( قراءة سيكولوجية في نص روائي )
د . معن عبدالباري قاسمكان للأدب شعر أم نثر دوراً مبكراً في تاريخ تطور المعرفة الإنسانية لوصف السلوك عامة وتحديد سمات وأنماط الشخصية ( سوية أو مضطربة ) ولست هنا بصدد تناول ذلك فهو يحتاج بحد ذاته إلى مبحث خاص نظراً لأهميته من جانب ومن جانب أخر ضغط الوقت واعتبارات أخرى، على أنني سأكتفي في هذا التصدير للموضوع بالإشارة الموجزة جداً لتلك العلاقة بأبعادها العالمية ،الإقليمية واليمنية .[c1]نظرية التحليل العاملي[/c]بحسب نظرية التحليل العاملي لتحديد سمات الشخصية ( وفقاً لمقياس التحليل الإكلينيكي الذي أعده كاتيل ) فأننا نجده يشير إلى أن سمة الاندفاعية ( الحماسة - Impulsivity ) حيث يحقق فيها الباحثون في مجال الفيزياء على درجات أقل من المتوسط في ذلك المقياس- وهذا ما يتوافق وشخصية وجدان - كما لوحظ بوجود علاقة ارتباطيه دالة إحصائية بين هذه السمة ودرجة التكرار التي ينتقل بها الفرد من مسكن إلى مسكن ، كما توجد علاقة موجبة بين هذه السمة وترك المنزل مبكراً .وبقليل من التمادي .. الاسترسال في رسم الصفحة النفسية وبالاستعانة لتفسير الدلالات الإكلينيكية وفقاً لمقياس كاتيل فأنه يمكن تفسير نزوع وجدان الهروبي ( مبكراً في المراهقة ، ثم في فرنسا أثناء الدراسة وحتى عند العودة لاحقاً الى صنعاء ) بأنه ليس كما يعطي في الانطباع الظاهري السردي للرواية من ظله الثقيل جعفر ولكن من ما يسمى بالتحليل النفسي الالتزام القهري ( Compulsivit ) لعقدة الوالدية والتي تؤكده دلالات الحصول على درجات أقل من المتوسط في القياس كما أوضحنا سلفاً والذي شبه بحاله من الانجذاب والتنافر الطارد مركزياً وفقاً للقانون الفيزيائي ( القوة الطاردة المركزية ) فقدر هروبه الى فرنسا (طارد ) يظل منجدبا الى درجه الاستحواذ الهوسي الى موطنه اليمن .وعليه تتولد عند الأشخاص الاعتماديين حالة من العجز المتعلم ( Learned helplessness ) التي وصفها العالم السلوكي الأمريكي بيك ( Beck 1967 ) ووفقاً لمارتن سيليجمان الاختصاصي النفساني الذي أول من درس مختبرياً عجز التعلم بأنها وراء أو على علاقة بتطور السلوك الإحباطي والاكتئابي وإضطرابات سلوكية أخرى (1994) فاننا نجد المؤلف وفق فيما يعرضه لنا تقريبا بسلوك وجدان من مطلع الرواية وحتى نهايتها ويكرر نسخ تلك العلامات ( Symptoms )السلوكية -نحو ذات الفرد وجدان - أو حتى جماعته المحيطة المنتمي اليها والذي صاروا "ً صاردينا في علبة صاردينًً من خلال ما تقدم من عرض لثلاثة اتجاهات- مناهج - لتصنيف الشخصية نأمل أن يكون مساعداً لاحقاً فيما سنوصفه من مقاربة مع نصوص الرواية المطابقة لتلك التشخيصات وشخوص الأبطال الرئيسيين ( وجدان ، جعفر) كما أسلفنا الذكر . وهي من وجهة نظري اقرب الى المغامرة .[c1]شخصية وجدان في النص الجزء الأول ( شارع دغبوس)[/c]- وصف الاكتئاب النفسي لوجدان نجده في مبتدأ الرواية ،من التبعية والانقياد مع الأستاذ نجيب للسفر وحتى تسلم الفيزا ودفع رسومها (ص-8).- (ص 47 ) يظهر لنابوضوح تقمصه لوالده – سطوة النموذج الأبوي في التنشئة وحتى (ص61) محاولة تغير الأدوار ( من إمام مسجد إلى سكرتير منظمة قاعدية ) - (ص 71) صراعه مع الأم وتغير الدور بحالة الصراع الهروبي ( الأم البديلة - سوسن - الحب ) أبيض أبيض حالي عسل والإنضباطية العسكرية في التجنيد ( نمطية الدور الأبوي والتسلط أيضاً ) .[c1]الجزء الثاني (سانت مالو ):[/c]- تظهر شفافية وتعلق الشخصية الوجدانية ( سمات الإعتمادية ) والنموذج الامومي ( حب فيشي أمي الثانية بعد عدن ) . (ص131)- مدح وإشادة زميله السوداني به(ص144 ) ، نمطية سلوك وجدان غير الواثق في مغامرة رأس السنة للرقص مع الجزائرية ( ص 148-149) - ص 154-155 : معاناة الإيثار لافتراش الأرض والنوم عندما أستضاف زميله البجح جعفر ونقده لذاته .- كما أن تجاربه في توطيد العلاقة مع الجنس الأخر – المضحكة واللطيفة والتي كنا قد أشرنا لها بالتفصيل في مقال سابق لنا ( المرأة والجنس في دملان ) دالة من وجهة نظرنا في تثبيت تصورنا لازمة شخصية وجدان . هذا بالإضافة إلى قصة تعلقه ، انجذابه إلى إيزابيل وأخيراً الإبداع الجماعي الإسقاطي على المحبوبة الافتراضية إلكترونيا شهرزاد ، وفي كلى الجزئين كانت ملامح نمطية ذلك الاضطراب السلوكية مكشوفة تماماً - بحسب تحليل فرويد - في إلية الدفاع النفسي المرتبط بالطاقة الجنسية ( اللبيدو ) والمزيحة لأعراض التوتر من خلال التورط بالعادة السرية على حد تحليل كارن هورني .[c1]الجزء الثالث (علبة صردين)[/c]تظهر للعيان تماماً سمات الشخصية الاعتمادية وكذلك الوسواسية على خلفية معاناتها من المحيط به ( جعفر وحرسه ) ويظل الحنين لعدن ( الارتباط المشيمي للأم ) والنمو الأبوي وخضوعية العلاقة الطفولية ظاهرة حتى السطور الأخيرة للرواية ( ص427- 428 ) وتظل تعابير تقليل الذات ، وضعف الثقة بالنفس ومشاعر الإحباط واليأس ورؤية الجزء الفارغ من الكوب ( كما يشبه لمقارنه مفهوم التفاؤل والتشاؤم ) السمه البارزة لشخصية وجدان ومن نماذجه المحبة والمحيطة به والتي يختزلها في القزامه والتحقير حتى السطور الأخيرة من الرواية (ص 460) بعبارة "صاردينا في علبة صاردين "[c1]شخصية جعفر في النص [/c]لم تحظى شخصية جعفر بمثل ما حظت شخصية وجدان من الاهتمام بالوصف وهذا يعكس من وجه نظرنا التحليل لنمط الشخصية لأبن المدينة ( وجدان ) الأقرب إلى نمط حياة المؤلف مقابل نمط شخصية بن الريف وتحديداً القادم من المرتفعات الجبلية الشمالية ( جعفر ) الضيف الثقيل .. المنافس .. المنغص وسبب ضياع الفرص وهجرة واغتراب أبن المدينة ( وجدان ) في كل المحطات التاريخية .. رغم فارق الذكاء .. التفوق في الأداء لصالح وجدان .لست هنا بصدد تناول مسألة الفروق الاثنوجرافية ،رغم أنها مشوقة للبحوث والدراسات وملهمة لفهم الكثير لسيكولوجية ونمو وتطور ديناميكية الشخصية والحياة في البيئة اليمنية وعبر مساراتها التاريخية المختلفة .. إلا أن الكثير من ذلك المخزون التوثيقي والسردي الوقائعي بما تنضح به الرواية حتم علي هنا الإشارة إلية .وإذا عدنا إلى صلب موضوعنا وتحديداً مقاربة سمات شخصية جعفر من نصوص الرواية مع تقديمنا كما أسلفنا لتصنيف الشخصية اعلاه فاننا نلخصه بالتالي : [c1]الجزء الأول ( شارع دغبوس )[/c]أن جعفر وبطفالة سلوكية ( عدوانية صبيانية غير مدركة - لا واعية ) وراء كارثة وصدمة وجدان النفسية في علاقة مع سوسن وافتضاح أمره أمام أمه .ولهذا نجد أن دوافعه كما أوضحها المؤلف بموقفه تجاه وجدان وسوسن هي الغيرة و الفتنة وبطريقة تدل على عدم الاهتمام بضحاياه، وعلى اللامبالاة ( ص 109 ) .[c1]الجز الثاني ( سان مالو )[/c]- (ص 127-128 ): نجد بذائة الألفاظ وفرض الذات على الآخرين عند جعفر.-( ص 152-153) : عجز جعفر وأنانية المفرطة ولا مبالاته للنوم والاستمتاع بغرفة وجدان وحاجياته والتعدي على خصوصيته .- علاقته مع الجنس الآخر وعدم احترامهن والكذب عليهن والتعامل معهن بالشك ،الغش والخداع (كما مع صديقته الروسية ) [c1]الجزء الثالث (علبة صا ردين)[/c]تظهر أكثر علامات الاضطراب السلوكي لشخصية جعفر البرانويا والمضادة للمجتمع والتي تمثل حالة الوهم والخداع في الوصايا العشر: جوع كلبك يتبعك ، من قات غيرك كل وأنجع، أنا ومن بعدي الطوفان (ص 388 - 389) وهي تعكس فيما تعكسه هذه المميزات كنتيجة حتمية لعملية التنشئة القاسية التي مر بها جعفر والتي كانت وراء ذلك النمط من سلوكه ، حيث أعطى المؤلف وصف نقدي صريح لطبيعة منشأ جعفر ( أكثر ما أذهلني هو أنه- أي جعفر - كان يختلف تماماً عن الشباب القادمين نحو عدن هرباً من الفقر والتخلف والمرض والشيوخ وسجونهم الخاصة ، ومن كل بؤس تلك المناطق التي مازالت تتخثر في زمن يشبه زمن ما قبل التاريخ .) (ص 78 - 79).[c1]خلاصة [/c]من الأجزاء الثلاثة لرواية دملان والتى تسرد لنا بأسلوب أدبي وصفي وتحليلي شيق لثلاث مراحل نمائية في ديناميكية شخصية بطلي الرواية (وجدان وجعفر ) والتى نوجزها على النحو التالي :[c1]ملخص الجزء الأول (شارع دغبوس)[/c]نستمتع بمتابعة سيرة الطفولة والمراهقة والرشد المبكر لكل من ( وجدان) ابن المدينة المدلل المتشبع بالرعاية الوالدية المفرطة , شديد الحساسية والرهافة والمتفوق دراسيا واجتماعيا مصارعا من اجل التحرر من التبعية الاسرية الامومية مقابل جعفر ابن الريف المهاجر الى المدينة رمز الانسحاق والمعاناة لشتى صنوف سؤ المعاملة والحرمان للرعاية الوالدية , وبالتالي لامبالي , طفيلي , مهمل ومتأخر دراسيا , يصارع للتعويض عن إثبات الذات انتقاما من القهر والإذلال الأسرى تحديداً والمجتمعي عموما.[c1]ملخص الجزء الثاني (سانتا بالو)[/c]الشباب والاغتراب للدراسة في الخارج ( فرنسا) وهي محاولة تحليلية مبدعة لمماهة واقعية شخوص الرواية التى نتعرف من خلالها عن طبيعة الشخصيتين ، وانطلاقة غرائزهما في بيئة غربية صناعية متطورة تقل فيها المحرمات وتتزايد فرص التسامح بقدر اكبر لتحقيق الذات الإنسانية في علاقتها مع محيطها – بالمقارنة مع واقعنا شديد المحافظة - وتعتبر هذا المرحلة محك لمصداقية توفر الأدلة للمعطيات السلوكية لدى بطلي الرواية بناء على دلالات خلفية التنشئة لكليهما , حيت يكون وجدان رمز الاجتهاد والمثابرة الممتلئ بنكران الذات في كل المستويات عاطفيا وأخلاقيا ومعرفيا، وعلى النقيض منه جعفر المتقاعس ، المستهتر والمنغمس بإفراط في حب الذات وعلى كل المستويات أيضا .[c1]ملخص الجزء الثالث (صاردين) [/c] يقدم لنا المؤلف الصورة النهائية لحصيلة المسار التاريخي لنمائية الشخصيتين واين يقف كل منهما في خاتمة مسيرته الحياتية ( حتى مرحله الكهولة) .حيت نجد وجدان العالم في حقل الكمبيوتر , اصبح مغتربا عن بيئته لكنه مع ذلك لم يجد علاجا لعقدة طفولته بسب ربما من اخلاصة الأسرى الوالدي ... وهذا في رأينا حجر الزاوية في أزمة الشخصية الاعتمادية وشعورها الدائم بالتذمر والإحباط وفقدان البصيرة ... والتي تكون وراء سؤ استغلالها وزيادة معاناتها وشعورها بالاعتمادية .بالمقابل جعفر ... الشخصية التي حفزتها روح الانتقامية –بسبب الحرمان والنقص - ومدتها بطاقة صراع وتكيف عالي الاستيعاب لفهم البيئة المحيطة والسيطرة عليها – وفقا لقانون الانتخاب الطبيعي- بل واستغلالها وتوجيهها في خدمة مآربها الذاتية فقط ( كما توجزها الوصايا العشر المفضلة لدى جعفر).خلاصة رسم الصفحة النفسية التشخيصية لبطلي الرواية تخبرنا بان هناك شخصيتين رئيسيتين في بيئتنا اليمنية هي الشخصية القسرية- الاتكالية(وجدان- ابن المدينة) والشخصية شبه الفصامية - المضادة للمجتمع اوماتعرف ايضا بالسيكوباتي( جعفر- ابن الريف)ترى الى أي مدى كان هذا الاستخلاص موفقا والى أي مدى تتحدد دقته ؟ ربما تكون هذه واحدة من التحديات التي تنتصب امام الاختصاصيين في حقل العلوم السلوكية (علم نفس ، طب نفسي وعصبي ) للتعرف مستقبلا على الخارطة النفسية للشخصية اليمنية.