مرافئ
محمد عمر بحاحغاب عنا احمد الجابري زمناً لو قدرناه بالسنين فانها كثيرة وعاد إلينا وكأنه لم يغب عنا سوى لحظة قصيرة .فارس من فرسان الشعر الغنائي اليمني مازالت كلماته بيننا ولم يترجل، مازال قادراً على الغناء برغم حزنه النبيل.. مازلنا نعيش مع روائعه ومازلنا نتذكر معه الزمن الجميل.. زمن الحياة المزدهرة في عدن.هو من ضمن الفيض الشعري الذي تدفق على عدن في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين الماضي، وواحد من شعراء الأغنية الذين ملأوا الساحة الغنائية اليمنية بشعرهم ونصوصهم البديعة ومايزال.غاب عنا احمد الجابري زمناً لو قدرناه بالسنين فانها كثيرة وعاد إلينا وكأنه لم يغب عنا سوى لحظة قصيرة.فارس من فرسان الشعر الغنائي اليمني مازالت كلماته بيننا ولم يترجل، مازال قادراً على الغناء برغم حزنه النبيل.. مازلنا نعيش مع روائعه ومازلنا نتذكر معه الزمن الجميل.. زمن الحياة المزدهرة في عدن.هو من ضمن الفيض الشعري الذي تدفق على عدن في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين الماضي، وواحد من شعراء الأغنية الذين ملأوا الساحة الغنائية اليمنية بشعرهم ونصوصهم البديعة ومايزال.في أغانيه نجد ذلك الانتقال في الزمان والمكان من البيئة البحرية، وسحر الماء ورمل الساحل والمركب الذي يحمل حبيب الروح في (يا مركب البندر) و(المي والرملة) و(شبكني الحب بسنارة) وكل مفرداتها من البيئة البحرية لمدينة عدن التي لحنها الموسيقار الراحل احمد قاسم الذي غنى له أيضاً أغنية “بصراحة” إلى البيئة البدوية، والعيس التي تحمل العروس إلى بيت عريسها في أغنية (علم سيري) ومنها إلى خضرة الجبال وجمال الطبيعة في (اخضر جهيش مليان) وكلتاهما من الحان وغناء الفنان الكبير محمد مرشد ناجي وكأن الجابري يتعمد ان يطوف بنا في ربوع الوطن، بحره وسهله وجبله، شماله وجنوبه بكل ما يحتويه من تنوع بيئي واجتماعي، وفي العادات والتقاليد واللهجات وألوان الغناء كأنه اراد أن يقول لنا ان هذا التنوع هو ما يثري الوطن وما يمنحه القوة والتجدد، المرشد غنى له ايضاً (يا غارة الله) (لا تخجلي) (يابائعين الصبر) (وها ابوي انا شي لله) وغيرها.كانت تلك هي الفترة الذهبية للأغنية اليمنية التي شهدت تطورها في عدن بدءً من نهاية الأربعينيات وأخذت حلقاتها تتطور خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين الماضي، لتستكمل تألقها خلال عقدي الثمانينات والتسعينيات من القرن نفسه، وكان على عدن بعد أن استوعبت التراث الغنائي اليمني من صنعاني ولحجي وحضرمي ويافعي أن تنطلق في تطوير الأغنية اليمنية بما يحررها من الجمود والرتابة المعهودتين والانطلاق بها إلى آفاق جديدة تستجيب لمقتضيات العصر وحداثة الموسيقى، أغنية تستجيب للابعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ومتطلبات المدينةواحتياجات الغناء المستقبلي.لست الآن بصدد الحديث عن البدايات ومراحل تطور الأغنية اليمنية الحديثة فلذلك مجال آخر، كما أن ذلك صار من الأمور المعروفة لكنني أريد الوصول من هذه الإشارة العابرة إلى أن احمد الجابري في نصوصه الشعرية الغنائية احد الأصوات الشعرية القليلة التي أثرت الغناء اليمني الحديث من خلال عمق التأثير الفني والروحي والوجداني الذي تغلغل في ذلك الغناء من خلال نصوصه ونصوص زملائه من شعراء الأغنية اليمنية الحديثة.[c1]شاعر كل “اللهجات”[/c]والجابري واحد من قلة من شعراء الأغنية اليمنية الذين فتحوا أمام الأغنية أفقاً حداثياً وهو في هذا لا يقل مكانة عن شعراء آخرين كان لهم اسهام عظيم في تطوير الحركة الغنائية اليمنية أمثال لطفي جعفر أمان وعلي محمد لقمان ومحمد سعيد جرادة ومحمد عبده غانم ومصطفى خضر وسواهم.يقول الفنان عصام خليدي “احمد الجابري واحد من أهم الشعراء الغنائيين في اليمن” ويضيف:“لا يمكننا اطلاق صفة شاعر غنائي على أي شاعر، ما لم يمتلك ناصية كتابة النص الغنائي الذي من أهم مميزاته الجرس الموسيقي والإيقاع بالاضافة للصورة الشعرية ، والجابري بهذا المعنى شاعر غنائي بامتياز”.يكشف احمد الجابري في شعره عن شفافية روحه ونضج معرفته وعمق وجدانه، وينتمي في مفرداته وصوره إلى الحداثة الغنائية والتجديد حتى في شعره العامي.ميزة اخرى تميز الجابري كشاعر غنائي وهي قدرته على التعامل والكتابة بكل اللهجات المحلية اليمنية تقريباً بالقدر نفسه من الجودة، انه بارع في مد جسور المفردة المحلية بينها وبين الصورة الشعرية الحديثة.. ان كل أغنية جديدة له تعد مناسبة جيدة ونجاحاً يضاف ليس إلى رصيده الشعري بل إضافة جديدة إلى الأغنية اليمنية وفي هذا يقول عصام خليدي: “احمد الجابري في أعماله وأغانيه المكتوبة بالعديد من اللهجات تحسب بانه ابن لكل بيئة من تلك البيئات واللهجات المتعددة وكأنه خرج من رحم الأرض التي يتعاطى مفرداتها الشعرية.ونجد اصدق دليل على ما يذهب إليه عصام خليدي في اغنية “علم سيري” من الحان وغناء محمد مرشد ناجي المكتوبة باللهجة البدوية لسكان أبين وشبوة من المحافظات الجنوبية، وفي أغنية (ياغارة الله) للفنان نفسه المكتوبة بلهجة أهل صنعاء ، كذلك نجد صدق ما يذهب إليه في اغاني الجابري المكتوبة باللهجة العدنية أمثال يا مركب البندر، والمي والرمله ، وشبكني الحب بسنارة من الحان وغناء الموسيقار الراحل احمد قاسم كما اسلفت، وهذا على سبيل المثال فقط لا الحصر.يمتاز شعر الجابري برهافة الإحساسيس ورقة المشاعر وتدفق الصور وبالثراء اللغوي في مفرداته الشعرية مما يميزه عن غيره من شعراء الأغنية اليمنية الكبار. ويضيف الخليدي: “انه يفاجئنا في كل قصيدة من قصائده بحالة جديدة خاصة أو عامة يترجمها بأدواته الشعرية التي يلامس فيها همومه من ناحية وقضايا وهموم مجتمعه وشعبه من ناحية أخرى”.ولان احمد الجابري اسم شعري له وزنه وتتحول كل أغنية جديدة له إلى أغنية شعرية نفيسة.. واقترن اسمه باقطاب الغناء اليمني الحديث فقد مد جسور التعاون مع القامات الفنية الرفيعة فلحن من كلماته الفنان والملحن الراحل الأستاذ جميل غانم أغنيتين هما “خصامك زاد” و”كلام أحلى من السكر”.أما الفنان الراحل محمد عبده زيدي فلحن له أغنيتين هو الآخر من روائع ما لحنه هما “ماتفتكريش” و”غصب عني”، وكان الزيدي شديد الإعجاب بالشاعر الجابري وبشعره ويرغب في المزيد من التعاون الفني بينهما، لكن شاءت الظروف ان يغادر الجابري إلى خارج الوطن لأسباب معروفة للجميع فانقطع اللقاء والتواصل بين الاثنين.[c1]هجرة وعودة السنونو[/c]الانتقال من مكان تحبه وارتبطت به، وصار جزءاً لا يتجرأ منك ومن ذكريات العمر، ومن تكوينك الثقافي والفني إلى مكان آخر يشكل صدمة نفسية وثقافية وربما حضارية كما يحتاج منك المجتمع الذي انتقلت إليه إلى وقت لكي تدرسه وتتآلف معه وتندمج فيه انه نوع من الاغتراب الذي يصعب على الشاعر الرقيق المشاعر والرفيع الاحاسيس أن يستوعبه بسهولة.ربما كان هذا هو الوضع الذي الف احمد الجابري نفسه يكابده في غربته ان لم نقل في محنته فجأة وجد نفسه بعيداً عن مرابع غناه، عن المحيط الاجتماعي والثقافي الذي يعتبره مكونه، عن الشوارع والازقة التي كانت خطاه فيها وعن مصادر الهامه وعيون شعره، وأكثر من هذا بعيداً عن أحبته وأصدقائه، وعن الجو الغنائي الذي سبح في محيط من مناه على حد تعبير الشاعر محمد سعيد جرادة.وقريباً منه كانت روح أخرى هائمة تعاني مثله الغربة ويبرحها الشوق هو الآخر وجد نفسه في لحظة خارج الوطن، وهو الذي كانت أغانيه تهيم الأرواح كما يمشي الناس في الأسواق استشعر كل منهما الآخر.. ووجد كلاهما في صاحبه شيئاً يجذبه إليه. وكانا كلاهما من الشهرة بحيث لا يجهل الآخر هو شاعر الأغنية الذي طفق شعره الآفاق باصوات اقطاب الغناء اليمني الحديث احمد قاسم ومحمد مرشد ناجي ومحمد عبده زيدي وهو فنان الغناء العاطفي بامتياز وصاحب مدرسة غنائية حديثة وقطب من أقطاب الغناء اليمني الحديث الذي لا يمكن ان يذكر إلا ويكون جزء من تاريخه بل انه يحتل مكانة في القمة من هذا التاريخ ومن يكون غير الفنان الكبير محمد سعد عبدالله.هكذا التقى القطبان في الغربة وربما سأل كل منهما صاحبه عندما التقيا أخيراً لماذا تأخر ذلك حتى الآن أي إلى التسعينات من القرن الماضي لكنهما اقنعا نفسيهما قائلين: “أن يأتي متأخراً خير من الا يأتي ابداً”حمل العمل الأول الذي جمع القمتين احمد الجابري ومحمد سعد عبدالله عنوان (جوال) الذي صار عنواناً لالبومه الذي انتجه بن سعد في مصر مع فرقة مصرية اكوسترالية واستطاع العملاقان أن يقدما عملاً يقومه عصام خليدي بأنه من الناحية الشعرية قيمة لغوية وفنية إضافية إلى شعر الجابري الغنائي، ومن الناحية الموسيقية فانه يشكل تطوراً مهماً وأضحاً ليس في مسيرة الفنان الكبير محمد سعد عبدالله بل في مسار الغناء اليمني، بل أهم حدث فني طرأ على شكل ومضمون الأغنية الحديثة في اليمن”.أما العمل التالي الذي جمع بينهما فقد حمل عنوان (أنت استويت حساس).[c1]اللقاء الحلم..[/c]عقد التسعينيات كان عقد عودة الشاعر احمد الجابري من رحلة اغترابه خارج الوطن كانت قد (جرت تحت الجسر مياه كثيرة) خلال غياب الشاعر الطويلة.. الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي خلال ربع القرن الأخير أدى إلى أوضاع جديدة على مستوى الوطن كله وعلى مستوى عدن حاملة مشروع التجديد والحداثة.وهكذا فان الجابري الذي يعتبر نفسه وشعره جزءاً من هذا المشروع سيجد ضالته في فنان وملحن موهوب صاعد وصاحب مشروع موسيقي وغنائي حداثي هو عصام خليدي فيتم (اللقاء الحلم) بين الشاعر والفنان ويرتبطان بعلاقة إنسانية حميمة سرعان ما يترجمانها إلى أعمال فنية رائعة ومجموعة أغانٍ جديدة هي صباح الخير ياوطني، يا صريع الهوى، ياأرض الخير، أغنية حب، وقصيدة شريط الذكريات، كعادته في كل أعماله وألحانه فان عصام خليدي الذي يملك احساساً عالياً بالكلمة الشعرية التي يتعامل معها وضع لكل أغنية منها لحناً بديعاً يتناسب مع أجوائها وصورها وكلماتها لتكون معبرة عن المعاني والأحاسيس التي أرادها الشاعر، وفي الوقت نفسه دالة على أسلوبه الموسيقي الخاص في التلحين، فهي حافلة بالمقدمات والجمل اللحنية الموسقية الثرية بالاشتغالات الفنية المستندة إلى وعي فني وغنائي، فهو يشتغل على الإيقاع وعلى النقلات الموسيقية من كوبليه إلى آخر وبالأداء ومخارج الحروف و الالفاظ وسلامتها والخاتمة المستقلة موسيقياً ومتناغمة بشكل عام مع مجمل الحانه ، لكن أغنية واحدة من هذه الأغاني الخمس فقط وجدت طريقها إلى المستمع هي (صباح الخير ياوطني) التي سجلت للتلفزيون، والاذاعة ، أما بقية الأغاني فان الموقف السلبي غير المفهوم من وسائل الإعلام (الإذاعة والتلفزيون) حال دون تسجيلها وتوثيقها.[c1]تجربة مختلفة..[/c]تعددت الأصوات التي غنت لاحمد الجابري ولكل ملحن أو فنان تعامل مع شعره فلسفته ورؤيته الخاصة وأسلوبه الموسيقي الخاص به وكل فنان بل كل إنسان يلامس شيئاً في أغانيه والكل يقف مندهشاً أمام تلك السلاسة والشفافية التي تلامس الروح.يبلغ إعجاب الجابري بالفنان أيوب طارش حدوداً لا يمكن وصفها وهو شديد الحماسة لغنائه ولصوته ويكن له تقديراً خاصاً كإنسان وكفنان وإعجابه هذا كان وراء التعاون معه في عدد من الأعمال الغنائية التي لاقت النجاح.والمعروف ان ايوب طارش شكل ثنائياً ناجحاً مع الشاعر الراحل عبدالله عبدالوهاب الفضول ولزمن طويل ارتبطا معاً إلى درجة لا يمكن معها تصور احدهما بدون الآخر.وكان احمد الجابري عندما قرر أن يتعاون مع أيوب طارش واعياً كل الوعي لمدى ذلك الارتباط الفني الطويل بينهما ويخشى ان تكون تجربته معه نسخة مكررة من تجربتهما أو حتى أن يطرأ مثل هذا الانطباع لدى المستمع الذي تعود لعدة عقود على ما بين الاثنين من ارتباط من خلال فيض الأغاني التي غناها أيوب طارش من أشعار الفضول.لكن الجابري بشاعريته المتعددة والمتجددة وبحنكته المشهودة استطاع أن يثري تجربة الفنان أيوب طارش الغنائية وان يضع بصمته الشعرية الخاصة ونفسه الغنائي مما ميز تجربته مع أيوب عن تجربة الفضول .الجابري استطاع عبر النصوص التي قدمها له ان يعيد له مكانته الفنية الرفيعة التي اضطربت إلى حين عقب وفاة ورحيل توأمه عبدالله عبدالوهاب الفضول ويمكن اعتبار آخر أعمال الجابري لأيوب طارش (لمن كل هذه القناديل) نقلة نوعية في مسيرة هذا الفنان الكبير.[c1]لطفي والجابري[/c]بالرغم من التجربة الشعرية الطويلة للجابري وتعامله مع كل المدارس اللحنية في اليمن تقريباً وبرغم ان القمم الغنائية على مستوى الوطن غنت من كلماته أمثال احمد قاسم ومحمد مرشد ناجي ومحمد عبده زيدي ومحمد سعد عبدالله وجميل غانم وأيوب طارش وعصام خليدي فلم يحظ هذا الشاعر الكبير بما يستحق من التقدير ولحق به ظلم فادح وربما ان شخصية الجابري الثرية بالعفة والنزاهة وعزة النفس ومواقفه الواضحة التي لا تقبل المساومة كانت السبب وراء كل ما لحق به من ظلم وما تعرض له من تجاهل مع انه يقف في مقدمة الشعراء الغنائيين في اليمن ويعد احد رواد الغناء التجديدي اليمني بما قدمه من نصوص استطاع من خلالها أن يعزز ذلك الاشتغال الواعي على المفردة المحلية و”العدنية” منها على وجه التحديد بما قدمه من نتاج غنائي جمع بين هذا الاشتغال على هذه المفردة والاشتغال الفني عليها باعطائها القيمة الجمالية والصورة الشعرية التي وصل إلى ذروتها وأبهى تجلياتها جنباً إلى جنب مع الشاعر الكبير الراحل لطفي جعفر أمان مما يدل على عمق تاثيرهما الفني والوجداني والروحي في الأغنية اليمنية الحديثة.