أسلوب التمني في شعرنا الشعبي
ربما لأن كل الطرق الموصلة الى هدفي وحلمي قد أصبحت موصدة أمامي او لان الشعور بالعجز واليأس قد توغل في أعماقي واسقط زمام الحاضر والمستقبل من بين يدي وربما لحرصي الشديد على مواصلة الحياة ولو من طرف واحد او لقوة اجهلها تدفعني لذلك وربما لكل الاسباب مجتمعة اجدني محلقاً في سماء التمني والتشوق لذلك الحلم الذي افتقدته ولذلك الهدف الذي تحول بيني وبينه مسافات طويلة وحواجز كبيرة مختزلاً كل المسافات ومحطماً كل العوائق الواقفة أمامي الأمس بيدي ذلك الهدف والتحم بذلك الحلم انسج عالمي خارج دائرة الزمان والواقع.هكذا تعودت ان افعل وتعود الكثيرون مما الجأتهم مثل تلك الاسباب لذلك والشاعر قبل غيره من اكثر الناس امتهاناً للطيران في سماء التمني وافضلهم استخداماً للتمني كأداة تعبيرية ربما لكثرة اخفاقاته في الحياة ولكثرة احلامه ورهافة احساسة غالباً مايجد نفسه مرتمياً بين احضان التمني محاولاً التعبير عن مكنونات نفسه وتقليص مساحة الحزن الممتدة بشراهة في اعماقه بيد ان احساسة المرهف وموهبته الفذة تجعلان من التمني اداة فاعلة لنقل وترجمة انفعالاته واحاسيسه للاخر حيث تستحيل تمنياته وأبياته الشعرية الى صور حسية لها من القوة والحيوية ما يجعلنا نتماهى فيها دون اعتراض او مماطلة وبما يجعلها اقدر على الالتصاق في القلوب قبل الاذهان.محمد عبدالله عصبة /ذمارويتمتع اسلوب التمني كاداة شعرية بحضور واسع وفاعل في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي وحتى زمننا غير انه يبدو اكثر حضوراً وفاعلية عند شعراء الغزل والشعر الغنائي وبالذات لدى اصحاب الاتجاه الوجداني او مايطلق عليهم ( الرومانسيين) ويعود ذلك ربما لرقة مشاعرهم وشدة وجدهم وكثرة اخفاقاتهم في الوصول الى مبتغاهم وبصورة اعم لانشغالهم بالمواضع العاطفية ولسيطرة عواطفهم على اشعارهم وفي اساليب التمني تعبير عن احساس الشاعر بالحسرة على حاضره الراهن وشوقه الى شيء ليس متحققاً في هذا الحاضر واذا ما حاولنا البحث عن اسباب تلك الحسرة وعما كان يفتقدة حاضر اولئك الشعراء فاننا سنجدها متعددة ومتنوعة غير أن اغلبها يعود لمعاناة الفراق والبحث عن الوصال فقد كان ذلك هاجس معظم الشعراء فهذا عمر بن ابي ربيعة يقول على لسان احدى صواحبه:-[c1] تقول إذا أيقنت أني مفارقهاياليتني مت قبل اليوم يا عمرا[/c]انها تفضل الموت على ان لاتنعم بالقرب من حبيبها وعلى نفس المنوال وسعياً وراء الوصال الذي تقف الاعراف والتقاليد دون الحصول عليه ينشد كثير عزه.[c1] الاليتنا ياعز كنا لذي غنىبعيرين نرعى في الخلاء ونغرب كلانا به حر فمن يرنا يقل على حسنها جرباء تعدي واجرب[/c]وفي ذلك تعبير عن مدى التحسر من هذا الحاضر المشبوب بمعاناة الفراق فضلاً عن كونه أداة يسعى من خلالها الشاعر الى تحطيم تلك القيود والثورة عليها او على الاقل التحايل عليها.ويأتي التمني لغرض الهروب من الحاضر الأليم ذلك الحاضر الجاثم على صدر الشاعر فيحاول الشاعر من خلاله التخفيف من حدة الضجر والمعاناة والشعور بالاخفاق لديه كما يعد محاولة للبحث عن السعادة المفقودة وهنا يلجأ الشاعر الى اماني عديدة منها العودة الى الماضي والتشوق لتلك الايام الزاخرة بالطمأنينة والوصال:-[c1] الا ليت اياماً مضين تعودفإن عدن يوماً انني لسعيد[/c]وقد تكون العودة الى زمن ابعد وهو مانجده لدى كثير من الشعراء الذين تمنوا وحنوا الى ايام الطفولة (فانطلقوا الى مراتع الطفولة يعيشون احداثها ويجترون ذكرياتهم الجميلة بين ملاعبها ويفيضون في وصف صورها وجزيئاتها ثم يقارنون بينها وبين حاضرهم الاليم ويتمنون لو تطول بهم طفولتهم الى حياتهم الراهنة). [c1] الاليت الصبا طالت له في الدهر ازمان وليت العمر نقطعة ونحن لديه صبيان[/c]ويشكل الموت عنصر مهم في ظاهرة التمني حيث يأخذ مساحة كبيرة لدى كثير من الشعراء وقد كان الموت احدى الطرق للهروب من اوطأة الواقع والام الحاضر ولقد كان وسيلة لجأ اليها كثير من الشعراء الرومانسيين امثال (التيجاني) وابو القاسم الشابي وهاشم الرفاعي والمازني) وغيرهم.ولايقتصر استخدام اسلوب التمني والافادة منه على الشعر العربي بل انه قد تعدى ذلك الى شعرنا الشعبي الذي سعي هو الاخر للاستفادة من هذه التقنية الشعرية كما هو الشأن مع غيرها من الادوات الشعرية الاخرى فكما تم استثمار الجناس والمقابلة وكذا الاستعارة والتشبيه والكناية والتورية وغير ذلك فقد عمد شاعرنا الشعبي الى توظيف التمني في التعبير عن انفعالاته واحاسيسه عن آماله وطموحاته وإخفاقاته وبصورة مكثفة حتى ان اسلوب التمني غدا ظاهرة تستحق الدرس وتقنية فاعلة ومن يستقرى العديد من القصائد الشعبية يلاحظ حضوراً مكثفا لهذه التقنية وبدرجة ملفته للنظر فضلاً عن وجود براعة فنية لا تقل عنها في الشعر الفصيح بل ان منها مايفوق في شعريته كثير من النصوص الفصيحة والدوافع الواقفة خلف ذلك الحضور الواسع للتمني في شعرنا الشعبي لاتختلف عنها في الشعر العربي فلقد شكل الفراق والوصال الهاجس المهيمن على كثير من تلك الاشعار فراح شاعرنا الشعبي يعبر عن تحسره من فراق حبيبته وطلبه للوصال: [c1] ياليتني فوق الجبل مكينه شناظر المحبوب بيا مدينة من اين اجي لك ياحبيب منينا كل الطرف تزربين علينا[/c]وقد يأتي التمني كوسيلة للهروب من ألم الحاضر واعلان عن عدم القدرة على احتمال المعاناة. [c1] ياليت والله وربي ما خلق لي روحالا حجر صم وسط السايله[/c]فيظهر الشاعر وقد نفد صبره انه لم يعد يحتمل العيش بمشاعره الانسانية بعواطفه واحاسيسه ففضل التخلي عنها عله يرتاح قليلا.كثيرة هي الاشعار الحافلة بالتمني وخاصة الاماني الغريبة التي تعكس حدة المعاناة وصدق التجربة ورهافة الاحساس ولايسعنا المجال لذكرها وتحليلها بصورة تفصيله غير انه يمكننا ان نقول ان اسلوب التمني قد كان اداة فاعلة لدى كثير من شعرائنا الشعبيين تمكنوا من خلالها التعبير عن انفعالاتهم وترجمة احساسات متخمة بالحسرة والخيبة الى الاخر وسنحاول الكشف عن ذلك بصورة اكثر دقة من خلال نموذج لاحد الشعراء لنرى كيف استطاع شاعرنا الشعبي ان يجعل من التمني اداة شعرية تمنح نصوصه شيئاً كبيراً من الشعرية والايحاء وكيف تمكن من تحويل تلك البدائل المنتقاة من الموجودات الى معادل موضوعي يجسد معاناته ويوحي بدلالات جديدة تعكس صدق معاناته وعمق تجربته من جهة وتنقل الينا صوراً من ذلك الواقع الذي عاشه وسيطر عليه من جهة اخرى ولنرى ايضاً كيف تمكن من تجاوز المباشرة او التقليل من حدتها ليخرج بفلسفته الشعبية من دائرة البساطة والسطحية الى مساحة اكثر رحابة وعمقاً متوسلين في ذلك بثلاث ابيات هي مطلع قصيدة ( مطر) للشاعر ( حسن عبدالله الشرفي ) الذي اضناه الفراق وتقطعت به السبل امام تحقيق رغبته في الوصال ولم يعد امامه الا التمني والتشوق: [c1] مطر مطر والضبا بينه تدور مكنهياريت وانا سقيف ياريتنا خدر بدوي كلهن يدخلنه لما يروح الخريف ياريتنا كوز بارد وحدهن يشربنهعلى شويه صعيف [/c]تكشف لنا الثلاثة الابيات عن شدة وجد الشاعر وانفعاله فقد جاء التمني متصدراً النص وليس كما تعودنا في غيره من النصوص التي تستخدم اسلوب التمني في وسط او نهاية النص الشعري فضلاً عن ان التمني قد تكرر ثلاث مرات متتالية وهو مايعكس ويوحي بشدة المعاناة ومدى توغل اليأس والضيق في اعماقه فالشاعر هنا يبدو اكثر انفعالاً واكثر ضجراً وتبرماً من حاضره وايضاً اكثر شوقاً وتلهفاً لوصال محبوبه ومما يعمق احساسنا بذلك ويجعل من التمني يبدو اكثر شعرية وفاعلية استخدامه للمفارقة الدلالية في توليد اماني غريبة تجعل المتلقي يبدو اكثر اندهاشاً وتأثراً فضلاً عن كونها تعكس صدق التجربة وعمقها وتتجلى المفارقة الدلالية في تمني الشاعر بأن يكون ( سقيف- خدر-كوز) وهي اشياء كما نعرف من الجمادات التي سيصبح من خلالها الشاعر فاقداً لانسانيته لاحاسيسه وعواطفه التي من دونها لن يتمكن من التفاعل مع الوصال الذي يرجو ويسعى اليه وهي وان كانت تستدعي الحيرة في ظاهرها الا انها تعكس مدى مهارته الفنية ورهافة احساسه كما انها تفصح عن مدى الانفعال الذي وصل اليه وعن مدى وطأة الفراق والواقع عليه.ولايأتي التمني بمفارقاته الدلالية لكي يفصح لنا عن ذلك وحسب بل انه قد جاء باستخدامه المتميز من قبيل التحايل على تلك القيود والتقاليد الواقفة امام هدف وحلم الشاعر وعلى تلك العيون التي تترصده وتفرض عليه حصاراً يحول بينه وبين محبوباته( الضبا) وهو تحايل ناجح ينم عن عمق نظرته وحضور وعيه من جهة وحده معاناته من جهة اخرى فحين يصبح ( سقيف او كوز او خدر) فإنه سيتمكن من تحقيق رغبته في الوصال دون اعتراض من احد اذ من هو الذي سوف يعترض او يمانع دخول ( الضبا) تلك الاماكن والشرب من الكوز فضلاً عن ذلك فقد كان التحايل رائعا حيث تمكن الشاعر من خلاله الافصاح عن معركة تدور رحاها بين انا الشاعر والاخر المتمثل في العادات والتقاليد والناس الاخر الذي يحول بينه وبين محبوباته.ومما يضفي على التمني شيئاً كبيراً من الشعرية ويجعله اكثر تأثيراً ونفاذاً الى المتلقي هو ذلك الانتقاد المتميز والواعي للمفردات والموجودات التي غدت رموزاً محملة بمشاعر الخوف من الاخر وباصرار شديد على تحقيق رغبة الشاعر في الوصال وكسر تلك القيود الى جانب اختيار السياق المناسب لكل مفردة ففي امنيته الاولى (سقيف) ذلك المكان الواقع اسفل المنزل مدخل البيت يصبح ملاذاً آمناً لمحبوباته ويصبح اول منقذ وحام لها من تلك الاخطار التي تتهددها والمتمثلة في الامطار المتساقطة وفي امنيته الثانية يصبح الحامي الوحيد لمحبوباته من تلك الاخطار المتمثلة في انتشار ( الاخر- الناس)الذين غالباً مايكون انتشارهم في هذا الفصل من (الخريف) اكثر من غيره لانه موسم جني الثمار والمتمثلة ايضاً في كثرة الامطار اما امنيته الاخيرة فإنه يتحول من خلالها الى مصدر للحياة وللسعادة والشعور بالنشوة خاصة وانه قد وصف الكوز ذلك الاناء المحتفظ بالماء البارد.ويتجلى وعي الشاعر بصورة اعمق في ذلك التصاعد الدرامي والانفعالي في الثلاثة الابيات وهو مانجده في اختيار الوقت والذي يسير بصورة تصاعدية تدريجياً من امنيه الى اخرى وهو مايعبر عن اتساع رغبته في الوصال وحدة شوقه ووجده فاذا كان الزمان في امنيته الاولى( سقيف) محصوراً في وقت ضيق قد يستمر لدقائق اوساعات قليلة مدة تساقط الامطار وهو بالطبع وقت اضطراري غالباً مايسوده القلق فإنه أي الوقت يأخذ منحاً اخر في اومنيته ( كوز) وهو مايصرح به الشاعر بقوله ( يشربنه على شويه ضعيف) واكل الضعيف غالباً ما يكون في اوقات تخلو من القلق اوقات طمأنينه وسكون وخلود الى الراحة قد يكون حين المسامرة او القيلولة ويختلف ايضاً عن سابقه في كونه يبدو اكثر اتساعاً.وفي امنيته ( خدر) يصل الوقت الى ذروته كما تصل رغبة الشاعر وانفعاله الى ذروتهما فلم يعد يقنع بدقائق او ساعات وانما راح يطمح الى اكبر من ذلك انه يرغب في ان يدوم الوصال لاكثر من ذلك ولفصل كامل ( خريف) واذا كان سيتمكن من تحقيق رغبته في الوصال من خلال امنيته الاولى للحظات او اكثر قليلاً ومن طرف واحد لم تتفاعل معه محبوباته فإنه في امنيته الثانية ( كوز) سيتمكن من ذلك وبمشاركة محبوباته اذ ان اياديهن ستطوقنه حال امساكهن بالكوز وسيتمكن من لثم شفاههن حال الشرب لينتهي الامر بالتواصل الروحي الناتج عن شرب الماء الموصوف بالبارد اما في امنيته الاخيرة ( خدر) فإنه يبدو وقد استحوذ على محبوباته بشكل كلي فاذا كان في السقيف مهدداً بدخول او خروج أي شخص من المنزل فانه هنا سيضمن لنفسه المزيد من الاستقرار والطمأنينة ومما يجعل الخدر اكثر ملائمة من غيره اضافته الى ( بدوي) ذلك الانسان المعروف بجرأته على القتل وبغيرته الشديد وهو مايضمن عدم اقتراب أي شخص منه فضلاً عن ان عيون الحساد والعذال لن تعيره انتباهاً واهتماماً وذلك لكونه مجرد خدر يتكون من بعض الاعمدة الخشبية وقطع قماش رثة وحين تعرف انه خدر البدوي غالباً مايكون موقعه بعيداً عن التجمعات السكانية وغير مستقر في الاصل فإننا سندرك مدى حرصه الشديد على تهيئة الجو المناسب لتحقيق رغبته كما سندرك مدة شدة وجده وخوفه من الاخر.وبرغم المباشرة التي تسيطر على أبياته الشعرية وعلى معظم قصائد شعرنا الشعبي الا ان الشاعر قد تمكن من التمرد على ذلك نوعاً ما سواء عبر استخدامه للمفارقات الدلالية او عن طريق اختياره وتوظيفه الناجح والمتميز للألفاظ والسياق اللغوي المناسب وكذا انتقائه للموجودات من حوله لتلك البدائل التي مالبثت ان أصبحت رموزاً مشعة توحي بدلالات جديدة تلائم انفعالات الانا وتعبر عنها وتنم عن موهبة متميزة وقدرة عالية في استخدام اللغة وتطويعها واحسب ان في هذا مايشجع على الاهتمام بالشعر الشعبي وايلائه شيء كبير من العناية والدرس كونه لايقل عمقاً وشعرية عن الشعر الفصيح ولكونه يمثل الانسان اليمني ويعبر عن معاناته اكثر من غيره.[c1]الهوامش:[/c]1-الرؤية الرومانسية للمصير الانساني لدى الشاعر العربي الحديث – د/ شوقي ضيف-ص429.2-الادب الاسلامي-د/شوقي ضيف ص351.3-كتاب الاغاني- ابو الفرج الاصبهاني-ص4282-ج12.4-الادب الاسلامي ص366.5-الرؤية الرومانسية ص212.6-م-ن-ص202.7-صحيفة الثقافية العدد 301ص17.8-ديوان (الوان من زهور الحب والبن)ص115.