ذكرنا فيما مضى بأن البلدان المتقدمة ووفقاً لرؤيتها لمستقبل اقتصادياتها التي انطلقت فيها من زاوية أن العامل السكاني سيكون له أثر أكبر من أي وقت مضى في خفض تكاليف الإنتاج، ومن ثم فإن الوفر في الأيدي العاملة الرخيصة التي ستمتاز به بلدان جنوب شرق آسيا والصين والهند سيساعد هذه البلدان وغيرها من البلدان النامية ذات الكثافة السكانية العالية ومستوى الدخل المنخفض على اجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات ، والولايات المتحدة معتمدة كلياً على جذب الرأس المال الاجنبي اليها كل سنة ، وهذه الأموال تقترضها الولايات المتحدة من الحكومات الاجنبية والمستثمرين الأجانب ( حيث تجبرهم وبمقابل فوائد ضئيلة على شراء سندات الخزانة الامريكية ).إن هذا النوع من الاستثمار الاجباري مفروض كراهية على دول العالم ، واليابان مثلاً لها سندات بقيمة (840) مليار دولار، أي أن الولايات المتحدة مدينة للدول الاجنبية ولاتستطيع السداد بالكاش في حال تجرأت أحدى أو جميع الدول على بيع تلك السندات.وفي حال انهار الدولار ( وهو أمر وشيك وحتمي ) ستنهار دول واقتصادات كثيرة غير أن ظهور اليورو في أول يناير 2002م هو الذي قلب الموازين على الدولار الذي فقد نحو ( 40 ) من قيمته بعد مرور سنة على ذلك الظهور من ثم فإن أي ظهور للدولارسيؤدي إلى بيع أعداد كبيرة من سندات الخزانة الامريكية في آسيا وأوروبا في إطار دول منظمة الأوبك.إن كل (1) يورو يعادل اليوم (1.27) دولار مع نهاية يوليو 2006م والتوقعات تشير إلى أن كل (1) يورو سيعادل (1.70) دولار في عام 2007م وهذا الضعف المستمر للعملة الامريكية سيؤدي إلى تناقص ملحوظ في أهمية الدولار كعملة لاحتياطي العالم.ومن هنا فإن الاقتصاد الامريكي يعاني من تحديات ومشكلات اقتصادية عديدة أبرزها الضعف المستمر بالثقة بالدولار والذي كان نتاجاً لعجز الخزانة الامريكية ولم يكن في يوم ما نتاجاً مباشراً لانعكاسات النمو السكاني الذي يشهده العالم والذي أفرز ظهور دول جنوب شرق آسيا يكن نتاجاً لظهور اليورو.وقد بلغ عجز الخزانة الامريكية عام 2005م (318.62) مليار دولار وهو رقم مرشح للزيادة بينما بلغ العجز التجاري الامريكي ( 32 ) مليار دولار لعام 2004م مع الصين وحدها ، (16) مليار دولار مع اليابان ( منخفضاً من 23 مليار دولار ).والمحللون يشيرون إلى أن العجز الامريكي سواء في ميزان المدفوعات أو الميزان التجاري منذ عقد السبعينات من القرن الماضي يرجع إلى الأعباء الباهظة لبرامج التسلح وسلسلة الحروب والنزاعات الاقليمية والدولية المباشرة التي خاضتها الولايات المتحدة الامريكية بدءاً من حرب فيتنام.فخسائر حرب فيتنام التي اضطرت الرئيس الامريكي نيكسون لفك ارتباط الدولار بالذهب أدخل الاقتصاد الامريكي مرحلة حرجة من التضخم والكساد غير المعلن بيد أن فك الارتباط أتاح للولايات المتحدة ومنذ ذلك الحين أن تطبع من دون الحاجة لغطاء ذهبي ، فالدولار ووفقاً لاتفاقية بريتون وودز الموقعة بين الحلفاء عام 1944م في مدينة نيو هامشير أصبح عملة التداول الرئيسية الأولى في العالم.وفي محاولة من الولايات المتحدة لوقف الانهيار القادم والحتمي لعملتها أو بالأحرى لتعطيل وتأخير ذلك الانهيار لسنوات عدة قادمة ومع اقتراب ظهور عملة اليورو في أول يناير 2002م دفعت الولايات المتحدة الامريكية بتنظيم القاعدة إلى القيام بضرب برجي التجارة في نيويورك في 11سبتمبر 2001م وهو ما أنقذ الدولار وأخر من التعجيل بانهياره الوشيك بل أن ذلك أعطى الذريعة للولايات المتحدة الامريكية لضرب واحتلال افغانستان ومن ثم العراق.إن ظهور اليورو للوجود هو من أكثر ما كان يعكر مزاج الولايات المتحدة منذ بداية التسعينات والتي كانت سياستها قائمة على شراء النفط بالدولار ، والدولار هو لسد عجز الخزانة الامريكية ولو تخلت دول العالم عن التعامل بالدولار لما تمكنت امريكا من أن تحافظ على إمدادات الذهب الأسود اليها.لذا ومنذ بداية التسعينات أخذت الولايات المتحدة في وضع الخطط والسياسات لامتصاص المضاعفات التي سوف يخلفها ظهور اليورو، وحينما نفذ هوجو شافيز عدداً من الصفقات السلعية بنظام المقايضة مقابل بتروله قامت الولايات المتحدة بالتمويل والتخطيط للانقلاب الذي فشل عليه في 14-12إبريل 2002م أما حينما قرر صدام حسين تسعير البترول باليورو بدلاً من الدولار سارعت الولايات المتحدة الامريكية لاجتياح العراق.ولعل من المرجح أن يتكرر مشهد الاجتياح في إيران بسبب تجرؤها على افتتاح بورصة للنفط باليورو في نهاية آذار 2006م وقد شكل هذا القرار الإيراني الذي تصادف مع قرار مجلس الاحتياطي الفدرالي بالتوقف عن نشر أرقام الكتلة النقدية (M3) التي كان يوفر الشفافية حول تطور كمية الدولار التي يتم التداول بها في العالم وهو ما سيزيد من أزمة ضعف الثقة بالدولار.وعلى هذا السياق وبالاعتماد على التحليل الاقتصادي والسياسي يمكننا استقراء السياسة الامريكية ، ووفقاً لتقرير هنري كيسنجر عام 1975م حول انعكاسات النمو السكاني في العالم على الأمن القومي للولايات المتحدة الامريكية ومصالحها فيما وراء البحار ، والتي سعت من خلالها الولايات المتحدة إلى تحقيق عدد من المعالجات سواء الهادفة منها لمواجهة عجز الخزانة والتدني الوشيك لقيمة الدولار وصولاً لمواجهة آثار وانعكاسات النمو السكاني الذي يشهده العالم على مدى العقود الثلاثة الماضية وذلك من خلال:خلق وزيادة الطلب العالمي على الدولار ، وذلك من خلال:1) إلزام الدول بجعل ودائعها الاحتياطية بالدولار ودفعها إلى شراء سندات الخزانة الامريكية.2) دفع دول العالم لجعل الدولار كعملة للاحتياطات المالية لبنوكها المركزية.3) أن تأخذ دول العالم كافة في تجارتها العامة إلى استخدام الدولار كعملة مدفوعات لصادراتها .4)دفع دول الأوبك إلى التعامل بالدولارفقط كعملة مدفوعات لبترولها.2- فتح أسواق جديدة إضافية أمام السلع والصادرات الامريكية ، من خلال:2-1 تحرير التجارة العالمية من القيود والحواجز الجمركية .2-2 دعوة مختلف البلدان لتبني نظام السوق .2-3 خصخصة المشروعات وتشجيع القطاع الخاص.2-4 رفع الدعم الحكومي وخفض الانفاق على البرامج الاجتماعية ( في مجال الصحة والتعليم ).2-5 تحرير المبادلات وخفض الرسوم الضريبية والجمركية وتشجيع الاستثمارات الخارجية.2-6 تحرير أسعار صرف العملات وتعويم العملة وخفض أسعار الفائدة.2-7 تبني مبادئ الحرية والديمقراطية.3- فتح أبواب الهجرة للعمالة الوافدة للولايات المتحدة وإقامة مناطق للتبادل الحر بهدف:3-1 إيجاد وتوفير وفر في الايدي العاملة الرخيصة.3-2 خفض تكاليف التصنيع.3-3 تعزيز قدرة السلع المنتجة على المنافسة والنفاذ إلى الأسواق الجديدة.أما أوروبا واليابان فقد أخفقتا في تجاوز تحدياتهما بشأن نسبة المواليد ، وكلاهما يحتاجان إلى أكثر من (110) ملايين عامل جديد للحفاظ على نسب الاعتماد الحالية بين العاملين والمتقاعدين ، غير أن ظهور الصين وما تتمتع به من وفر في الأيدي العاملة الرخيصة فاقم من حجم التحديات والاحتياجات لتوفير متطلبات أسواقها من اليد العاملة.لهذا أدركت بلدان أوروبا الغربية مسبقاً ومنذ حقبة الستينات من القرن الماضي من مخاطر انعكاسات النمو السكاني في العالم على مستقبل اقتصادياتها وبصورة مغايرة للتوجهات الامريكية ، لجأ الاوروبيون منذ ذلك الحين نحو الاندماج وعقب تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين توسعت اوروبا نحو الشرق حتى تركيا بحثاً عن توفير أيدي عاملة رخيصة وذلك في إطار محيطها الجغرافي ومن المتوقع أن يصل حجم سكان دول الاتحاد الاوروبي في حال انضمام تركيا المتوقع خلال العشر السنوات القادمة إلى نحو 350 مليون نسمة بحلول عام 2015م.أما الصين فقد اتجهت نحو تنشيط حركة مبادلاتها التجارية مع كافة الأطراف وبخاصة مع أوروبا الموحدة التي ستصبح حدودها الممتدة حتى تركيا على مشارف بحر قزوين وجمهوريات أسيا الوسطى الغنية بالنفط.وفي سبيل تحقيق اهدافها اتجهت الصين لإحياء طريق الحرير القديم الذي كان يربط بين أوروبا والصين تجارياً عبر آلاف السنين من خلال ثلاثة محاور رئيسة له.وفي هذا الجانب تم فعلياً في 7 مايو 1996م الاتفاق بين أربع وثلاثين دولة مجتمعة في بكين على بناء وإحياء طريق الحرير الذي سيقلل من الاعتماد على التجارة الدولية عبر البحار.والمحاور التي سيمر بها الطريق هي :1- الطريق الأول : عبر سكة حديد بين مدينة شنغهاي في شرق الصين وجنوب سيبيريا مروراً بكازاخستان ..... وصولاً لشمال وغرب أوروبا.2- الطريق الأوسط: يربط في كازاخستان وبحر قزوين واذربيجان وجورجيا ليصل إلى البحر الأسود ومن ثم وسط أوروبا عبر بلغاريا ورومانيا والمجر.3- الطريق الجنوبي: ينطلق من مشهد آباد إلى تركمانستان وينحرف صوب إيران متجهاً نحو مشه....د ثم طهران ، ثم تبريز ، إلى تركيا ومن ثم إلى جنوب أوروبا عبر البوسفور ثم يوغسلافيا.واللافت للنظر أن مجموعة رابطة الاسيان ( بلدان جنوب شرق أسيا) قررت في قمة بانكوك في مارس 1996م بناء خط حديدي من سنغافورا إلى تايلاند ، ليلتقي مع طريق الحرير، ولترتبط بذلك ماليزيا مع الصين.ولاشك بأن طريق الحرير الجديد سيعزز من حركة المبادلات الدولية بين الشرق والغرب وفي حال اكتماله سوف يتغير محور العالم وستنشأ أقطاب دولية جديدة ، وهذا مايفسر تكالب الولايات المتحدة الامريكية وسعيها الحثيث ووفقاً لأي مبرر أو سيناريو للوجود أو السيطرة على البلدان الواقعة بالقرب من ذلك الطريق .وعليه يتضح لنا أن حساسية الدولار كعملة تداول رئيسية في العالم إضافة إلى حساسية النفط كمورد للطاقة (قابل للنضوب) كان لهما أثر مباشر في العديد من التحولات والأحداث العالمية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية ، بيد أن السكان كمورد بشري ( غير قابل للنضوب ) هو ما دفع وعجل بحدوث العديد من تلك التحولات والأحداث العالمية التي غيرت من مسار وخارطة العالم ككل.[c1]أنور أحمد عبدالله السويدي[/c]مدير إدارة التخطيط السكانيفي المجلس الوطني للسكان
انعكاسات النمو السكاني في العالم في ما وراء البحار
أخبار متعلقة