قصة قصيرة
لقيته صدفة وهي عائدة من رحلتها التي تعودت أن تقوم بها مرة كل عام.. ترددت طويلاً قبل أن تستوقفه وتمد إليه يدها مصافحة، وهي تقول : “صباح الخير يا سيدي.. هل تذكرني؟” تطلع الرجل إلى وجه الفتاة التي اعترضت طريقه فجأة، كانت فتاة جميلة في الرابعة والعشرين من عمرها ترتدي ملابس الحداد، وتكسو وجهها مسحة من الحزن.. حاول أن يتذكر، وأسعفته ذاكرته، فصاح يناديها باسمها.. نعم إنها هي.. ابنة صديقه العزيز الذي تركها ورحل وهي طفلة لم تبلغ عامها الحادي عشر.. قابلها بعد ذلك عدة مرات، وكانت ترتدي نفس الثوب.. ثوب الحداد الأسود، وهي في طريقها إلى المدرسة أو وهي عائدة إلى البيت في المساء.. وفجأة اختفت ولم يرها.. أتمت تعليمها الثانوي، ودخلت الجامعة.. ثم ها هو يلتقي بها مرة أخرى بعد غيبة دامت خمس سنوات أو يزيد.شد على يدها بحرارة، وقال وهو يربت على كتفها : “ كيف حال والدتك وإخوتك يا ابنتي؟”.قالت وهي تخرج منديلها الصغير لتجفف به دموعها :“ رحلت أمنا يا سيدي.. ماتت منذ ثلاث سنوات وأنا مازلت طالبة في الجامعة، ونحن اليوم نعيش مع جدتنا العجوز!قاست أمنا المسكينة كثيراً لكي توفر لنا حياة كريمة بعد وفاة والدنا، حتى اشتدت عليها وطأة المرض، وعجز الطب عن علاجها.. كنت أتمنى أن يمتد بها العمر قليلاً لتراني بعد أن أكملت تعليمي وتخرجت في الجامعة.. كنت أتمنى أن يأتي اليوم الذي أحصل فيه على مرتب من وظيفتي الجديدة لأضعه بين يديها، وأقول لها : “تستطيعين الآن أن تنامي وتستريحي يا أمي، فقد كبرت، وتعلمت وأصبحت قادرة على أن أتولى مهمة الانفاق عليك وعلى إخوتي الصغار.. ولكنها رحلت وهي أكثر ما تكون لهفة علينا وقلقاً على مصيرنا”.قال الرجل محاولاً أن يهون عليها : “تأكدي يا صغيرتي أنها قد أحست بالراحة اليوم وهي ترقد في ضريحها رقدتها الأبدية.. إن الموتى لا يفارقوننا، فهم يعيشون معنا بأرواحهم!وصافحها مودعاً، وهو يعدها بزيارتها هي وإخوتها في بيت جدتهم، ويرجوها بحق الصداقة التي كانت تربط بينه وبين والدها ألا تتردد في الاتصال به إذا أعوزتها الحاجة في أي من الأيام! وافترقا..ذهبت الفتاة إلى مكتبها في الشركة التي التحقت للعمل بها منذ أكثر من عامين.. حتى إذا انتهى اليوم، عادت إلى البيت حيث تجد إخوتها وجدتها العجوز في انتظارها، كما تعودوا أن يفعلوا كل مساء.. انهمكت في عملها في المطبخ لتعد طعام العشاء وطعام الغداء لليوم التالي، ثم ما لبثت أن جلست، وجلسوا من حولها على المائدة.. راحت تستمع إلى قصصهم ومغامراتهم مع زملائهم في المدرسة، وتعاونهم على تأدية واجباتهم المدرسية، إلى أن استبد بها التعب في النهاية.. فذهبت إلى غرفتها لتنام.ولكنها لم تنم.. لم يغمض لها جفن في تلك الليلة.. لقد وجدت نفسها بالرغم منها تعيش ذكريات تلك الأعوام القاسية المريرة التي كافحت فيها أمهم المسكينة وبذلت كل ما تملك من جهد ومال في سبيل رعايتهم بعد أن ذهب الأب والراعي وتركهم وحيدين في هذه الدنيا، بلا مال يقتاتون به.شاءت الأقدار أن تمد لها يد العون في مواجهة الحياة وأعبائها ومسؤولياتها.. ولكنها وقفت حائرة لا تدري ماذا تفعل وهي ترى اليد الممدودة أمامها.. هل تتعلق بها وتترك القارب الذي مضت الأمواج تلاطمه وتعصف به، أم تبقى فيه حتى تهدأ العاصفة ويعود البحر إلى صفائه وسكونه؟!حملت حيرتها وذهبت تطرق باب بيت صديق والدها الذي لقيته في الطريق وهي عائدة من زيارة قبر أمها!.. استقبلها مرحبا، ودعاها إلى الجلوس، وقالت :“جئتك في أمر مهم يتصل بمصيري ومستقبلي ومستقبل إخوتي الصغار.. لقد تقدم شاب إلى جدتي يطلب يدي، وأنا في حيرة لا أدري ماذا أفعل؟ إن أمامي مسؤولية رعاية إخوتي والإنفاق على تعليمهم، وأخشى ما أخشاه أن يطلب مني زوجي أن أترك وظيفتي لأتفرغ لبيتي وحياتي الجديدة معه!”... إنهم اليوم إخوتي الذين أرعاهم، وغداً سيكونون أبنائي.. وأخشى أن يحدث ما حدث لأمي المسكينة.. عاشت وعشنا معها حياة قاسية.. كانت تحترق لكي تهب لنا الحياة.. وكنا نبكي ونحن نرى شمعتها تذبل وتنطفئ.. لا أريد أن تتكرر مأساة أمي معي!”.وأنصت الرجل في اهتمام إلى حديث الفتاة التي تخشى الترمل وتخشى الحياة وهي التي كانت تنتظر هذا اليوم الذي يرقص له قلب كل فتاة طرباً.. وفجأة قال يسألها :“ هل صارحت خطيبك يا ابنتي بهذه المخاوف؟قالت : “لا!”.قال : “أذهبي إليه وصارحيه، وأروي له قصة حياتك مع إخوتك وأمكم، بعد رحيل والدكم!”.وفعلت.. ومر يومان، وعادت إليه، ولم تكن وحدها.. كان معها خطيبها.. وتكلم الشاب، قال :“ إن إخوتها هم إخوتي، وأسرتها هي أسرتي.. كل ما أطلبه هو أن يقبلوني فرداً جديداً في هذه الأسرة.. ولن أطلب إلى زوجتي أن تترك عملها.. سوف أقف بجانبها وأشجعها.. ولن أنسى أن أعلمها كيف تعيش من بعدي حياة كريمة ناجحة!”.ونظر الرجلان إلى وجهها الحزين.. فوجداه قد أشرق بابتسامة حلوة.. مليئة بالحب والأمل والحياة!