما تكون الحياة السياسية مستقرة ولذلك السبب فإن الدولة الرسولية كانت الأشمل الأعم في حياتها الطويلة التي حكمت اليمن تتسم بالاستقرار والهدوء السياسي ، وإذا كانت حدث اضطرابات سياسية بسبب انتقال المُلك من ملك إلى آخر بسبب الوفاة ، فإنَ ذلك شيء طبيعي ولكن سرعان ما تعود الأمور إلى إيقاع حياتها الطبيعية . ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ الاستقرار السياسي في الدولة الرسولية كان له أثره الإيجابي على النهضة الثقافية في اليمن . [c1]دكاكين الوراقين [/c]وكيفما كان الأمر ، فإن المكتبات احتلت مساحة كبيرة في أذهان سلاطين وملوك الدولة الرسولية . وهذا السلطان المؤيد داود المتوفي سنة ( 721هـ / 1321م ) ، كانت خزانة مكتبته تحتوي على مائة ألف مجلد ونيف . “ وقد أهديت للملك المؤيد نسخة من كتاب ( الأغاني ) بخط ياقوت المستعصمي ، فأجاز المهدي بمئتي دينار مصري “ . وكان من الطبيعي أنّ ينتج عن عناية السلاطين وملوك الدولة الرسولية بالمكتبات ظهور أدوات الاستعمال المرتبطة بالمكتبة وهي الأوراق ، وكان لظهور الأوراق أنّ زاد من نشاط حركة التأليف ومن انتشار دكاكين الوراقين الذين كان من مهمتهم بيع الكتب ، ونسخها وتجليدها ، ومن المرجح أنّ دكاكين الوراقين كانت منتشرة ومزدهرة في عصر الدولة الرسولية . فمن الطبيعي أنّ يكون هناك ارتباط وثيق بين انتشار المكتبات الإسلامية وانتشار دكاكين أو سوق الوراقين في البلدان الإسلامية ومن بينها اليمن . وهذا ما أكده الدكتور محمد ماهر عندما ذكر أن دكاكين أو أسواق الوراقين كانت منتشرة انتشاراً عريضاً وواسعاً فيها وبعبارة أخرى هناك أرتباط وثيق بين انتشار دكاكين الوراقين أو أسواق الوراقين وازدهار ونشاط الحركة الثقافية في بلد من بلدان العالم الإسلامي “ . . . نجد ذكر أسواق الكتب والوراقين في سورية ومصر ، وبقية أرجاء البلدان الإسلامية “ ومنها اليمن في عصر الدولة الرسولية . ففي “ مصر في عهد الطولونيين ، والإخشيديين سوق عظيم للوراقين تعرض فيها الكتب للبيع “ . [c1]اختراع الورق[/c]وما زاد من انتشار دكاكين أو سوق الوراقين في البلدان الإسلامية هو صناعة الورق حيث أسس له أول مصنع لها في بغداد في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 177هـ / 794م ومن جراء انتشار الورق في تلك البلدان الإسلامية ازدهرت حركة النقل والتدوين والتأليف مما انعكس على انتشار وازدهار المكتبات في البلدان الإسلامية من جهة وظهور طائفة هامة في السلك الثقافي - إنّ صح هذا التعبير - وهم الوراقون الذين كان لهم اليد الطولى في النهضة الثقافية في البلدان الإسلامية . “ وقد استدعى اختراع الورق وانتشار استعماله ظهور طائفة من الناس يشتغلون بالورق والكتابة والكتب، وهؤلاء هم الوراقون الذين لعبوا دوراً مهماً جداً في تاريخ الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية ، ذلك أنّ الوراقين آنذاك كانوا هم الناشرون للكتب يقومون بنسخها وتجليدها وتصحيحها وبيعها وعرضها في الواجهات والاتجار بها” . ومن المرجح أنّ مهنة الوراقين كانت منتشرة في عصر بني رسول نظراً لاهتمامهم بالعلوم والمعرفة ، والتدوين والتسجيل والتأليف.[c1]ملوك بني رسول والتأليف[/c]ومن المحتمل أنّ انتشار استعمال الورق في البلدان الإسلامية ، انتشر كذلك في اليمن في عصر الدولة الرسولية - كما أسلفنا - لقد أشتهر عن سلاطينها وملوكها - كما أسلفنا - حبهم العميق للعلم والتعلم ، واقتناء الكتب في مختلف فنون العلوم الإنسانية بل أنّ بعض ملوكها قاموا بتأليف عدد من المؤلفات . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل بن علي الأكوع : “ . . . كانوا ( يقصد ملوك بني رسول ) علماء لهم مشاركة قوية في كثير من العلوم ، ولبعضهم باع طويل في معرفة علوم لم تكن شائعة ولا معروفة في اليمن آنذاك ،منها معرفة بعض اللغات الأعجمية ، فكان ثمار هذه الثقافة المتعددة المناحي صدور كثير من المؤلفات الغريبة في بابها ، والفريدة في موضوعاتها ، بعضها من تأليفهم قبل توليهم الحكم ، وبعضها الآخر كان يتولى كتابتها بعض أعوانهم نيابة عنهم بعد أنّ يرسموا لهم الفكرة أو الموضوع ويتم ذلك تحت إشرافهم ، كما بين المؤرخ علي بن الحسين الخزرجي المتوفى سنة 812هـ ( 1409م ) - مؤرخ الدولة الرسولية - في ترجمته للسلطان الأشرف إسماعيل بن الأفضل العباس بقوله : “ وذلك أنه - أي الملك الأشرف - كان يضع وضعاً ، ويحد حداً ، ويأمر من يتمه على ذلك الوضع ، ثم يعرضه عليه ، فما ارتضاه أثبته ، وما شذ عن مقصوده حذفه ، وما وجده ناقصاً أتمه “ . [c1]ما أسباب انتشار المكتبات ؟[/c]قلنا سابقاً إنّ سلاطين وملوك الدولة الرسولية اهتموا اهتماماً بالغاً بإنشاء المدارس الإسلامية ولم تمض فترة من الزمن حتى انتشرت المدارس الإسلامية في طول وعرض وارتفاع اليمن ، ولم يقتصر سلاطين وملوك الدولة الرسولية على بناء المدارس الإسلامية وحدهم باليمن فحسب بل زاحمهم في تشييدها الأمراء ، والوجهاء ، وإماؤهم ومواليهم . وهذا ما أكده القاضي إسماعيل بن الأكوع ، قائلاً : “ ولم يقتصر تشييدُ المدارس على ملوك بني رسول ، فحسب ، بل سار على سننهم ، واقتفى أثرَهم أولادُهم ونساؤهم ووزراؤهم وأمراؤهم ومواليهم وإماؤهم وسراة اليمن وأعيانها في عصرهم حتى صار بناء المدارس وتشييدها سمة من سمات دولتهم ، ومظهراً بارزاً من مظاهر حضارتهم “ . ونستطيع القول أنّ المدارس الإسلامية كانت من العوامل الرئيسة في تشييد المكتبات نظراً لأنها تدخل في صميم عمل التدريس فيها .
مكتبه
[c1]المكتبات والأوقاف [/c]ومن الطبيعي أنّ يلحق بالمدرسة الإسلامية مكتبة تختص بالعلوم الدينية وفروعها المختلفة ، وأنّ يكون لتلك المكتبة ميزانية خاصة تصرف عليها من قبل ملوك بني رسول أو بالأحرى تصرف عليها الأموال من قبل من أسسها من الملوك والأمراء ، والعمل على تزويدها بكافة المؤلفات المرتبطة بعلوم الدين وفروعه المتنوعة من جهة و اختيار المُدرسين النوابغ لها من جهة أخرى حتى تؤدي المدرسة رسالتها على أجمل وأكمل وجه وهي نشر العلوم والمعرفة المتنوعة بين الطلاب . ومن يطلع على المدارس الإسلامية سيلفت نظره أنّ مدُرسيها من فطاحل العلوم الدينية ، واللغة العربية وفروعها من نحو ، وبلاغة وما شابه . وهذا أبو علي عبد الرحمن بن عُبيد بن أحمد بن مسعود بن عِليان بن هشام الترخمي ، أحد الفقهاء الذ كان نموذجاً للفقيه الذي غاص في أعماق العلوم الفقهيه واستخرج لآلئها . فقد كان فقيهاً ، ماهراً حاذقاً ، ذكياً درس في المدرسة التاجية بزبيد الذي بناها تاجُ الدين بَدر بن عبد الله المُظفري “ . والجدير بالذكر ولقد أوقف الكثير من سلاطين وملوك الدولة الرسولية ألأوقاف على المدارس الإسلامية التي أسسوها . وهذا الملك المنصور عمر بن علي بن رسول المتوفى سنة ( 647 هـ / 1250م ) مؤسس الدولة الرسولية الذي شيد المدرسة المنصُورية في عدن . وكانت تدرس المذهب الشافعي والمذهب الحنفي ، فأوقف لها الأوقاف الكثيرة في لحج وعدن . وأكبر الظن أنّ أموال الوقف كانت تصرف على خزانة مكتبتها المليئة بكتب الفقه ، والتفسير ، والنحو ، والبلاغة وغيرها .[c1]الرسوليون والعباسيون[/c]والحقيقة أنّ المكتبات الإسلامية في اليمن في حاجة ماسة وشديدة من الباحثين والمؤرخين والمختصين بتاريخ المكتبات في اليمن على إماطة اللثام عنها بصورة مستفيضة وعميقة لكون المكتبات تعد من المؤسسات الإسلامية الهامة التي قامت عليها الحضارة اليمنية الإسلامية في عصر الدولة الرسولية . “ وهذا ما حدا بالمؤرخ الزركلي أنّ يقول في ترجمة الملك المنصور عمر بن علي بن رسول مؤسس الدولة الرسولية في كتابه الأعلام : “ وفي المؤرخين من يُشبه الدولة الرسولية في اليمن بدولة العباسيين في العراق “ . وهذا إنّ دل على شيء فإنه يدل على أنّ اليمن شهدت نهضة ثقافية كبيرة أشبه بالحياة الثقافية التي بزغت في سماء بغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة العالم الإسلامي حينئذ .[c1]الصليحيون والفاطميون[/c]لقد أجمع جمهور المؤرخين والقدامى والمحدثين أنّ الدولة الصليحية كانت امتداداً لنفوذ الدولة الفاطمية في مصر و كانت تدور في فلكها . فقد اقتبست كافة أنظمتها وعاداتها وتقاليدها في مختلف شوؤنها الدينية أو الروحية ، فقد كانت على المذهب الإسماعيلي أو الأمامية المذهب الرسمي للدولة الفاطمية . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : “ فلا جرم إذا صاروا تبعاً لهم يدورون في فلكهم ، ويلتزمون بتعاليمهم ، ويأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم ، ويقلدونهم في شؤونهم كلها إلا لأنهم امتدادُ ُ لنفوذهم في اليمن “ . والذي يهمنا في ذلك الأمر هو أنّ الدولة الفاطمية كانت تولي عناية فائقة بالحياة الثقافية ، وكانت المكتبات الإسلامية في قاهرة المعز عاصمة دولتها تموج بها . وعلى أية حال كان الخلفاء الفاطميون الأغلب الأعم يولون المكتبات عناية خاصة . وهذا الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي كانت لديه مكتبة ضخمة ضمت كافة المصنفات في مختلف العلوم الدينية والفنون الإنسانية ، وكان بمكتبه مرصاد فلكي . و قد أنزل أكثر من 814 مصحفاً لجامع ابن طولون “ وكذلك ترك في وصيته عدداً من الكتب للجامع الأزهر “ . وعندما قبض الناصر صلاح الدين الأيوبي بيده على مقاليد الحكم في مصر . وتوفى آخر الخلفاء الفاطميين الخليفة العاضد سنة ( 567 هـ / 1170م ) أخرج من قصور مكتبته ومكتبة الخلفاء الفاطميين السابقين آلاف الكتب النادرة والنفيسة وباعها بأسعار زهيدة ، وذهبت المؤلفات القيمة هباء منثوراً بعد أن كانت قد ضمت عصارة الفكر الإنساني عبر تاريخه الطويل وبذلك العمل الذي قام به السلطان صلاح الدين المتوفى سنة ( 589 هـ / 1193م ) حرم الحضارة العربية الإسلامية من تلك الكنوز الثقافية الضخمة بصورة خاصة والإنسانية بصفة عامة وكانت تلك من الأخطاء الفادحة في سجله التاريخي . ويبدو أنّ صلاح الدين كان غرضه من ذلك هو إزالة كل معلم أو أثر من آثار الخلافة الفاطمية الإسماعيلية في مصر بصورة خاصة والوطن العربي بصورة عامة . [c1]الصليحيون والمكتبات[/c]وكان من الطبيعي أنّ تحتل الحياة الثقافية مساحة واسعة في تفكير الدولة الصليحية وعلى وجه التحديد المصنفات الخاصة بالمذهب الإسماعيلي أو الاثنا عشرية لغرض نشره في اليمن والعمل على تثبيته في نفوس اليمنيين أو بالأحرى في المناطق الواقعة تحت نفوذها السياسي على سبيل المثال عدن التي كان يحكمها ولاة من قبلها وهم آل زريع الذين كانوا على مذهب الدولة الصليحية نفسه وهو المذهب الإسماعيلي . وعلى الرغم أنّ الدولة الصليحية الإسماعيلية حكمت اليمن قرابة نيف وتسعين عاماً إلاّ أننا لم نعثر على مكتبة من مكتباتها سواء في صنعاء أو في جبلة عاصمتها الثانية في عهد الملك المكرم الصليحي أو في عهد بني زريع في عدن الذين انسلخوا عن الدولة المركزية الصليحية في جبلة في عهد الملكة السيدة اروى الصليحية المتوفاة سنة ( 532 هـ / 1138م ) والذين حكموا إمارة عدن نحو نيف وثلاثين عاماً . ومن المحتمل أنّ المكتبات التي كانت في حوزة سلاطين وملوك ، وأمراء الدولة الصليحية سواء في جبلة أو في عدن أو في المناطق الواقعة في نفوذهم الأشمل الأغلب منها كانت مؤلفات في المذهب الإسماعيلي ، ومن المرجح أنّ تلك المكتبات كانت قاصرة على دعاة المذهب الإسماعيلي للدولة الصليحية فقط ، وربما لم تخلو من مصنفات المذهب السُني. [c1]الحملة الأيوبية على اليمن[/c]وعندما جرد السلطان صلاح الدين الأيوبي حملة عسكرية إلى اليمن بعد وفاة الخليفة الفاطمي العاضد آخر الخلفاء الفاطميين - كما سبق وأنّ أشرنا - بعامين وتحديداً سنة ( 569 هـ / 1174م ) بقيادة أخيه الأكبر توران شاه المتوفى سنة ( 576 هـ / 1181م ) لغرض القضاء على البقية الباقية للنفوذ الفاطمي في اليمن من جهة وإعادت اليمن إلى نفوذ الخلافة العباسية السُنية في بغداد من جهة أخرى. بعد أنّ كانت ردحاً من الزمن تحت السيادة الفاطمية في القاهرة بمصر. وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، بقوله : “ ولا شك في أنّ امتداد نفوذ الفاطميين إلى اليمن كان من بين العوامل التي شجعت صلاح الدين الأيوبي على إرسال جنوده إلى اليمن . . . وكان صلاح الدين يرى في مد نفوذه إلى اليمن تدعيماً لمركزه في مصر بعد أنّ قضى على الدولة الفاطمية ، وأعلن الخطبة للخليفة العباسي كما كان يهمه أنّ يبقى نفوذ مصر في اليمن والحجاز مثلما كان الأمر في عهد الفاطميين “. وكان من البديهي أنّ تلك الحملة الأيوبية الضخمة على اليمن ستعمل على استئصال النفوذ الفاطمي من اليمن . ومن المحتمل أنّ مكتبات دعاة المذهب الإسماعيلي في الدولة الصليحية ، قد تعرضت للخراب والتدمير بصورة كاملة وشاملة من الأيوبيين علماً أنهم حكموا اليمن أكثر من نصف قرن ( 569 - 626 هـ / 1174 - 1226م ) . وكانت تلك الفترة الطويلة للأيوبيين كافية على لطمس كل معلم من معالم الحياة الثقافية للدولة الصليحية الإسماعيلية وكان أهمها مكتباتها التي كانت من البديهي أنّ تضم رفوف مكتبتها على مؤلفات المذهب الإسماعيلي . [c1]عدن وبنو زريع[/c]ومثلما حدث في اليمن مع الصليحيين ، حدث مع بني زريع في عدن فقد دخلها الأيوبيون بقيادة الملك توران شاه في سنة ( 569 هـ / 1174م ) . واغلب الظن أنّ الأيوبيين قد تعمدوا تخريب كل معلم أو أثر ثقافي يمت بصلة بالفاطميين أو بالأحرى كل ما له صلة بمذهبهما أو عقيدتهما الإسماعيلية وكان من البديهي أنّ تكون المكتبات هي المركز الذي تتجمع فيها وعاء الفكر الإسماعيلي أو بالأحرى المذهب الشيعي الإسماعيلي . فكان من الطبيعي وأول من تتجه إليه أنظار الأيوبيين هي المكتبات المتعلقة بالمذهب الإسماعيلي - كما أسلفنا - لحرقها وتدميرها المناهضة للمذهب السُني مذهب الدولة الأيوبية . وهناك أيضاً احتمال آخر حول عدم وجود مكتبات في عدن من الأساس هو أنّ بنو زريع عندما استقلوا بإمارة عدن عن الدولة الصليحية المركزية في جبلة باليمن . اتبعوا سياسة تعمل على أنّ يلتف حولهم أهل عدن الذين كان أغلبهم وإنّ لم يكن كلهم على المذهب السني بل تحديداً على المذهب الشافعي ، فلم يتعصبوا للمذهب الإسماعيلي الذي كانوا يدينون له ، فتركوا الحرية الكاملة لأهل عدن في مزاولة نشاطهم المذهبي السُني ، لغرض كسب ود ، وتعاطف أهلها وبذلك يثبتون أقدامهم في الحكم . وعمدوا كذلك على تشجيع الطرق الصوفية التي كان أهل عدن يقدرون شيوخها ، وكان الكثير منهم من أتباعهم ومريديهم والذين كانوا يمثلون قوة ضاربة لهؤلاء الشيوخ . ويبدو أنّ حكام بني زريع لم يهتموا بتشييد المكتبات الخاصة للمصنفات الإسماعيلية فلم يرغبوا بتشييدها أو التوسع فيها لغرض عدم استفزاز أهلها . فإنهم كانوا يشعرون أنهم نقطة في بحر واسع وعميق من المذهب السُني في عدن. [c1]مكتبة السلطان عامر [/c]شهدت اليمن في عصر الدولة الطاهرية ازدهاراً عريضاً وواسعاً في شتى ميادين الحياة الاقتصادية ، والثقافية وعلى وجه التحديد عدن في عهد السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب المتوفى قتلاً سنة ( 923 هـ / 1517م ) والذي امتد حكمه في اليمن 29عاماً . وفي عهده اتسعت رقعة دولته , وتمكن من القضاء على الثورات والتمردات , والحركات التي أطلت برأسها . وبعد أنّ استقرت الأمور في يده . أخذ يتفرغ باللاهتمام بشؤون التجارة والزراعة ومثلما كان يهتم بهما ، اهتم أيضاً بالحياة الثقافية ، ويقال إنّ السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب كان لديه مكتبة ضخمة وعامرة بشتى الفنون ، والمعارف والمعرفة المختلفة في المقرانة برداع عاصمة دولته . ويقال إنه تشربت نفسه بحب الكتاب من خلال والدته التي كانت سيدة ذات شخصية قوية أثرت عليه تأثير كبيراً ، وكانت مولعة بالكتب ، فغرست فيه بذور الثقافة في نفسه الصغيرة , ويقال إنه عندما شب عن الطوق ، كان يقرض الشعر الجيد . وعندما اعتلى كرسي الحكم ، أرسل الرُسل إلى كثير من البلدان الإسلامية ليجلبوا له الكتب القيمة والنفيسة والمخطوطات النادرة ليزود رفوف مكتبته بها . وكان مجلسه لا يخلو من العلماء ، والفقهاء الكبار ، والكتاب والأدباء والشعراء الفطاحل . [c1]مآثره الثقافية[/c]ويقول الدكتور سيد مصطفى سالم عن مآثر السلطان عامر بن عبد الوهاب في الحياة الثقافية باليمن :“ تميز عهد (السلطان عامر) بالقيام ببعض الأعمال العُمرانية والإصلاحات. . . فقد وجه اهتمامه إلى بناء المدارس والمساجد ووقف الأراضي عليها . . . وعمل السلطان عامر كذلك على تنشيط الحياة الثقافية ، فبالإضافة إلى اهتمامه ببناء المدارس ، وتقريب العلماء إليه ، كان يهتم باقتناء الكتب العلمية النفيسة ، فيرسل مندوبيه إلى العواصم الإسلامية لشراء الجديد أو الثمين من هذه الكتب ، كما كان يأمر بكتابة نسخ منها لوضعها في جامع زبيد حتى تكون تحت تصرف العلماء والفقهاء “ . ويضيف ، قائلاً : “ ولقد كانت (( زبيد )) مركزا علمياً هاماً طوال العصور الإسلامية ، وذلك بالإضافة إلى باقي المراكز الإسلامية الأخرى مثل دمشق ، والقاهرة ، والقيروان “. وفي هذا السياق نفسه يزيد القاضي إسماعيل في توضيح الصورة عن اعمال السلطان ( عامر ) في تشييد المدارس الإسلامية ، وصيانة بعض منها ، والأوقاف الذي أوقف لها حتى تؤدي رسالتها الخيرة بصورة مرضية . قائلاً : “ وله مآثر خيرية أخرى ، منها مدرسة في زبيد ، ومدرسة في تعز ، ووقف عليها أوقافاً واسعة ، وعمر وأصلح ما تشعث من المدارس السابقة ، وكذلك عمارة جامع زبيد الكبير ، والجامع الكبير في المقرانة ، ومسجد القبة بها ، ومسجد بعَدَن ، وآخر بالمباءة بظاهر باب البر ( وهي المعروفة حالياً بدكة الكباش بالمعلا ) . ولقد ذكر الأستاذ عبد الله محيرز في كتابه القيم ( العقبة ) أنّ ( المباه ) قرية بالقرب من باب عدن أو العقبة . كان المسافرون القادمون من المناطق الداخلية من الريف يتجمعون بها استعداداً لدخول مدينة عدن عبر بابها ( العقبة ) . وكان كذلك المغادرون من المدينة يلتقون بها ليسافرون بعدها جماعات . ويقول بامخرمة أنه كان يوجد مسجد خرب ، ويفهم من كلمة خرب أنه لم يستعمل للصلاة وكان بمثابة أطلال ولكنه لم يذكر من بناه وفي أية سنة تم تشييده ؟ . فقام السلطان ( عامر ) “ فجدد عمارته . . . ورتب فيه إماماً ، ومؤذناً ، وخطيباً يخطب بالناس يوم الجمعة ، ونصب به منبراً “ ولكن هذا المسجد اندثر مع المساجد العتيقة التي كانت منتشرة في أحضان عدن. ومن مآثره أيضاً أنه قام بترميم وصيانة المسجد الجامع بتريم في حضرموت . وعلى الجامع المظفر بتعز القديمة تظهر القباب البديعة الشكل والتي تسمى بالقباب العامرية ويعود بناؤها إلى السلطان ( عامر ) وفي الجامع الكبير في إب القديمة والذي يعود بنائه إلى عهد الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وسعه السلطان ( عامر ) .[c1]الهوامش : [/c]محمد ماهِرُ حمادَة ؛ المكتبات في الإسلام ، الطبعة الثانية 1398 هـ - 1978م، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر ، بيروت .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية ، الطبعة الأولى 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر - عدن - الجمهورية اليمنية - .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ المدارس الإسلامية في اليمن ، الطبعة الثانية 1406هـ - 1986م ، مكتبة الجيل الجديد - صنعاء - مؤسسة الرسالة- بيروت-. سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن ، الطبعة الخامسة - نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة - جمهورية مصر العربية .عبد الله أحمد محيرز ؛ العقبة ، سنة الطباعة 1425هـ - 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية - وزارة الثقافة والسياحة - صنعاء - .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي - بيروت - لبنان - .* المباءة : ويعلل أبومخرمة تسميتها : “ فلعل ( المباه ) المباءة بالهمزة والمد من التبوء , ولما كثر استعمال العامة لها خففوها بإزالة الهمزة والمد “ . عبد الله محيرز ، المرجع نفسه ، ص 57 .